في المقطع الساحر من اوبريت (رحلة نغم) الذي تحول لنشيد طرابلس يذكرنا بأجمل ما فيها يقول: "يا ام السرايا***والشط والهاني"   وفي الحقيقة يمكننا فهم الكثير عن طرابلس من خلال هذه الكلمات.. فهي توضح برمزية خاطفة حدودها الاقليمية إذ يا ام السرايا: هي حدود البحر، والشـط: هو ساحل المنشية، أما الهاني: فهو السور الفاصل..

وحكاية هذا السور هي حكاية طرابلس فهو الإطار التاريخي الذي توسعت داخله أحياء المنشية واندمجت لتصير كُلا متمازجا فلا انفصام بين أهل ولا مواقع جادة سيشيليا والظهرة وزاوية الدهماني وفشلوم والهاني وبوهريدة وشارع الزاوية وطريق السور..الذي تنتهي عنده طرابلس القديمة لتستقبل بعدها بلدة العزيزية من باب لم يعد موجودا لكن معمر القذافي اكد شهرته واعاد له تسميته (باب العزيزية)..

ولنعود للسور وتأثيره العظيم .. فقد عمد المستوطنون الاوروبيين من اغريق ورومان وبيزنطيين واسبان وآخرهم الطليان إلى تحصين المدينة من جهة البر فتطاولوا في بناء السور من ناحية الساحل والذي عرف بين السكان باسم الكردون..أما المستوطنون القادمون من خارج المدينة من امازيغ وعرب وأفارقة خشوا الاعداء من ناحية البحر.. فحصنوا اسوار القلعة الخالدة.. ومن هنا اكتسب السكان على مر العهود أمورا في غاية الأهمية: ألفوا الحكومة المركزية، تعودوا على حياة المدينة، تخلصوا من (تحرر) البداوة. 

فصاروا اكتر ليونة بعكس اهل المدينة القاطنين خارج السور..فقد كان مشايخ المنشية والساحل قبل السور يثورون على الباشا في السرايا ويدنسون بجلبتهم حـرم المدينة القديمة!! 

ولكن وحتى عهد قريب تحديدا سنة 1916ضمّ الطليان المدينة داخل السور ليتم بعد ذلك تمدينها وطلينتها بصورة منظمة حتى لا تتعاود معركة الهاني مجددا، فصارت المقاومة الطرابلسية سلمية بعدما كانت عسكرية،  صحيح انه صمت صوت الرصاص حينها  لكن لم تنطفئ جذوة المقاومة  فهي فقط غيرت اسلوبها ووسائلها واعتمدت لمقاومتها اشياء مثل : متابعة اخبار الجبهات، صياغة المناشير والكتابة على الحوائط، تحركات مدنية بجمعيات سرية واحزاب. مساعادت وتأهب.. وهكذا تشكلت طرابلس الحديثة التي دائما يأتي لـ(تحريرها) الاخرين جهـــلاً بطبيعة أهلها وعاداتهم.. فقد فصل السور سكان المدينة جسديا لكن ليس وجدانيا فقد سخّر اهلها فرص التعلم والتمدن داخل السور للوصول لغايات وطنية على الدوام، واليوم لم يبق من السور غير أثره المادي كما في الصورة ..ولكنه معنويا لا يزال حاضرا وبشدة، نراه  : في اللين ونعومة المدنية والكلمات الجميلة المتبادلة بين سكانها كذلك عدم الميل للمقاومة المسلحة بشكلها التقليدي الذي ذكرنا سابقا، والتعود على الحكم المركزي، وانسلاخ السكان عن القبلية، وجلسات المقاهي ومحلات (الماركات) والتوق لسلطة الدولة (مش الميليشيات) لذا كلما راينا هذه المظاهر، يذهب تفكيرنا مباشرة .لذاك السور القديم فكل ما سبقنا من هذه المظاهر ماهي الا من ايقاع نشيده فرغم تقلس مساحته الا اننا بطرابلس لازلنا نخضع لثأثيره وسطوته  ..