بعد المشهد الذي أحدثه الرئيس التونسي، وبعد تشكيل حكومة جديدة برآسة نجلاء بودن رمضان، لن يقبل من "حركة النهضة" الإخوانية بعد الآن الحديث عن أمل في مشاركتها مستقبلا في الحكم، والأكيد أنّ الانقلاب الشعبي على حكم حزب النهضة الإخواني، لم يكن فقط رفضا سياسياً وفكريا مطلقاً لمشروع جماعة الإخوان المسلمين، ولكنه في الواقع كان بداية حقيقية لاسترداد الدولة التونسية لثوابتها الراسخة وطابعها المدني، وإنقاذ المجتمع من تبديد هويته الثقافية في غمار مشروع أخونة الدولة التونسية. 

وثمة تساؤلات عديدة يطرحها الرأي العام العربي والمغاربي، حول الأزمة التونسية وتداعياتها ومستقبل تونس ما بعد حزب النهضة الإخواني... ننقل هذه التساؤلات وغيرها الكثير والكثير.. طرحتها "بوابة أفريقيا الإخبارية" على "الناصر خشيني"، كاتب صحفي وباحث في مجالات التراث، له العديد من الكتب المنشورة إلكترونياً، كما له مساهمات إعلامية مع كتاب عرب، له مئات المقالات المنشورة عبر صحف ومجلات ومواقع عربية ودولية، كما له إسهامات متميزة في برامج تلفزيونية عربية في المشرق العربي ولندن. وإلى الحوار.



كيف يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس وهل يمكن توصيفه بـ"إنقلاب" أم "مسار تصحيحي"؟

ما حصل بتونس لا يعتبر انقلابا باعتبار أنّ من قام به رئيس منتخب وبنسبة عالية من الناخبين وصلت 72 في المائة َمن أصوات الناخبين إضافة إلى كونه اعتمد الفصل 80 من الدستور، حيث ورد فيه أنه في حال خطر داهم على الدولة يمكن للرئيس أن يتخذ إجراءات استثنائية لم يحددها الفصل. وفي حالة الوضع بتونس المحكمة الدستورية غير موجودة وتراخت الجهات اليمينية الحاكمة في إرسائها لمدة سبع سنوات، وهذا الوضع يمكن الرئيس َمن تفسير الدستور كما يراه مناسبا، وبالتالي فإن ما أقدم عليه الرئيس "قيس سعيد" يعتبر تصحيح مسار بعد أن أصبح البرلمان فضيحة كبرى بحكم الصراع الصبياني الذي يدور بين القوى اليمينية المتصارعة وعدم قدرة "راشد الغنوشي" على التحكم فيه وبيع وشراء القوانين لفائدة القوى المتغولة، ولفائدة لوبيات الفساد، إضافة إلى أن رئيس الحكومة أصبح ألعوبة بيد الأغلبية الإخوانية الحاكمة سواء في التعيينات أو الأداء الحكومي الضعيف أمام جائحة كورونا، حيث يموت المواطنون بالمئات يوميا، ورئيس الحكومة يرفه عن نفسه في المنتجعات السياحية بالحمامات وقد حذر الرئيس الجميع دون أن يأخذ أحد من المتورطين في الفساد بتحذيراته، وأعلن الرئيس التونسي "قيس سعيد"، مساء الأحد 25 تموز (يوليو)، بعد مسيرات شعبية غاضبة شملت تقريبا معظم المدن التونسية مطالبة بحل البرلمان، والتنديد بالإخوان، تجميد اختصاصات البرلمان، وإعفاء رئيس الحكومة، "هشام المشيشي"، من مهامه، على أن يتولى هو بنفسه السلطة التنفيذية بمعاونة حكومة يعين رئيسها، وبحسب نص الفصل 80 من الدستور التونسي، الخاص بالإجراءات الاستثنائية، فإنه "لرئيس الجمهورية في حالة خطرٍ داهمٍ مهددٍ لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدّولة، أن يتخذ التدابير التي تحتمها تلك الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيس الحكومة ورئيس مجلس نواب الشّعب وإعلام رئيس المحكمة الدّستورية، ويعلن عن التّدابير في بيان إلى الشعب". 


ـ كيف يمكن أن نفسر ما وصلت إليه تونس اليوم من منظور علاقة الدولة بالمجتمع؟

قبل 25 تموز (يوليو)، وخلال العشر سنوات التي حكمت فيها النهضة والقوى اليمينية المتحالفة معها، ضعف كيان الدولة واهترت المرافق العمومية كالصحة التعليم والنقل،  واستضعفت الدولة لحساب الفاسدين والمهربين، فتفاقمت الأزمة الاقتصادية والاجتماعية وتقهقر الأمن بمفهومه الشامل، وخرج الشباب إما تسفيرا إلى بؤر التوتر أو هجرة غير شرعية عبر البحار لأوروبا، وغادرت الكوادر كالأطباء والمهندسين إلى غير رجعة وأصبح الوضع لا يطاق... لهذا فالرئيس التونسي أنقذ تونس من الانهيار الشامل.


ـ هل الأزمة في تونس أزمة نظام أم أزمة حكم؟ 

أزمة تونس أزمة نظام سياسي واقتصادي، لم يعد ملائما وذلك أنه ليبرالي في زمن العولمة، بحيث لا بد أن يتغيروا لمصلحة الشعب لأن المحتكرين سياسيا واقتصاديا، هم طبقة الرأسماليين الذين يملكون الإعلام والقدرات الاقتصادية للتأثير حتى على الذين في الحكم، لأن الأولين بإعلامهم وأموالهم هم الذين أتوا بالآخرين، لذا يوجهونهم حسب مصالحهم ولو على حساب الشعب، لذا فإن النظام السياسي القائم على الانتخابات بالصيغة الليبرالية لا بد من زواله وإيجاد نظام حكم ومنوال تنمية بعيد عن كارتلات الرأسماليين المرتبطين بدورهم بقوى الاستعمار.


ـ كيف تقيمون دور الجيش في هذه الأزمة؟. 

الجيش الوطني عادة يكون محايد وبعيد عن التجاذبات السياسية، ويتبع حسب الدستور رئيس الجمهورية باعتباره القائد الأعلى للقوات المسلحة، حيث كان لقادة الجيش الذين شاركوا في اجتماعات مجلس الأمن القومي قبيل إعلان الرئيس إجراءاته، إضافة إلى سيطرة الجيش على البرلمان ومنع "الغنوشي" وبعض النواب الموالين له من دخول البرلمان، بقول أحد الضباط أننا أقسمنا على حماية الوطن بعد أن ذكره أحد النواب بأنهم أقسموا على حماية الدستور في إشارة مبطنة أن الجيش يرفض الوضع المزري للمجلس قبل 25 تموز (يوليو). وبالحديث عن المؤسسة العسكرية التونسية، تجدر الإشارة إلى أن الجيش التونسي يعد من أصغر الجيوش في المنطقة، إذ يحتل المرتبة الـ 73 على مستوى العالم فيما يتعلق بالقدرة النارية والقتالية والمرتبة الحادية عشر بين أقوى 16 جيشا في الشرق الأوسط. ومنذ خمسينيات القرن الماضي، تم تحييد الجيش التونسي عن عمد من قبل قادة البلاد خوفا من أن يمثل الجيش تهديدا محتملا لحكمهم الاستبدادي، وقد انطوى على ذلك أن تعرض الجيش التونسي لأزمة تتعلق بنقص التمويل فضلا عن ضمان تنوع القادة العسكريين وعدم السماح للجنود بالتصويت، لكن في عام 2017، رُفع حظر الاقتراع الذي كان مفروضا على الجنود وقادة الجيش من حقبة الاستقلال، ويُنظر إلى حيادية المؤسسة العسكرية التونسية على نطاق كبير، بأنها كانت أحد الأسباب الرئيسية وراء نجاح الثورة التونسية، التي يٌفضل البعض أن يطلق عليها اسم "ثورة الياسمين" عام 2011 والتي أطاحت بنظام الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وأشعلت شرارة الربيع العربي في حينه. وخلال الثورة، لم يقدم الجيش على إطلاق النار على المتظاهرين المناهضين للحكومة بل قام الجنود بحماية ممتلكات الدولة.


ـ كيف تنظرون لاختيار نجلاء بودن رئيسة للوزراء؟

اختار الرئيس نجلاء بودن رئيسة للحكوَمة كرد اعتبار لرجال التعليم، لأنها في الأصل أستاذة جامعية، ثم ابنة الإدارة التونسية، لأنها تولت مهاما إدارية صلب وزارة التعليم العالي، ومن ناحية أخرى ردا لاعتبار المرأة التونسية التي شوهتها تنظيرات الإخوان وبخاصة "راشد الغنوشي" الذي اعتبرها مجرد وعاء جنسي في بعض كتبه، كما أن اختيارالرئيس سعيد  "نجلاء بودن" لكونها من التكنوقراط، والتي تتمتع بخبرة إدارية واسعة، إذ تولت عدة مناصب في مؤسسات الدولة المختلفة، كما أن بودن ليس لها أي انتماء سياسي، ويسعى سعيد لتجنب تشكيل حكومة حزبية في الوقت الحالي، وذلك لضمان تكليف فريق حكومي يعمل على تحقيق المصالح العليا للبلاد بعيداً عن المصالح الحزبية الضيقة، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة. وقد ألمح الرئيس سعيد في أكثر من مناسبة خلال الشهرين الماضيين إلى تفكيره في اختيار شخصية نسائية لتشكيل الحكومة الجديدة، واتضحت مؤشرات ذلك بشكل كبير خلال زيارته الأخيرة إلى محافظة سيدي بوزيد في منتصف شهر سبتمبر الجاري، كما أن اختيار نجلاء يأتي رداً على الآراء الخاصة بقادة حركة النهضة وائتلاف الكرامة، المتحالف معها، والذين يرفضون فكرة تولي امرأة لمناصب قيادية في الدولة، لاسيما في منصب رئيس الوزراء، وقد يكون الهدف من ذلك الحصول على دعم القوى الدولية المنخرطة في الشأن التونسي والتأكيد على تمكين سعيد المرأة في بلاده.                                     


ـ في ظل الانقسام السياسي...هل يصبح الشارع هو الحل والفيصل؟

يبدو أن هناك انقساما في الشارع، لكن الحقيقة الساعة التي يمكن اكتشافها من خلال وقفة المساندة لاجراءات 25 تموز (يوليو)، حيث تحرك الشعب بشكل تلقائي، وفي كل المدن التونسية بما يعني أن هناك أغلبية متضررة من حكم الإخوان طيلة العشرية الماضية، أما تحرك المعارضة تحت يافطة عودة الشرعية التي يقودها الإخوان، وبعض الحقوقيين وذلك عبر وقفاتهم، فإنهم بالرغم من الحشد المالي والإعلامي، فكان عددهم ضئيلا لأن الشعب في أغلبيته تفطن إلي أنّ حزب النهضة الإخواني غير مأموني الجانب للعودة للحكم، فقط ربما يلتجؤون للعنف وهو ليس غريبا عن تاريخ الإخوان.


ـ كيف تقيمون نتائج الثورة التونسية في ميزان السلبيات والإيجابيات؟

الثورة في تونس حررت الشعب من ديكتاتورية بن علي وأصهاره، لكن وقع إجهاضها عن طريق تسليم الحكم للنهضة، التي عاثت في البلاد فسادا، تحالفت َمع كبار الفاسدين، غطت على جرائمهم، إضافة إلى الإرهاب والاغتيالات، ونهب أموال الشعب دون القيام بأي مشروع سوى تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر أو الغرق في البحار فرارا من الوضع المزري...


ـ هل نجحت برامج الإصلاح الاقتصادى التي أعدتها الحكومات المتعاقبة بعد الثورة؟

ليس هناك أي برامج للإصلاح سوي مزيد من تغول عائلات معينة لتحتكر كل الثروات بيدها، ويبقى الشعب يعاني الفقر والبطالة، ولا أدل على ذلك الأزمة الصحية التي اجتاحت البلاد بسبب كورونا، وصولا إلى مئات الموتى يوميا، وعدم وجود الأوكسجين وتباطؤ الحكومة في جلب التلقيح، وفي التعليم خلال العشرية الماضية، أكثر من مليون منقطع عن التعليم، الأمر الذي أدى إلى تفاقم العنف والمخدرات في أوساط الشباب وهجرة الأدمغة للخارج.


ـ هل يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس اليوم يدخل في سياق صيرورة إنتاج لدولة الرعاية أما هو نكوص عنه؟

يمكننا تعريف الدور الاجتماعي للدولة: "ما يجب أن تقوم به مؤسسات الدولة من تدخلات لحماية مواطنيها، اقتصاديًّا واجتماعيًّا، من خلال التدخل، سياسيًّا وتشريعيًّا، بوضع السياسات وسنِّ التشريعات اللازمة لتنظيم قوى السوق وإصلاح الاختلالات الناجمة عن عملها، لتحقيق العدالة الاجتماعيَّة وضمان الاستقرار الاجتماعي، من خلال توفير شبكات الأمن الاجتماعي ضد المخاطر والأمراض الاجتماعيَّة كالفقر والتهميش والفوارق الجهوية، وتوفير المواد المدعمة والخدمات العامة، والحد من الآثار السلبية للعولمة والنيوليبرالية المتوحشة على الفقراء، لكن هذا لم يحصل خلال العشرية السوداء التي حكمت فيها النهضة، وبالتالي فما قام به الرئيس "قيس سعيد"، من إجراءات ومن خلال وعوده في خطبه وتهديده لمن سرق أو عبث بتونس... نتفاءل خيرا بما ستؤول إليه الأمور بعد إيقاف التردي الذي كانت تعيشه تونس.


ـ هل خربت النهضة الإخوانية الديمقراطية التونسية وهل انتهى عصر إخوان تونس؟ 

النهضة عدوة للديمقراطية، بدليل التهجم على اتحاد الشغل والاغتيالات، وضخ المال السياسي الفاسد في الإنتخابات وتزويرها، إضافة إلى تقزيم العمل البرلماني كما شاهدنا صورة وصوتا، وبشكل مباشر، وبالتالي فإن الناس كرهوا النهضة التي انقسمت على نفسها بعد استقالة العديد من قياداتها العليا والوسطى مؤخرا وبالتالي انتهى عصر الإخوان بتونس.                                                         


ـ هل تظن أن المراجعات واردة في أيديولوجيا إخوان تونس أم أنّ العنف هو المسيطر؟

الإخوان في كل مكان من العالم يدعون المراجعات للتلاؤم مع الوضع الذي هم فيه، وعبر تاريخهم الطويل الذي امتد على تسعة عقود ثبت أنهم يزدادون تمسكا بثوابتهم الدينية، المتمثلة ليس في القران الكريم وتعاليمه السمحة، وإنما اتخذوا بديلا عن ذلك التراث َمن تفسير وسيرة وفقه، وهي إنتاجات بشرية محكومة بظروفها التاريخية، وفرضها الحكام الطغاة، وقدمت للناس على أساس أنها الدين، َومن خلال استقراء تاريخهم الدموي أو تطور فكرهم، فإن الاتجاه دوما نحو مزيد من التطرف الفكري والدموي، حيث أن القاعدة والنصرة والدواعش وغيرها من التنظيمات الإرهابية، خرجت من عباءة الإخوان، إضافة إلى أن حروبهم واغتيالاتهم في معظمها موجهة الشعوب العربية والإسلامية، وأكثر من ذلك عندما حكموا تونس ادعوا أنهم ديمقراطيون وأنهم حزب مدني وكانت النتيجة أنهم تحالفوا مع الفاسدين، ودمروا تونس ورفضوا تجريم التطبيع، وصادقوا على أكثر التّشريعات إضرارا بتونس كقانون المصالحة مع الفاسدين،  وبالتالي لا ننتظر منهم خيرا وقد يلجؤون للعنف وهو ديدنهم.


ـ هل ينتهي العصر الذهبي للإخوان بعد الأحداث الأخيرة في تونس والمغرب؟

بكل تأكيد بعد خسارتهم في انتخابات المغرب، والإجراءات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد بتونس، وبخاصة بعد الإعلان عن تشكيل الحكومة ينتهي إلى الأبد العصر الذهبي للإخوان بالمغرب العربي، بعد أن كرههم الناس بدليل أن "الغنوشي" فجر25 تموز (يوليو)، اتجه إلي مجلس النواب لإقامة "رابعة تونسية" لكنه فشل لأن مؤيديه قد خذلَوه، ولم يستجب لطلبه سوى عدد قليل من أنصاره، طردتهم الجماهير الشعبية المحيطة بمقر البرلمان.


ـ كيف تنظرون لمستقبل تونس ما بعد النهضة؟  

تونس دون نهضة أفضل، لأن كابوسا خيم على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، إلى درجة انتشر فيها الفقر وتفاقمت الجريمة، وتضاءلت موارد الدولة بحكم التهرب الضريبي، وغلبة السوق الموازي بحكم التهريب واحتكار السلع وأدى ذلك إلى غلاء الأسعار، إضافة إلى البطالة وتدهور خدمات الإدارة والنقل والتعليم والصحة... واليوم تشكلت الحكومة الجديدة دون حزب النهضة الإخواني، والناس متفائلون ومستبشرون خيرا.