كثيرون في العالم وحتى في منطقتنا العربية لا يستحضرون من سيرة العقيد الليبي معمّر القذافي إلا لحظات النهاية الصعبة. الصورة الراسخة في الأذهان بالنسبة إليهم هي ذلك المشهد الوحشي البائس لمجموعة من العصابات المدعومة دوليا وهي تنكّل بروح بشرية إلى حين قتلها دون مراعاة لأي رادع قيمي أو أخلاقي. لكن الباحث في تاريخ الزعيم الليبي يعرف أنه غيور على الواقع العربي بطريقة خلقت له الكثير من الأعداء وجعلته شخصا استثناء وأوقعت الكثيرين في الحرج بسبب تخليه عن الصورة التقليدية عن القائد المجامل فكانت خطاباته دائما بلا أقنعة وموجهة مباشرة إلى هدفها.

منذ صعوده إلى السلطة عبر ثورة على الملكية في سبتمبر 1969 بقيت شخصية العقيد الليبي معمّر القذافي مثار جدل بين خصومه ومؤيديه، بسبب الأفكار التي جاء بها والتي اختلف حولها كثيرون بسبب جرأتها وخروجها عن السائد العربي. الرجل يعتبر استثناء في سيرة الزعماء العرب في مرحلة ما بعد "الاستقلال". صعد حاملا معه أحلاما ومشاريع كثيرة لم تسعفه الظروف لتحقيقها في وضع عالمي معقّد ومتشابك، وعلى رأسها حلم الوحدة العربية الذي كان هاجسه الأول تأثرا بفكر الزعيم العربي جمال عبد الناصر، يرى أنه الحل لهذه الأمة المجزأة في مواجهة قوى خارجية متحدة وبانية لقوتها. وبقي إلى اللحظة الأخيرة من حياته يوجه خطاباته نحو ذلك الحلم الذي أصبح بعيدا اليوم أكثر من أي وقت مضى.

في الذكرى السنوية الأولى لنجاح ثورة الفاتح من سبتمبر، كانت مدينة بنغازي على موعد مع مهرجان ضخم حضره عدد من الزعماء العرب من بينهم الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي يعتبر رافعا للواء الفكر القومي العربي بكل ما يحمله من تحرر من كل قوى الهيمنة الخارجية وبمشروع اقتصادي اشتراكي يرى في العدل المجتمعي أساسا لبناء أي دولة قوية. كما كان مؤمنا إيمانا قاطعا أن الوحدة العربية هي الوضع الطبيعي الذي يجب أن تكون عليها دولنا المشتتة لمواجهة أي خطر خارجي، وهذا ما آمن به العقيد القذافي في مرحلة لاحقة.

القذافي الذي خطب بشكل مطوّل في ذلك المهرجان، مستعينا بحماسة الشباب وبدافع نفسي من الحاضرين، أعلن بشكل مباشر تأثره بالتجربة الناصرية حيث حيا الزعيم المصري معتبرا أن بلاده ستكون السند الأول لمصر الناصرية في مشروعها السياسي والاقتصادي الذي تعتبر الوحدة عصبه الرئيسي.

جمال عبد الناصر في ذلك الخطاب أعلن تأييده لثورة الفاتح من سبتمبر وأنه يترك ليبيا وهو يشعر بأن القائد "معمر القذافي هو الأمين على القومية العربية وعلى الثورة العربية وعلى الوحدة العربية". وربما كانت تلك آخر رسالة في مشروع الرئيس المصري الذي غادر الحياة أياما قليلة بعد ذلك الخطاب حاملا لطموحات حقق منها الكثير في مواجهة الضغط الخارجي والرجعية العربية.

وفي إطار استعادة المحاولة الوحدوية بين مصر وسوريا التي بدأها الزعيم المصري في الستينات، كان القذافي من بين الداعين للوحدة من جديد بين ليبيا ومصر وسوريا من خلال توقيع اتفاق في ليبيا في أبريل 1971 تحت عنوان ميثاق طرابلس، يقضي بتأسيس اتحاد الجمهوريات العربية، وقد تم إعلانه رسميا في يناير 1972، لكنه بقي اتفاقا غير ملزم ولم يلق تجاوبا كبيرا في الجانب المصري، على اعتبار أن القيادة السياسية المصرية بعد وفاة عبدالناصر كانت تستعد لترميم نفسها لخوض حرب التحرير في 1973، بالإضافة إلى أنها جاءت على نقيض المشروع الناصري، بل أثبتت السنوات بعدها أنها معادية له ومنساقة لتوجه جامع بين المهادنة مع الرجعية العربية والانخراط في الخيارات الغربية في علاقة بالقضايا المصيرية العربية، وهو ما جعل العلاقة بين القذافي والسادات متذبذبة لم تعدها إلى طبيعتها إلا حرب أكتوبر التي كانت لليبيا مساهمة فيها، لكن في كل الحالات سقط مشروع الوحدة في تلك الفترة وسط تعمق تدريجي للخلافات العربية.

وعلى الرغم من فشل المحاولة الأولى في توحيد الجمهوريات العربية، فإن سعي العقيد معمر القذافي لم يتوقف لتكوين نواة أخرى تكون منطلقا لمشروع وحدوي جديد، وكانت وجهته غربا من خلال توقيع اتفاق جربة الشهير مع الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة. ففي يناير 1974، التقت القيادتان جنوب تونس وتم الاتفاق على تأسيس الجمهورية العربية الإسلامية، يكون بورقيبة رئيسها والعقيد الليبي نائبا له و"كان مقرراً أن تتم المصادقة على الاتفاق بعد إقامة استفتاء في البلدين، لكن أمام عدم ورود نص فيالدستور التونسيحول إجراءاستفتاء عامتم تأجيله، لكن في النهاية وقع إبطال الاتفاق بعد رفضه من قبل عدد من السياسيين التونسيين وعلى رأسهم الوزير الأولالهادي نويرة، وعدول بورقيبة عنه". وسط أنباء عن ضغط خارجي على تونس وأساسا من فرنسا من أجل التراجع عن الاتفاق بسبب الموقف المعروف للقذافي من التوجهات الغربية في المنطقة العربية.

وكان فشل الوحدة مع تونس قد تسبب في توتر العلاقات بين الزعيمين الليبي والتونسي فقدت بعدها الثقة بين الجانبين، بل إن التطورات التي حصلت في ولاية قفصة جنوب تونس العام 1980، اتهمت فيها ليبيا مباشرة، وذهبت فيها التأويلات إلى محاولة للانقلاب على الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة، أعقبتها حملة اعتقالات للعديد من الشخصيات التي اتهمت وقتها بأنها تنفذ مشروعا انقلابيا بدعم من القيادة الليبية.

ولم تتوقف محاولات العقيد الليبي عن البحث على نواة وحدة في ظل الواقع العربي الصعب، لكن كلها لم يكتب لها النجاح، حيث كان هناك اتفاق مع سوريا في سبتمبر 1980، "بإقامة وحدة اندماجية بينهما، تتكون بمقتضاها دولة واحدة لها سيادة على البلدين، ولكن التجربة انتهت دون أن يعلن أي من الطرفين أسباب التراجع". ثم الاتفاق مع المغرب في أغسطس 1984، تحت مسمى الاتحاد العربي الإفريقي بقي بدوره يدور في حلقة مفرغة، إلى حين تأسيس اتحاد المغرب العربي بين دوله الخمس سنة 1989، لكنه بدوره لم يكن في مستوى الانتظارات في ظل الخلافات بين بعض دوله.

يعتبر العقيد معمر القذافي أحد القيادات العربية المعلنة صراحة لتوجهها القومي الساعي إلى توحيد جسم عربي يكون قادرا على مواجهة التحديات الكثيرة التي تعانيها المنطقة، لكنها محاولات انتهت جميعها بالفشل بسبب خصومها الكثيرين، بالإضافة إلى أن هناك قصورا بالتأكيد من مهندسيها الذين لم يدرسوها بشكل جيد يجعل منها مرتكزة على أسس ثابتة، وهو ما جعل العقيد القذافي في نصف مسيرته السياسية نحو إفريقيا التي بدورها أفضل حالا من وضعيتها العربية.