يعتبر الزعيم الراحل معمّر القذافي متفرّدا في جوانب مختلفة حيث بدأ حياته السياسية مبكرا إذ تولى الحكم في سن السابعة و العشرين و كانت له رؤية غير تقليدية في تسيير الدولة. ولم تكن سياسة العقيد الرّاحل تجاه الدول الغربية مستقرة حيث شهدت فترات تصاعد فيها التوتر والصراع وأخرى اتسمت بالهدوء والبراغماتية إلا أنها لم تكن أبدا علاقة وئام لذلك بارك و شارك الغرب في إسقاطه منذ 7 سنوات. 

خلال العقد الثاني من حكمه اختار العقيد الراحل معمر القذافي الساحة الدولية كي يمتد إليها نشاطه الحركي، فدعم خلال سنوات الثمانينات الجماعات المتمردة في أماكن عديدة ربما أشهرها في أوروبا حيث قدم دعما للجيش الجمهوري الايرلندي والألوية الحمراء ومجموعة بادر ماينهوف. لكن ضربته الكبرى كان في تفجير ملهى ليلي في ألمانيا الغربية عام 1986 يرتاده عسكريون أمريكيون.. تفجير قدم مبررا للرئيس الأمريكي رونالد ريجان كي يقوم بضربه عسكريا في نفس العام. لكن القذافي نجا من صاروخ استهدف منزله، ثم في عام 1988 تم تفجير طائرة ركاب أمريكية وسقطت فوق بلدة لوكيربي الاسكتلندية، واتهم القذافي بأنه وراء التفجير لكنه أنكر، لكنها كانت حادثة التغيير التدريجي في السياسة الراديكالية للعقيد.

في الفترة الممتدة من الهجمة الأمريكية على ليبيا (1986) حتى اتخاذ القرار الليبي بتسليم المتهمين بتفجير الطائرة الأمريكية بان أم 103 في إبريل (1999)، عانى الشعب الليبي من ليل طويل من المحاكمات والأوقات الصعبة . وشدّدت الولايات المتحدة على ليبيا بفرض حزمة من العقوبات الثنائية بعد 1986.

وقامت الولايات المتحدة وبريطانيا بتوجيه اتهامات بحق عنصرين من عناصر الاستخبارات الليبية، بعد ذلك، أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا إعلاناً يقضي بتسليم المتهمين الليبيين إلى العدالة . وعندما لم تمتثل ليبيا لهذا القرار، قام مجلس الأمن الدولي باستصدار مسودة قرار في (1992)، فرضت عقوبات على ليبيا، حيث جمدت الأصول الليبية في الخارج، وتم حظر استيراد بعض مبيعات المعدات النفطية، وشددت على قرار إنهاء العلاقات الجوية التجارية.

هذه العقوبات   فرضت عليه ومطالبات بتسليم ضابطين في جهاز استخباراته، لكنه رفض وتصاعدت الضغوط، ليتدخل الزعيم الجنوب أفريقي نلسون مانديلا ومعه دعم سعودي أشرف عليه الأمير بندر بن سلطان.. تنتهي الوساطة بمحاكمة الضابطين في اسكتلندا وبإدانة عبد الباسط المقرحي الذي أمضى عقوبة بالسجن هناك، لكنها انتهت باتفاق على إعادته الى ليبيا، وهو ما أثار جدلا في الغرب.

ويرى مراقبون أنه بعد عام (1998) قام القذافي بتغييرات أساسية في اتجاه وأساليب السياسة الخارجية، حيث تحرّك لإنهاء العزلة الدبلوماسية والتجارية، وركّز بشكل مبدئي على القارة الإفريقية.

كما طوّر علاقاته الموجودة مع الاتحاد الأوروبي والدول الأوروبية الرئيسة، وطوّر علاقات جديدة في آسيا وأمكنة أخرى . والمبادرة الليبية الحاسمة، التي أعقبت قضية لوكربي ورفع العقوبات الأوروبية،كانت قراراً ليبياً بالتخلي عن الأسلحة غير التقليدية وكل الأنظمة المرتبطة بها، وبالقيام بذلك، مهّد القذافي الطريق لإقامة علاقات تجارية ودبلوماسية كاملة مع الولايات المتحدة.

وفي إطار غير متّصل، طرحت مؤخرا في الدوائر القضائية الفرنسية مرة أخرى علاقة الزعيم الراحل بالرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي حيث أنه بعد فترة من الصراع تأسست حقبة الوئام بين باريس ونظام معمر القذافي، وظهرت علاقات شخصية بين الرجلين منها جاءت الاتهامات لساركوزي بتلقي هدايا من القذافي ومبالغ مالية لتمويل حملته الانتخابية عامي 2006 و2007 بلغت نحو خمسين مليون يورو.

أكد المترجم الشخصي للرئيس الراحل معمر القذافي مفتاح ميسوري في حديث لإذاعة فرنسا الدولية (آر أف إي) أنه كان شاهدا على قضية التمويل هذه، مشيرا إلى أنه التقى ساركوزي عام 2005 عندما زار طرابلس وكان آنذاك وزيرا للداخلية في حكومة جاك شيراك، وأن اتفاق التمويل بدأ نهاية عام 2006 عندما أخبر ساركوزي القذافي أنه ينوي الترشح للرئاسة، وهو ما أيّده وباركه العقيد الراحل، على حد قوله.

وقال ميسوري إنه رأى وثيقة الاتفاق -التي اعتبرها ساركوزي مزورة- على مكتب القذافي، كما أن الدليل (إيصال من الطرف الفرنسي) محفوظ لدى كبير المحاسبين في عهد القذافي الموجود في سجن مدينة الزاوية.

ونفى ساركوزي في التحقيقات الاتهامات الموجهة إليه، متعهدا بسحق من سماهم "عصابة القذافي القتلة"، لكن  رجل الأعمال اللبناني الأصل زياد تقي الدين الذي  اعتراف في التحقيقات  بلعب دور الوسيط بين نظام القذافي وساركوزي وحزبه الجمهوري آنذاك،أكد مجددا لموقع "فرنس أنفو" أنه التقى ساركوزي في شقته بمبنى وزارة الداخلية عندما كان وزيرا، قائلا إنه سلّمه حقيبة فوضعها جانبا، ولم يرغب في عدّ الأموال. كما أكد أنه التقاه مرة في ليبيا، ومرة أخرى بحضور كلود غيون، وأن هناك شهود عيان حضروا اللقاءين.

وتشير الصحافة الفرنسية والعالمية إلى أن انقلاب القذافي على الصفقات التي كان أبرمها مع ساركوزي خلال زيارته لباريس أدت إلى الإصرار على إسقاطه، وهو ما أشار إليه رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني الذي كانت لبلاده علاقات اقتصادية كبيرة في ليبيا، كما نشرت صحف أميركية وإيطالية معلومات نفتها باريس عن دور فرنسي في مقتل القذافي لاحقا (عام 2011).

في نفس السياق تناول كتاب بعنوان "الهدف القذافي: 42 عاما من الحرب الخفية ضد قائد الجماهيرية الليبية العربية 1969-2011" علاقات العقيد الجدلية بالغرب، للكاتب والباحث الكندي من أصل كونغولي "باتريك مبيكو" وبتقديم للديبلوماسي الفرنسي السابق "ميشال ريمبود".

"مبيكو" ومن خلال تناول سابق لبوابة إفريقيا الإخبارية لكتابه، أشار إلى أن الزعيم معمّر القذافي كان مزعجا للغرب والحرب ضده لم تبدأ في 2011، بل بدأت من لحظة قيامه بالثورة في الفاتح من سبتمبر 1969، حيث يعود الكاتب إلى حرب 1967، التي كانت القواعد الأمريكية جزءا منها في عملية إسناد للإسرائليين، الأمر الذي جعل القذافي يضع في أولوياته بعد قيامه بالثورة إلغاء تلك القواعد إلى جانب الشروع في تفكيك الهيمنة الغربية على النفط الليبي والمؤسسات البنكية وجعلها تحت السيطرة الوطنية الليبية، وهي خطوات جعلت مستشار الأمن القومي الأمريكي هنري كيسنجر يجتمع بعدد من المسؤولين الأمريكيين الكبار في تلك الفترة للنظر في الخطوات التي اتخذها القذافي ولتبدأ منذ تلك اللحظة الحرب الخفية بينه وبين القوى الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية.

الكتاب عاد إلى حرب الغرب ضد القذافي بعديد تفاصيلها مشيرا إلى التنسيق الأمريكي والإسرائيلي بهدف زعزعة الاستقرار في ليبيا عبر العقوبات الاقتصادية أو تلفيق التهم حول بعض العمليات التي وقعت في العالم سنوات السبعينات والثمانينات وإلصاقها بالقذافي رغم أن التحقيقات لم تصل إلى نتيجة تؤكّد تورطه فيها. كما أشار الكاتب إلى الدور الذي يلعبه الموساد الإسرائيلي في مشروع محاربة العقيد حيث فشل في اختراقه من الداخل فكان يقوم بعملية شيطنة وتصوير القذافي على أنه شخصية مزعجة ويقوم بأشياء تبعث على السخرية وقد نجح الإسرائيليون في ذلك بشكل كبير خاصة في الغرب نظرا للاشتراك في عملية الشيطنة.

وخلص باتريك مبيكو في كتابه إلى تجميع معطيات تتيح للقارئ فك رموز علاقة العقيد معمّر القذافي بالقوى الغربية، كما معرفة حقيقة ما وقع في ليبيا العام 2011، من لحظات الأحداث الأولى إلى لحظة الإطاحة بالنظام التي تميط اللثام عن النوايا الغربية الخفية.