استطاعت التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيمي "القاعدة" و"داعش" في مرحلة سابقة، استغلال الانقسامات والفوضى لتأسيس موطئ قدم لهما فى ليبيا، حيث تمكّن "داعش" من تأسيس "ولاية" في ليبيا وجعل من سرت عاصمة لها، فيما تمكن تنظيم "القاعدة" من التمركز في مدينتي بنغازي ودرنة وعدة مناطق أخرى في جنوب البلاد. 

ومثل توسع دائرة الإرهاب نذيرا بمزيد من التوتر الخطر على ليبيا والدول المجاورة التي تعاني منذ سنوات من تمدد التنظيمات الإرهابية التي أسفر نشاطها عن سقوط العشرات من الضحايا مع التفجيرات الانتحارية والهجمات على المدنيين، مستغلة في ذلك حالة ضعف الرقابة على الحدود نتيجة لحالة الترهل الأمني الذي تعانيه تلك الدول وعدم القدرة على تأمين حدودها. 

وأمام الخطر المتصاعد، تسارعت الضربات الغربية ضد التنظيمات الإرهابية في ليبيا، وكانت بدايتها، في مطلع شهر أغسطس من العام 2016، حين شنت القوات الأمريكية هجمات جوية على ما وصفته بمعاقل تنظيم "داعش" في سرت بطلب رسمي من حكومة الوفاق الوطني الليبية لتكون تلك العمليات العسكرية الأمريكية هي الأولى التى يتم تنفيذها بالتنسيق "المعلن" مع حكومة الوفاق. 

وقد حددت إدارة أوباما مدينة سرت بأنها"منطقة من الأعمال العدائية النشطة"، مما أدى إلى تخفيف المبادئ التوجيهية المصممة لمنع وقوع إصابات بين المدنيين، والسماح للجيش الأمريكي بحرية أكبر في تنفيذ الضربات الجوية. وقال رئيس وزراء حكومة الوفاق فايز السراج لصحيفة كوريير ديلا سيرا الإيطالية في أواخر صيف 2016:"لقد طلبت فقط الضربات الجوية الأمريكية، والتي يجب أن تكون عملية جراحية، ومحدودة من حيث الوقت والمجال الجغرافي ، ويتم تنفيذها دائمًا بالتنسيق معنا". 

وبين أغسطس وديسمبر 2016، وطبقاً لبيان صادر عن أفريكوم ، نفذت الولايات المتحدة "495 غارة جوية دقيقة ضد المركبات التي تحمل أجهزة متفجرة والمدافع الثقيلة والدبابات ومراكز القيادة والتحكم ومواقع القتال" في مدينة سرت.  وبعد ذلك، في مارس 2017 ، أخبر توماس والدهاوزر، قائد قوات الأفريكوم ، لجنة القوات المسلحة في الكونجرس الأمريكي، أن الولايات المتحدة "نفذت أكثر من 500 ضربة" خلال العملية. 

وجاء هجوم الأول من أغسطس ضمن عملية أطلق عليها اسم "عملية برق أوديسا". ولم تكن هذه المرة الأولى التى توجه فيها القوات الأمريكية ضربات لأهداف فى ليبيا.  اذ سبق أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن زعيم تنظيم "داعش" فى ليبيا العراقى ابو نبيل، تم قتله فى غارة أمريكية استهدفت مركز قيادة وسيطرة خاص بـالتنظيم على مقربة من درنة فى نوفمبر 2015. 

وبعد ثمانية أشهر من المواجهات الضارية، أعلنت قوات "الوفاق الوطني" في ديسمبر/كانون الأول 2016، تحرير سرت نهائيا من مسلحي داعش. وصرح رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج، بأن عملية تحرير مدينة سرت قد تمت بنجاح، حيث هنأ في كلمة مسجلة له الشعب الليبي بهذا الانتصار، مشيدًا بتضحيات عناصر "البنيان المرصوص" ضد التنظيم. 

فيما أعلن الجيش الأمريكي رسميًا إنهاء عملياته العسكرية في مدينة سرت، بعد أن تم تحريرها بالكامل من قبضة تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حيث قالت القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا والمسماة بـ"أفريكوم": "بالشراكة مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، كللت العملية بالنجاح، وأتاحت دحر وهزيمة هذا الكيان، واستهدفت سفن وطائرات مقاتلة ودون طيار مواقع التنظيم خلالها 495 مرة". 

لكن إعلان إيقاف الضربات الجوية في ليبيا لم يدم طويلا، حيث شنت القوات الأمريكية، في يناير 2017، غارات جوية استهدفت معسكرات تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا، قبل يوم من انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما. وأكد وزير الدفاع الأمريكي أشتون كارتر خلال تصريحات له في آخر يوم له في وزارة الدفاع، أن أكثر من 80 مسلحًا من تنظيم داعش قتلوا في الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت معسكرات في ليبيا، وأوضح كارتر "أنهم أشخاص كانوا يدبرون عمليات في أوروبا ويحتمل أنهم كانوا على علاقة ببعض الهجمات التي وقعت بها". 

ومنذ تولي الرئيس الأميركي دونالد ترامب السلطة في 20 يناير 2017، نفذ الطيران الأميركي عدّة ضربات جوية في ليبيا، مستهدفاً فلول وقيادات تنظيم الدولة والقاعدة. كان أولها في سبتمبر من نفس العام، حين قال الجيش الأمريكي، إن ست ضربات جوية أمريكية استهدفت معسكرا لتنظيم داعش في الصحراء الليبية، أدت إلى مقتل 17 متشددا وتدمير ثلاث مركبات. 

وقالت القيادة العسكرية الأمريكية في أفريقيا في بيان لها، إن الضربات التي نفذت استهدفت معسكرا على مسافة 240 كيلومترا جنوب شرقي مدينة سرت التي كانت ذات يوم معقلا للمتشددين في ليبيا. وأضاف البيان أن المعسكر كان يستخدم لنقل المقاتلين داخل ليبيا وخارجها والتخطيط لشن هجمات وتخزين أسلحة. وأضاف البيان:"استغل تنظيما الدولة الإسلامية والقاعدة المناطق غير الخاضعة لسيطرة الحكومة في ليبيا لإقامة ملاذات للتآمر والتحريض وتوجيه الهجمات الإرهابية". 

وفي نوفمبر 2017، أعلن الجيش الأمريكي، عن تنفيذه ضربتين جويتين على مقاتلي تنظيم "الدولة" في ليبيا خلال الأيام القليلة الماضية. وقالت القيادة الأمريكية بأفريقيا، في بيان نشرته وكالة "رويترز"، أن الجيش الأمريكي شن ضربات جوية دقيقية في ليبيا ضد مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي يومي 17 و19 نوفمبر، قرب بلدة الفقهاء في بلدية الجفرة جنوب وسط ليبيا، وقتلت عددًا من عناصر داعش الإرهابي. 

وأوضحت أفريكوم، في بيان، نشرته وكالة "رويترز"، أن "الغارات الجوية هي جزء من التعاون في مكافحة التهديدات الإرهابية وهزيمة داعش في ليبيا وأن الولايات المتحدة ملتزمة بمواصلة الضغط على شبكة الإرهاب ومنعها من إقامة ملاذ آمن في دولة ليبيا". وذكر البيان أن الضربتين نُفذتا بالتنسيق مع حكومة الوفاق الوطني الليبية. 

وفي 24 مارس 2018، : قضت غارة جوية أمريكية على إرهابيين اثنين من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي، أحدهما يدعى "موسى أبو داوود"، جزائري الجنسية، وهو قيادي بارز في التنظيم. وقال مصدر أمني من مدينة أوباري، حينها، إن القصف أدى لأضرار مادية في المنزل وتدمير بعض السيارات الموجودة في مكان القصف، مشيرا إلى أن السكان عثروا على جثتين في موقع القصف لشخصين قتلا في الحادثة. 

وفي 14 يونيو 2018، قال الجيش الأميركي في بيان إن القوات الأميركية، وجهت ضربة جوية إلى جماعة تابعة لتنظيم القاعدة جنوب شرقي بني وليد مما أسفر عن مقتل مسلح لم تحدد هويته. وأفاد بيان للقيادة العسكرية الأميركية لإفريقيا (افريكوم) أن الغارة "التي شنت على بعد نحو 80 كلم جنوب شرق مدينة بني وليد بالتنسيق مع حكومة الوفاق الوطني الليبية، هدفت إلى ضعضعة عمليات المتطرفين ومنعهم من التحرك".  وتقع بني وليد على بعد حوالي 160 كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من طرابلس. 

وشددت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا أن "الولايات المتحدة لن تنسى مهمتها المتمثلة في تحطيم وتعطيل وتدمير المنظمات الإرهابية، ودعم الاستقرار في المنطقة". وتابعت: "نحن ملتزمون بمواصلة الضغط على الشبكة الإرهابية، ومنع الإرهابيين من تكوين ملاذات آمنة". وأضاف البيان أن "أفريكوم بصدد تقييم نتيجة هذه الغارة" التي لم تسفر عن مقتل أي مدنيين. 

وفي 28 أغسطس/آب 2018، نفذت غارة أميركية على بني وليد، شمال غربي ليبيا، استهدفت أحد قيادات التنظيم، ويدعى وليد بوحريبة الورفلي. وقالت تقارير إعلامية إن الغارة استهدفت بصاروخ السيارة الحريبة التي كان على متنها في طريقه إلى أحد البيوت التي يتخفى فيها بالحي. ويعتبر وليد بوحريبة، وهو من سكان منطقة الجيزة بسرت، من أبرز القادة الليبيين لتنظيم "داعش" بالمدينة. 

وتشير تصريحات المسؤولين إلى إستمرار الضربات الغربية في ليبيا ضد التنظيمات الإرهابية، ونقلت صحيفة "الشرق الأوسط"، الإثنين 17 سبتمبر 2017، عن مسؤول عسكري ليبي قوله إن "الولايات المتحدة بصدد الاستجابة لطلب السراج ضرب أهداف لتنظيم داعش في طرابلس"، لافتاً إلى أن "الجيش الأميركي الذي يحتفظ بوجود عسكري غير معلن في مدينة مصراتة غرب البلاد سيهاجم أيضاً ميليشيات مناوئة للسراج". 

وأكدت الصحيفة، أنه وبحسب مصادر أميركية، فإن واشنطن "لديها مخاوف من أن يسعى تنظيم داعش في ليبيا لاستهداف قوات الأمن والبنية التحتية وضربها وشن هجمات خاطفة على أهداف في منطقة الهلال النفطي"؛ إذ يسعى التنظيم إلى "إعادة قدراته واستغلال المناطق الليبية غير الخاضعة للحكم، وزعزعة استقرار البلاد، وإخراج العملية السياسية عن مسارها". 

ويحذّر المختصون في مكافحة الإرهاب من أن تنظيمي "داعش" و"القاعدة" لا زالا يشكلان تهديداتٍ هائلةً في أماكن مثل الصومال واليمن وغرب إفريقيا وليبيا وهو ما يدفع نحو استمرار العمليات العسكرية في هذا البلد الممزق بالأزمات. وفي الـ6 من مارس الماضي، قال الجنرال والدهاوسر، قائد أفريكوم ، في شهادته أمام الكونغرس:"نحن متورطون بشدة في عملية مكافحة الإرهاب" داخل ليبيا

وبدوره توعد الناطق باسم القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، أفريكوم، "مارك تشيدل" بالاستمرار في شن ضربات ضد الإرهابيين في ليبيا، نافياً أن يكون هذا إشارة لبداية حملة عسكرية أوسع. ووفق ما نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، في مارس الماضي، أكد "تشيدل" أن الولايات المتحدة ستضرب الإرهابيين في حال تم رصد أماكن تواجدهم بهدف مكافحة الإرهاب في القارة الإفريقية. 

ورغم الخسائر الكبيرة التي منيت بها التنظيمات الإرهابية في ليبيا، فإنها مازالت تحافظ على وجودها مع تواصل حالة الفوضى في البلاد. وفي مارس الماضي، أكّدت البعثة الأممية لدى ليبيا، أنّ تنظيمي داعش والقاعدة، لا يزالان متواجدين في ليبيا، ويمارسان أعمالهما الإرهابية، من خلال شنّ هجمات على نقاط أمنية، وكتائب عسكرية. وحذّر المبعوث الأممي إلى ليبيا، غسان سلامة، في إحاطة قدمها لمجلس الأمن، من تلك التنظيمات الإرهابية، مؤكداً أنّه على كافة الليبيين التكاتف وتوحيد الجهود للقضاء على هذا التهديد الذي سيؤثر في استقرار أمن البلاد. 

وتتحرك فلول تنظيم الدولة الفارة من بنغازي وسرت، في المناطق الصحراوية والأودية الممتدة من صحراء سرت وحتى بني وليد، وصولاً إلى مدن الجنوب الليبي. وتتصاعد التحذيرات من استمرار وجود التنظيم في الأراضي الليبية وقدرته علي تجميع صفوفه، خاصة مع الحديث عن انسحاب عناصره من العراق وسوريا، وعزمها التجمع في جنوب ليبيا. 

وكان رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي، أشار إلي ما أسماه "جيش الصحراء" والذي تم تأسيسه بعد تحرير مدينة سرت، ويضم 3 كتائب بقيادة الليبي المهدي سالم دنقو، والملقب بـ"أبوالبركات". وبدأ جيش الصحراء في تعزيز صفوفه بالمقاتلين الأجانب سواء المنخرطون سابقا في التنظيم أو تجنيد عناصر جديدة من دول الجوار خاصة الأفارقة. 

وفي غياب الحل السياسي فإن دائرة العنف ستتسع، والحل السياسي من الصعب أن يتحقق. وفي غياب "فرض" الحل السياسي بقرار عربي ودولي، يرى الخبراء أن ليبيا ستتجه نحو تسعير الحرب الأهلية، وبها ستقوى التنظيمات الإرهابية التي تستمد قوتها من استمرار الحرب والفوضى، وهو ما سيكون ذريعة لشن المزيد من الضربات الغربية في هذا البلد الممزق.