خصص الصحفي والسياسي الليبي الدكتور مصطفى الفيتوري مقاله الأسبوعي للحديث عن الأحداث والمظاهرات التي تشهدها الجزائر، وهل هذه المظاهرات تشكل موجة جديدة من موجات الربيع العربي أم لا.

وقال الفيتوري لا يمكن اعتبار ما حدث في الجزائر على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية حلقة أخرى من صحوة الشعوب التي اجتاحت شمال إفريقيا في عام 2011 كجزء من ما أطلق عليه "الربيع العربي". ثم عزل الأنظمة الحاكمة في تونس ومصر وليبيا. وتختلف الأزمة في الجزائر قليلاً عن سابقتها، لكن لديها القدرة على تصبح ليبيا أخرى أكثر  من تونس أخرى في المنطقة. وهذا بالطبع قبل أن يحاول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نزع فتيل الأزمة في تحول غير متوقع للأحداث.

وعندما اندلعت المظاهرات المناهضة لترشيح بوتفليقة لولاية خامسة في 22 فبراير، كان لدى مؤيديه حجتان. أولاً  المظاهرات صغيرة ومحدودة  مما يجعلها غير معبرة عن الرأي العام الأوسع. وثانياً ليس هناك شخصية قيادية بديلة مؤهلة لملء فراغ بوتفليقة في حال رحيله.

ورد المعارضون بالقول إن الافتقار إلى القيادة هو فشل النظام وليس نقص الأفراد المؤهلين. وماذا لو اعترف بوتيفليقة في لحظة مصالحة مع نفسه ومع شعبه بعدم قدرته على الترشح لفترة ولاية خامسة وترك السباق تمامًا؟

ومنذ بضعة أيام فقط بدا أن الرئيس المريض مصمم على السعي لولاية خامسة على الرغم من الاحتجاجات التي نمت في الحجم وانتشرت في جميع أنحاء الجزائر بمطلب واحد ؛ لا لولاية خامسة.

وعندما انتشرت الأنباء يوم الاثنين بأن الرئيس المحاصر لا يسعى لولاية خامسة ، تحولت الاحتجاجات في البلاد إلى مشاهد من الابتهاج والاحتفال. وتحولت الحالة المزاجية من عدم اليقين -مع احتمال حدوث مشكلة- فجأة إلى جو احتفالي مع تنهدات من الارتياح. وساد شعور الأمل مرة أخرى في جميع أنحاء الجزائر ويبدو أن الأزمة قد انتهت. ولكن فقط لفترة من الوقت قبل اكتشاف الخدعة.

ولم يسحب بوتفليقة ترشيحه فحسب، بل أعلن أيضًا خطوات ملموسة لتنفيذ أجندة إصلاح طموحة وعد بها شعبه بالفعل. كما دعا إلى عقد مؤتمر وطني شامل قبل الانتخابات الجديدة للتوصل إلى خارطة طريق لما أسماها "جمهورية جديدة" تشكل فيها الشفافية والمساءلة حجر الزاوية للنظام السياسي الجديد. بينما وعد بتسليم السلطات الرئاسية إلى الرئيس المنتخب -عندما تجرى الانتخابات- وسعى إلى طمأنة الشباب الجزائري القلق بأنه سمع رسالتهم بصوت عال وواضح وأن الوقت قد حان للعمل. وكان أول إجراء له هو إقالة حكومته وترشيح رئيس وزراء جديد ووعد بإعادة بناء "الدولة القومية" على أسس صلبة بدءًا من حكومة جديدة من التكنوقراطيين لإدارة البلاد حتى إجراء انتخابات جديدة. لقد أجل  -إلى أجل غير مسمى- الانتخابات الرئاسية فيما بدا أنه خطأ خطير في الحكم من جانبه.

وفي لقطات فيديو صامتة بثتها محطة التلفزيون الوطنية  بدا الرئيس المريض أكثر حيوية واسترخاء مصافحه زواره والتحدث معهم أيضا؛ شيء نادر جدا.

والجدير بالذكر أن بوتفليقة اختار صديقه القديم والدبلوماسي السابق في الأمم المتحدة الأخضر الإبراهيمي ليعلن على نطاق واسع ما يريد الرئيس فعله. واختيار الإبراهيمي  -الذي لا يشغل أي منصب عام- واجه الأمة كان وسيلة لإبعاد الدائرة الداخلية للرئيس عن الإعلان  وهي مجموعة لم يعد يثق بها الناس.

أمام الإبراهيمي مهمة شديدة الصعوبة لا تقتصر على طمأنة الجزائريين فقط بل القوى الأجنبية التي تشاهد الجزائر أيضا مثل فرنسا. لو أن أي شخص من مسؤولي الدائرة الداخلية الحالية قد أعلن هذا باسم بوتفليقة  -كما هو الحال عادة- فلن يكون لدى الناس إيمان يذكر بما يقال. الإبراهيمي ليس صديق بوتفليقة الموثوق به فحسب، ولكنه أيضًا شخصية وطنية محترمة تتمتع بسجل نظيف.

ومع ذلك فقد فشل كل ذلك حتى الآن في استعادة ثقة غالبية المتظاهرين الشباب الذين فسروا تأكيدات الرئيس بأنها خدعة أخرى لتمديد فترة رئاسته دون انتخابات. في الواقع عرض بوتفليقة متناقض بوضوح، ويفتقر إلى إطار زمني محدد وقبل كل شيء فهو غير دستوري.

وفي بيانه أصر بوتفليقة على أنه لم يفكر في خوض الانتخابات لولاية خامسة بسبب عمره، والأهم من ذلك هو حالته الصحية. وهنا ظهر أنه ينتهك الدستور. وتنص المادة 88 من الدستور المعدل لعام 2008 إلى إقالة الرئيس بمجرد أن يقرر المجلس الدستوري أنه من المستحيل عليه القيام بواجباته. لم يتم تقديم توصية من هذا القبيل من قبل المجلس المعني ، لكن الرئيس نفسه أعلن أنه ليس على ما يرام ليكون رئيسًا!

وفي نهاية المطاف يجب احترام الإطار القانوني المرجعي  -الدستور في هذه الحالة- من قبل الجميع بما في ذلك المتظاهرين. بدلاً من ذلك  ما يحدث بعد ما يقرب من شهر من الاحتجاجات في الشوارع ، هو أن الجزائريين العاديين يلعبون بالقواعد بينما رئيسهم وأنصاره لا يفعلون!

وكان من الممكن تجنب الأزمة وكان لدى الرئيس ومعسكره الوقت الكافي للقيام بذلك بطريقة يمكن أن تمنعها من الخروج عن نطاق السيطرة، لكن بما أن ذلك لم يحدث فكل الخيارات مفتوحة وليس من بينها خيار سهل.

إن المؤتمر الوطني الشامل الذي اقترحته بوتفليقة لم يعقد بعد ناهيك عن إنتاج أفكار ملموسة، نظرًا لأنه مكلف بإعداد خارطة طريق مستقبلية قبل إجراء أي انتخابات جديدة، ستزيد من تفاقم الوضع الملتهب بالفعل. من المرجح أن يستغرق المؤتمر أشهرًا لإنهاء أعماله  مما يعني أن الانتخابات ستكون معلقة.

ومن ناحية اخرى يبدو من المستحيل تنظيم الانتخابات في هذه المرحلة بالنظر إلى عدم الثقة الهائل بين الناخبين والنخبة الحاكمة. هذا بالإضافة إلى أن مغادرة بوتفليقة من دون اتفاقات مناسبة لحكومة مؤقتة ورئيس قادر على حشد الجزائريين الغاضبين الذين يقفون وراءه هي بمثابة قفزة عمياء في المجهول. ولكن هذا قد لا يكون بالضرورة خطوة محكوم عليها.

يمكن أن تؤدي الرئاسة الشاغرة إلى اندلاع العنف بإرسال الجزائر إلى حيث كانت عندما تولى بوتفليقة السلطة لأول مرة قبل 20 عامًا ، لكن هذه المرة ستكون بالفعل حلقة أخرى من فشل الربيع العربي.