يعد النهر الصناعي العظيم أضخم مشروع أقيم في العالم لنقل المياه الجوفية من الصحراء إلى المدن والمناطق الزراعية. ويبلغ طول شبكة الأنابيب الممتدة في هذا النهر حوالي 4000 كم، فيما يبلغ عدد الآبار المحفورة في محيطه نحو 1300 بئر. ويمثل النهر رئة ليبيا المائية التي تغذيها بحوالي 60 في المائة من المياه، لكنه يواجه ومنذ العام 2011 خطراَ داهماَ بسبب الحرب والفوضى وغياب الاستقرار الأمني. 

فمنذ سنوات، تنتشر يوماَ بعد يوم أخبار عن هجوم على موظفين وعمليات تخريب ونهب تطال منظومة النهر الصناعي، والتي تهدد بالتسبب في الجفاف والعطش. ففي أكتوبر 2017، دفع شح المياه، سكان العاصمة الليبية طرابلس إلى حفر آبار يصل عمقها إلى أكثر من 30 مترا بحثا عن المياه. وتفاقمت أزمة مياه الشرب في طرابلس بسبب قيام جماعة مسلحة بتعطيل ضخ المياه من "النهر الصناعي العظيم"، والذي يستخرج المياه الجوفية في الصحراء الجنوبية إلى المناطق الساحلية مثل طرابلس عبر أنابيب عملاقة. 

وتستهدف الجماعات المسلحة المنشآت العامة لتحقيق مكاسب وفرض طلبات معينة، على غرار إعلان إدارة النهر الصناعي، في ديسمبر 2017، أنّ مجموعة مسلحة هددت بنسف مولدات الكهرباء وتخريب الآبار إذا لم يجرِ وقف إمدادات المياه عن تلك المدن التي تسيطر عليها حكومة الوفاق، مؤكدة أنّ المياه لن ترجع إلاّ إذا استجابت السلطات لطلب هؤلاء المسلحين بإطلاق سراح أحد قادتهم المعتقل لديها في طرابلس. 

ورغم التحسن الأمني الذي شهدته ليبيا منذ نهاية العام الماضي، فإن الاعتداءات على منظومة النهر الصناعي تواصلت وبشكل كبير خلال الأشهر الماضية بسبب تواصل حالة الفوضى وانتشار الجماعات المسلحة التي تستغل غياب سلطة الدولة والقانون لتمارس أنشطتها التي تستهدف المنشآت الحيوية في البلاد. 

ففي أبريل 2018، أكدت إدارة جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي، الاعتداء على 27 بئرا من آبار منظومة النهر الصناعي وإهدار 100 ألف لتر مكعب من المياه يوميا. وقالت الإدارة في بيان لها، إن الاعتداءات المتكررة التي تتعرض لها حقول المياه وخطوط منظومة النهر الصناعي ومساراته بمختلف المواقع والاتجاهات، تهدد بتوقف الإمداد المائي عن أكثر من مدينة، إلى جانب الخسائر المادية الجسيمة التي تقدر بالملايين. 

وفي مايو 2018، أكدت إدارة المنطقة الجنوبية بمنظومة الحساونة سهل الجفارة بجهاز النهر الصناعي، ارتفاع عدد الآبار التي تم تخريبها إلى 37 بئرا بالمنظومة. وأوضحت الإدارة أن هذه الآبار كانت من ضمن المستهدف لتركيب مضخات لها الفترة القادمة لتعاود الضخ مرة أخرى. وقالت الإدارة "إن هذه الاعتداءات تعد اعتداء صارخاً على مقدرات الشعب الليبي وتدميراً لمعادلة الحياة الطبيعية في ليبيا ووقف للإمداد المائي إلى أكثر من مدينة يتم إمدادها بالمياه عن طريق هذه الآبار التي تتعرض للانتهاك من قبل الخارجين عن القانون". 

وفي يوليو 2018، أعلن جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي عن وقوع أكثر من 20 اعتداء على مواقع تابعة للمشروع على يد مخربين وإرهابيين. وأرجع رئيس لجنة الأزمة ببلدية طرابلس، ناصر الكريو، أسباب الاعتداءات الواقعة على جهاز النهر الصناعي على مختلف المسارات إلى غياب هيبة الدولة على مختلف المناطق الليبية. وبلغ مستوى العجز أكثر من 300 ألف متر مكعب يوميًا نتيجة السرقات عن طريق الوصلات غير الشرعية، ما تسبب في انخفاض تدفق المياه، وفق لجنة الأزمة. 

ولم تنجو منظومة النهر الصناعي، أيضا من هجمات "داعش" الإرهابي، ففي السابع من يوليو/تموز، لقي شخصان مصرعهما، واختطف آخرون في هجوم شنه التنظيم على حقل آبار المياه بموقع تازربو بجهاز النهر الصناعي الليبي. وسَطَت المجموعة الإرهابية على محتويات الموقع من سيارات وآليات، قبل أن تقتل المهندس هشام محمود هاشم، وحسين إبراهيم الزوي، أحد أفراد كتيبة حماية الموقع. . 

وقال جهاز تنفيذ وإدارة مشروع "النهر الصناعي"، إن الجماعات الإرهابية المسلحة قامت باختطاف فردين من كتيبة حماية النهر؛ هما "فايز بوخديجة وناجي الأبيرش" إلى جانب نهب وسرقة جميع السيارات بالموقع. كما أدى الهجوم إلى ترحيل العائلات والمستخدمين ضمانا لسلامتهم. 

وجاء ذلك في أعقاب اختطاف ثلاثة مهندسين فلبينيين وآخر كوري جنوبي من قبل مجموعة مسلحة اقتحمت موقع منظومة الحساونة بسهل الجفارة التابع للجهاز في 6 تموز/يوليو، بحسب جهاز تنفيذ وإدارة مشروع النهر الصناعي. والمخطوفون هم عناصر أساسية في حسن سير العمل في منشأة النهر حسب الجهاز. وقالت تقارير إعلامية إن المجموعة المسلحة اختطفت أيضا عدة عمال ليبيين في الهجوم الذي شنته، لكنها أفرجت عنهم فيما بعد. 

وحمّل الجهاز في بيانه، المجموعة المسلحة المسؤولية الكاملة لسلامة المهندسين الأجانب، مطالبا بإطلاق سراحهم. وأشار الجهاز إلى أن مثل هذه الأعمال لها الأثر السلبي على أعمال التشغيل والصيانة بالمنظومة، ومن ثم توقف الإمداد المائي بشكل كامل على المدن والمشاريع الزراعي بالمنطقة الغربية وخاصة مدينة طرابلس. 

تعدد الحوادث وتصاعدها، دفع منظمة "يونيسف" إلى التحذير من الأعمال العدوانية التي تستهدف منظومة جهاز النهر الصناعي في ليبيا. فقد أشارت المنظمة في بيان لها نشره مكتب اليونيسيف في ليبيا على صفحته على "فيسبوك" في 16 تموز/يوليو، إلى أن "النهر يعد أكبر مصدر للمياه في ليبيا، ويساهم بنسبة 60 في المئة من إمدادات المياه للأطفال والعائلات في جميع أنحاء البلاد. وصول المياه الذي يعد حقا أساسيا من حقوق الإنسان، يجب أن يكون في طليعة الأولويات الحكومية بحسب شرعة حقوق الإنسان. وفي ليبيا، أطراف الصراع مسؤولة عن وقف الهجمات على مرافق المياه". 

وبدوره، دعا مجلس قبيلة الحساونة للدفاع عن منظومة النهر الصناعي. وأكد المجلس في بيان له أن النهر الصناعي بالحساونة ثروة قومية دونها الشهادة والموت من أجل ليبيا وشعبها الأبي. كما أعرب عن تطلعه بأن يعمل أعيان المنطقة الجنوبية برفع الغطاء الاجتماعي عن أولئك المجرمين الذين يعملون على تخريب المنظومات وسرقاتها وتدميرها لتعطيش الليبيين في شمال البلاد. وناشد المجلس النائب العام بضرورة فتح تحقيقات في هذه الملفات التخريبية كلها وحال معرفة الجناة فإن القصاص منهم هو واجب وطني لا نزول عنه. 

كما ناشد عدد من حكماء وأعيان مناطق الجبل الغربي، الجهات المختصة، بتأمين منظومة النهر الصناعي من التعديات المتكررة التي تطالها. ودعا الحكماء في بيان لهم، في 28 يوليو 2018، برفع الغطاء الاجتماعي عن الخارجين على القانون، والعمل على دعم مشروع النهر الصناعي لإعادة تأهيل الآبار التي تعرضت للتخريب وذلك بتكليف الكتيبة 177، وتكثيف الإجراءات الأمنية لحماية مواقع الحقول، وإزالة جميع التوصيلات غير الشرعية على طول خطوط النقل. 

من جهة أخرى، أمر القائد العام للجيش الوطني الليبي، المشير خليفة حفتر، في يوليو 2018، بالبدء في تنفيذ خطة محكمة لتأمين منطقة مشروع النهر الصناعي، تحسّبا لتعرضها إلى هجمات إرهابية جديدة محتملة. وبدأ الجيش الليبي في تنفيذ إجراءات أمنية مشددة، وتسيير دوريات أمنية مكثفة في منطقة مشروع النهر الصناعي، بهدف تأمين المنطقة والأهداف الحيوية التي تضمها، وذلك عقب الهجوم الإرهابي الذي استهدف مقر منظومة مشروع النهر الصناعي الواقعة بمنطقة تازربو. 

ويعتبر النهر الصناعي شريان حياة أساسي للسكان في هذا البلد محدود الموارد الطبيعية، حيث تشكل الصحراء القاحلة جزءً ضخما من أراضي ليبيا التي تبلغ مساحتها مليون وثمانمائة ألف كيلومتر مربع، والمطر فيها شحيح لا سيما في صحرائه التي تمثل أكثر من 90 في المئة من حجمه، بحيث وفي الألفية الثانية ولمدة 10 سنوات لم تمطر سوى مرتين. ويزيد من القحل الهضبة الإفريقية التي تمتد على أرضها، في حين أن 7 في المئة فقط من الأراضي صالحة للزراعة حسب التقديرات الحكومية الليبية. 

وتعتبر أزمة المياه عبء جديد على كاهل المواطن الليبي يضاف إلى أزمات أخرى أبرزها انقطاع الكهرباء، ومأزق السيولة النقدية، وتردي الخدمات الصحية، وما يزيد هذه الأزمات تفاقما، الاشتباكات بين جماعات مسلحة تتنافس على السيطرة والنفوذ في الدولة الغنية بالنفط والفقيرة حاليا في بنيتها التحتية.