إثر أحداث سنة 2011 بليبيا، فقدت الدولة سيطرتها على أجهزتها بمفعول قوة المجموعات المسلحة وتكالب مختلف الأطراف على الحكم ودب الفشل إلى أغلب مؤسساتها الأمر الذي جعلها لا تملك آليات التسيير وأخذ القرار.

تلك المرحلة الجديدة من سيطرة المليشيات أول ما وضعت أمام أعينها مقدرات البلاد المالية والنفطية لتبدأ مرحلة ممنهجة من الفساد جعلها في أسوأ سلالم الفساد في العالم. ففي عام 2011، وفي آخر تصنيف أصدرته منظمة الشفافية الدولية عن الفساد كانت ليبيا تحتل المرتبة 146 من بين حوالي 180 دولة. بالتأكيد كان ترتيبا سيئا يبيّن أن خللا ما موجود حى في تلك الفترة.

أما بين العام 2012 و2017 فلم تخرج ليبيا عن العشرين دولة الأكثر فسادا في العالم، بل كانت في أغلب هذه السنوات في العشر مراتب الأخيرة ما يعطي دليلا واضحا أن الشعارات التي رفعت في 2011، كانت مجرّد خدعة تمهّد لمرحلة تالية أعقد وأصعب كان للمليشيات والفوضى الإدارية والسياسية دور فيها.

وفي أحدث تقرير له، وجّه ديوان المحاسبة الليبي في العاصمة اتهامات صريحة لأشخاص وجهات لم يسمها، بـ"الفساد والخيانة"، ورصد وقائع فساد في قطاعات عدة، وقال "إن ليبيا لا تزال تعاني من (دواعش) الاعتمادات والتحويلات الخارجية من مصرفيين فاسدين، وتجار خونة لم يراعوا حاجة المواطن البسيط في الغذاء، وهم حتى الآن يستمرون في نهش ما تبقى من مقدرات الوطن، مستغلين ما تمر به الدولة من تشتت وصراعات".

من جانب آخر، عقد رئيس ديوان المحاسبة في مدينة البيضاء عمر عبد ربه اجتماعا موسعا مع أعضاء اللجنة المكلفة بإعداد التقرير السنوي للعام 2018، وشدد عبد ربه على عمل اللجنة والإسراع في إنجاز التقرير قبل شهر مارس من العالم الجاري.

ووجه كافة الإدارات إلى أهمية شمولية التقرير لباقي المؤسسات الخاضعة للمتابعة وفق القوانين واللوائح كما رئيس ديوان المحاسبة الليبي على أهمية دراسة العقود التي تفوق قيمتها الـ5 ملايين دينار بحسب المعايير الرقابية المعمول بها.

في ذات السياق اجتمع ديوان المحاسبة في طرابلس لمتابعة عمل اللجان الخاصة بإعداد التقرير السنوي للعام الجاري، وخلص الاجتماع إلى جزء خاص من التقرير يرصد المخالفات الإدارية والمالية للبلديات وبعض القطاعات الخدمية التابعة لها وستعمل اللجان المشكلة من لجنة عليا ولجنتين فرعيتين على رصد كافة المؤسسات العامة.

ووصف ديوان المحاسبة الإنفاق السنوي بــ"المبالغ فيه"، إذ أورد أن المجلس الرئاسي أنفق نحو مليوني دينار على تجهيزات مكاتب أعضاءه.

وبين جدول توضيحي أن تجهيز مكتب النائب بالمجلس الرئاسي، فتحي المجبري، وصل نحو 923 ألف دينار، أما تجهيز مكتب النائب أحمد حمزة فبلغ نحو 632 ألف دينار، ووصلت قيمة تجهيز الجناح الرئاسي حوالي 464 ألف دينار.

ويشير تقرير ديوان المحاسبة إلى أن إجمالي النفقات الفعلية لديوان مجلس الوزراء قفز بنحو 300 %.

في حين أن الليبيون يقفون طوابير طويلة لساعات من أجل استلام نحو 500 دينار أو أقل من رواتبهم الشهرية، أو من أجل شراء سلع غذائية مدعومة، والتزود بالغاز المنزلي بينما يظهر تقرير ديوان المحاسبة حسب محللين اقتصاديين "إسرافا في هدر المال العام".

في نفس الإطار يرى رئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري” في تصريحات صحفية بأن الإصلاحات الاقتصادية تقوم على معالجات عدة منها النقد الأجنبي وأسعار المحروقات مضيفا بأن إجراءات أخرى ومعالجات يجب أن تشكل مرتبات القطاع العام التي تشهد تفاوتا بينها يصل إلى 3 أضعاف مما تسبب في ازدياد الفساد والمحسوبية، داعياً إلى إعادة جدولة المرتبات وانهاء حالة الانقسام بين المؤسسات الحكومية، وعدم التفاهم فيما بينها.

يرى مراقبون أن الانقسام المؤسساتي، والصراع بين الشرعيات الموازية، وانتشار المجموعات المسلحة بالقرب من مركز إصدار القرار تقف وراء تفشي الفساد الذي شمل كل مفاصل الدولة و الخطورة الحقيقية تكمن في مستقبل الدولة الليبية حيث إذ تواصل هذا النزيف في المالية العمومية سيؤثر حتما في مصير الأجيال القادمة.