منذ عزل الرّئيس محمّد مرسي عن الحكم بواسطة الجيش في 3 يوليو/تمّوز 2013 عقب مظاهرات شعبيّة حاشدة ,تغيّرت الكثير من المعطيات في المشهد الإقليمي و تشابكت الخيوط و تبعثرت الأوراق من جديد بعد أن كان جلّ المراقبين يتحدّثون عن سيطرة قوى الإسلام السياسي في دول "الربيع العربي" الشمال-إفريقية الثلاثة المتجاورة ,و بدا الأمر في نظر الملاحظين كأنّه قدريّ و أبدي خاصة و أنّ وصول هذا التيار الى الحكم كان عبر صناديق الإنتخابات ,بمعنى أنّه ليس شيئًا مسقطًا بل نابع من الإرادة الشّعبية و محميّ بها كذلك .
فالحراك الشّعبي 30 يونيو 2013 الذي أدّى إلى إستلام الجيش المصري للسلطة عقب تحذير بـــ48 ساعة لجميع الفرقاء بإنهاء الخلاف و الخروج من الأزمة التي وضعت مصر حينها على الخط الأخير من حدود الحرب الأهليّة ,كان بداية لمسار كامل جديد ,فقد كان تدخّل الجيش حاسمًا بعد إنتهاء مهلة اليومين بإزاحة الرئيس مرسي و تنصيب رئيس مؤقّت و حكومة جديدة ,و بغض النّظر عن الجدل الإصطلاحي الدّائر حول ماهية ما حصل يومها هل هو "إنقلاب" أم "ثورة" فإنّ الشيء المؤكّد و الواضح على الأرض هو وجود تأثيرات عميقة لهذا الحدث على خارطة المنطقة و على الحسابات الاستراتيجية لمختلف المعسكرات السياسية بمافيها حسابات الدّول الكبرى ,كما كان الحدث دعوة رسميّة للمراقبين بضرورة مراجعة الحديث عن إنتصار نهائي لقوى الإسلام السياسي في المنطقة ,خاصة و أنّه قد خسر أوّل "معاركه" في مصر و هي أرض المنشأ لتيار الإخوان بتفرعاته العالمية بمافيها تلك الحاكمة في دول أخرى .
30 يونيو كانت نقطة تحوّل مفصليّة في الكثير من الملفات الدّيبلوماسيّة بمافيها علاقة مصر بالكثير من الدّول الأخرى,فقد تعكّرت علاقة مصر كثيرًا وصلت الى حدّ القطيعة تماما بينها و بين تُركيا ,في حين عرفت علاقتها إنتعاشًا ملحوظًا مع دول الخليج و سوريا و روسيا مقارنة بفترة حكم الرئيس مرسي ,كما تعكّرت العلاقة و إن بشكل أقل حدّة مع تونس خاصة إثر خطاب الرّئيس المؤقت منصف المرزوقي في الأمم المتحّدة الذي دعى فيه الى الإفراج عن مرسي ,في حين لم تكن العلاقات مع الولايات المتحّدة هي الأخرى بمنأى عن هذه الإهتزازات فقد هدّدت واشنطن بقطع المساعدات عن مصر قبل أن تقبل بالتعامل مع الأمر الواقع حين ظهر لها أن ذلك لن يؤثّر على صلابة موقف القيادة المصرية الجديدة ,خاصة مع التقارير التي تتحدث عن نزوع مصري جديد أكثر توجّه نحو موسكو و هو أمر يضعه المراقبون داخل كلٍّ أشمل يترجم عن عقيدة "ناصريّة" للجيش المصري و قيادته الجديدة بإرثها التاريخي و الفكري الدّائر حول مسألة التحرّر الوطني و عدم الإنحياز و لا التبعيّة.
فهذه الخطوط العريضة للتأثيرات الدّبلوماسيّة و الجيو-إستراتيجيّة لما حدث في يوليو/تمّوز الماضي في مصر ,و في التّفاصيل كان للحدث تأثيرات على علاقات مصر مع دول الجوار و منها ليبيا التي عرفت العلاقات معها إنتعاشًا ملحوظًا في عهد الرئيس مرسي .
و بالعودة للوراء قليلاً نجد أن العلاقات بين البلدين و منذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القدّافي لم تكن واضحة المعالم ,خاصة ان أوّل زيارة للمشير طنطاوي للتهنئة بإنتصار الثّورة الليبية كانت متأخّرة نسبيا بعد ثلاث أشهر من اعلان انتهاء المعارك ,و كان الإستقبال حينها فاترًا و باردًا يترجم عدم الإرتياح الذي يحكم علاقة المجلس العسكري المصري حينها مع دولة مجاورة خارجة من حرب أهلية تحكمها ميليشيات مسلّحة غير منتظمة في هيئة واضحة ,إضافة إلى موقف مصر من تدخّل الناتو حيث لم تشارك مصر عمليًا في المعارك و لم تفتح حدودها كمنافذ لإدخال السّلاح و المقاتلين إلى ليبيا الأمر الذي يبدو أنّه أثّر على العلاقة بين المجلس العسكري الحاكم حينها في مصر و بين المجلس الوطني الإنتقالي الليبي بقيادة مصطفى عبد الجليل .
هذه العلاقة عرفت إنتعاشًا نسبيًا في عهد مرسي حيث ضخت ليبيا ودائع مالية هامة في البنوك المصرية و فتحت ملفات كبيرة أبرزها ملف العمالة المصريّة حيث تعدّ ليبيا أحد أهم الأسواق التي تعتمد عليها مصر للتنفيس عن أزمة البطالة و التشغل ,و رغم أنّ هذه المسألة مازالت تبحث عن حل جذري خاصة مع إعتمادها في كلّ مرّة تنشب فيها خلافات بين البلدين كورقة ضغط سياسي ,حيث خرجت -مثلاً- الكثير من المظاهرات في ليبيا في مرّات كثيرة مطالبة بطرد العمالة المصريّة ردًّا على إيواء مصر لعناصر محسوبة على نظام العقيد القدّافي .
و هذه نقطة خلافيّة أخرى بين البلدين تعمّقت أكثر إثر عزل مرسي عن الحكم ,فقد برّأ القضاء المصري مؤخّرًا أحمد قدّاف الدّم قريب العقيد القدّافي و المنسّق السّابق للعلاقات المصرية/الليبية من تهم منسوبة اليه تتعلّق بالاعتداء على عناصر امن مصريّة ,و الذي كانت محكمة مصريّ في وقت سابق أيضًا رفضت تسليمه لليبيا بإعتباره حاملاً للجنسيّة المصريّة ,الشيء الذي تعتبره ليبيا غير مقبول خاصة مع ظهوره الإعلامي الأخير متحدّثًا عن الوضع في ليبيا بعد 17 فيراير .
مسألة أخرى تبدو أنّها تأزّم العلاقة أكثر بين البلدين و هي إيواء القاهرة لقيادات "الحركة الوطنية الشعبية الليبية" التي تقود العارك الحالية في ليبيا ضد النّظام إنطلاقا من الجنوب و من شرق طرابلس ,حيث عقد المتحدّث بإسم الحركة أسعد زهيو ندوة صحفية في القاهرة في ديسمبر الماضي أعلن فيها ما سمّاه بدأ المسيرة لإنقاذ ليبيا ,و هذه الخلافات التي تراكمت و تعقّدت أكثر في الفترة الأخيرة عبّرت عنها صراحةً حادثة إعتقال القيادي الليبي "أبو عبيدة" في مدينة الإسكندريّة ,الشيء الذي دفع كتائب مسلّحة في ليبيا الى خطف ديبلوماسيين مصريين في طرابلس كردّ فعل على العمليّة و للمطالبة بالإفراج عن القائد الليبي المعتقل في مصر .
و رغم تأكيدات الطّرفين عن أنّ هذه الأحداث لن تؤثّر عن العلاقات التاريخيّة المتينة بين البلدين و هي جُمل تصاغ عادة بطريقة ديبلوماسيّة فإنّها لا تترجم فعلا حقيقة الأزمة القائمة التي يذهب الملاحظون إلى أنّها تسير نحو مزيد من التوتّر خاصة مع الهمس الدّائر حول دور محتمل للمخابرات المصرية في أحداث الجنوب الليبي الأخيرة و هي معلومات لا ترقى الى كونها معطيات ثابتة بقدر ماهي قراءات تصدر من هنا و هناك و لا يمكن البناء عليها و لا التعامل معها إلا بالإشارة العابرة .

و ككل فروع الإخوان في العالم كان لإخوان ليبيا موقف واضح من 30 يونيو في مصر فقد كان موقفهم منحازًا للرئيس مرسي و لجماعة الإخوان تمامًا كموقف حركة النّهضة في تونس و حزب العدالة و التنمية في تركيا الذي كلّفها قطع العلاقات مع مصر ,فقد ذهب إخوان ليبيا الى الدعوة المؤتمر الوطني الى سحب الثقة من رئيس الحكومة علي زيدان على خلفيّة زيارته الى القاهرة ,التي إعتبروها بمثابة "إعترافٍ بالإنقلاب".
و وسط كلّ هذا يبقى الشّيء المؤكّد أن مصر ما بعد 30 يونيو هي بصدد كتابة فصل جديد من تاريخ المنطقة و إعادة خلط الأوراق وسط ضبابية تحكم مشهد العلاقات الدّوليّة الجديد الذي يبدو أنّه يعيش بدوره تحوّلات عميقة أبرزها عودة الدّب الرّوسي ليكون قطبًا ثانيًا تدور حوله دول كثيرة قد تكون من بينها مصر ,مقابل القطب الأمريكي الذي تدور في فلكه كثير من الدّول و التّنظيمات منها جماعة الإخوان المسلمين بأذرعها الدّوليّة .