بين إرث إستعماري دامي و راهن شراكة إقتصادية قويّة تتأرجح العلاقات التونسيّة الفرنسيّة ،و ان حافظت عبر كل حقبات "دولة الإستقلال" في تونس على نسق عالي من التعاون و الشراكة في كل المجالات ،فعلى المستوى السياسي طالما كانت فرنسا شريكًا رئيسيًا لتونس منذ الإستقلال رغم كلّ مآسي الإستعمار الذي دام من العام 1881 الى العام 1956 ،فبورقيبة كان واضحا في خياره السياسي من خلال التقارب مع الغرب على عكس كل التجارب السياسية الأخرى في المنطقة التي كانت في معظمها قريبة من المعسكر الإشتراكي الشرقي خاصة في كل من مصر و الجزائر ،فالتكوين الثقافي لبورقيبة و فكره المتحرّر ذو النّزعة الليبيرالية المنبهر بنموذج الأنوار الفرنسي و العلمانية الفرنسية حيث درس في باريس و عمل في المحاماة كانت لها بلاشك تأثير فى خيارات و توجّهات "المجاهد الأكبر" ما إنعكس بدوره على المنهج السياسي العام للبلاد و على تحالفتها الإستراتيجية و علاقتها الدّوليّة .

فطيلة الفترة البورقيبية في تونس من العام 1956 حتى العام 1987 كانت العلاقات الفرنسية التونسية على أعلى مستوى من الشّراكة في كل المجالات الإقتصادية و السياسية و الأمنية و العسكريّة و حتى الثقافية على مستوى مناهج التعليم و غيرها ،و رغم بعض الهزّات العابرة كمسألة تأميم أراضي المستعمرين و أحداث معركة بنزرت الدّامية فان العلاقة عموما لا يُمكن وصفها إلاّ بالجيّدة و القويّة و المتينة.

عندما قام الرئيس السابق زين العابدين بن علي بإزاحة "الرّجل المريض" على الحكم في "إنقلاب طبّي" يوم 7 نوفمبر 1987 لم تتغيّر العلاقات التّونسيّة الفرنسيّة إلاّ في الإتجاه الإيجابي ،فكل التقارير و الخبراء كانوا يؤكّدون على أنّ بن علي كان أقرب ما يكون الى فرنسا منه الى الولايات المتحدة ،بل أنّه لم يكن خاصة في السّنوات الأخيرة من حكمه قبل الثّورة التي أطاحت به في 14 يناير 2011 على وفاق تام مع الولايات المتحّدة الأمريكيّة ،بل كانت فرنسا هي خليفه الإستراتيجي الأوّل و ربّما يتبيّن ذلك من خلال موقف وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك أليو ماري التي دعت الى دعم نظام بن علي بوسائل تساعد على قمع الإنتفاضة الشّعبية في البلاد و وأد الثّورة التي قد تطيح بنظامه .

 وتتحدّث أرقام المبادالات التجارية بين البلدين عن أن فرنسا هي الشّريك الإقتصادي الأول و الأهم لتونس و أنّها تستحوذ على ما نسبته 20% من إجمالي واردات البلاد التونسيّة و عن نسبة 27% من نسبة الصادرات . كما بلغ حجم المبادلا التجارية بين البلدين في العام 2011 قيمة 7.6 مليارات يورو (9.4 مليارات دولار)، وتشير بعض الإحصائيات الى أنه تنشط في تونس قرابة 1200 شركة فرنسية.

كما تعد فرنسا أكبر دائن لتونس بحيث فاقت ديونها ثلاثة مليارات دينار (1.8 مليار دولار) في العام 2010 ما يشكل 12.8% من إجمالي ديون البلاد الخارجية حسب بيانات البنك المركزي التونسي، وبلغت الديون الأجنبية في العام نفسه أكثر من 21.8 مليار دينار (12.2 مليار دولار) أي 34.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وذلك من إجمالي ديون تفوق 72 مليار دينار (44 مليار دولار)، أي 114% من الناتج المحلي الإجمالي حسب مصادر اعلامية .

و كانت المبادلات التجارية بين تونس وفرنسا تضاعفت أكثر من ثلاث مرات منذ توقيع اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي سنة 1995، إذ مرت من 2 مليار أورو إلى 7 مليارات أورو سنة 2009 .

و حسب دراسة أنجزها موقع "نواة" التونسي فإنّ فرنسا تتصدّر قائمة الدول المستثمرة في السوق التونسيّة على صعيد الاستثمارات الخارجيّة ،إذ تملك لوحدها ما يقارب 1269 شركة في تونس أي بما نسبته42 % من إجمالي الاستثمارات في البلاد. هذا وتتوّزع الاستثمارات الفرنسيّة على جميع القطاعات تقريبا، حيث يبلغ حجم الاستثمارات الفرنسيّة في المجال الصناعيّ ما يقارب 150 مليون دينار تونسي.

وتهتم فرنسا بالاستثمار في عدة قطاعات في تونس من بينها مجالات التكنولوجيات الحديثة لكفاءة الخبرات التونسية في هذا المجال. وبلغ حجم الاستثمار الأجنبي المباشر في تونس 2.21 مليار دولار في العام 2008 من بينها نحو 504 ملايين دينار استثمارات فرنسية. ويشير موقع الانترنت للسفارة الفرنسية في تونس إلى أن فرنسا أكبر شريك تجاري لتونس وهي أكبر مستثمر أجنبي في قطاع النفط. وبلغت المبادلات التجارية بين البلدين خلال عام 2008 نحو 7.2 مليار دولار.

 

"ثورة 14 يناير" و تغيّر المعطيات في لعبة النّفوذ :

 

تلك اللحظة السياسية الفارقة بالذّات في تاريخ تونس المعاصر التي أسقطت حكم الرئيس بن علي المحتكر للسلطة و الدّولة منذ 23 سنة لم تحسن فرنسا التعامل معها ،في حين أتقنت الولايات المتّحدة الأمريكيّة إلتقاطها و توظيفها في اتجاه سحب بساط النّفوذ السياسي و الإقتصادي و حتّى الأمني من تحت أقدام المستعر الفرنسي القديم ،فقد وقف الرئيس الأمريكيّ أوباما وأعضاء الكونغرس ليصفّقوا “للثورة التونسيّة” طويلا ،و تكلّم أوباما بكلام جميل مؤثّر عن هذه الثّورة و قام بتحيّة من قاموا بها و كان الإخراج باهرًا بدرجة حسّنت كثيرا صورة الولايات المتحّدة في ذهن الكثير من التّونسيين ،لحظة أحسنت الولايات المتّحدة فيما بعد إستثمارها في توسيع حضورها في تونس من خلال دور سفيرها جاكوب وولس الذي لعب دورا كبيرا حسب ما يقول الخبراء في الحوار الوطني الأخير الذي أفرز حكومة المهدي و أخرج البلاد من حالة إحتقان سياسي كبير .

و يقول الباحث و الخبير الإقتصادي محمد سميح الباجي عكّاز في مقال له حول الموضوع في موقع "نواة" الإستقصائي التونسي معلّقا على تصريح رئيس الحكومة التونسية بعد الثّورة الباجي قايد السّبسي حين قال : "عندما يتحدث أوباما عن تونس ويصفق أعضاء الكونغرس بقوة فهذا يعني أنّنا على الطريق الصحيح وانه لا يجب أن نحيد عن هذا الطريق" بأنّ :" الأحداث التالية على أنّ تونس تسير فعلا في الطريق الصحيح نحو استبدال المظلّة الفرنسيّة بأخرى أمريكيّة، وأنّ البلاد أو قادة البلاد يسيرون وفق الخطّة الأمريكيّة القاضية بتدعيم تواجدهم على الساحة الشمال افريقيّة" وفق تعبيره .

و يضيف صاحب المقال :" شهدت العلاقات الإقتصاديّة الأمريكيّة تطوّرا ملحوظا منذ سنة 2011، فإلى حدود سنة 2010 ظلّ الحضور الأمريكيّ على صعيد المبادلات التجاريّة ضعيفا، حيث لم تتجاوز صادرتها إلى تونس سنة 2010 حدود 320 مليون دينار وبنسبة 1.6% من إجمالي واردات البلاد، في حين كانت الصادرات التونسيّة إلى السوق الأمريكيّة تبلغ 430 مليون دينار وهو ما مكّن البلاد من كسر العجز التجاريّ وتحقيق فائض في الميزان التجاريّ مع الولايات المتحدة وبنسبة تجاوزت 2.5% من مجموع الصادرات. ويعود ذلك كما أشرنا سابقا إلى طبيعة العلاقات السياسيّة التي كانت تحكم البلاد والتي فرضت هيمنة الإتحاد الأوروبي وفرنسا بالخصوص على العلاقات التجاريّة لتونس ومحاولة التقليل من الحضور الإقتصادي الأمريكي في البلاد في إطار لعبة تقاسم النفوذ السياسيّ والأسواق العالميّة. ولكن وحسب إحصائيات منظّمة التجارة الدوليّة والمعهد الوطني للإحصاء، فقد شهدت العلاقات التجاريّة التونسيّة الأمريكية تحسّنا ملحوظا منذ سنة 2011، ففي حين حافظت الصادرات التونسيّة على استقرارها، ارتفعت الصادرات الأمريكيّة بنسبة 1.5% سنة 2013 لتبلغ نسبتها الجمليّة 3.1% من إجماليّ واردات تونس أي ما يقارب الضعف تقريبا خلال سنتين فقط".

و في الحقيقة فإنّ المؤشرات الإقتصاديّة لثلاث سنوات وحدها لا يمكن أن تكون دليلا على هذا التحوّل ،فالتغيير في العلاقات الإستراتيجية  و الشراكة الإقتصاديّة لا تكون عادة بقفزة مباشرة واضحة بل بتراكم عبر سنوات طويلة لذلك من غير المستبعد بل من المنتظر فعليا ان تتدعّم هذه الأرقام في هذه الإتّجاه بشكل أقوى بما قد يُزيح فرنسا عن المرتبة الأولى في الشّراكة مع تونس و لتأخذ مكانها الولايات المتحّدة الأمريكيّة .

و في المقابل فإنّ المعطى الإقتصادي مدعوم كذلك بتحوّلات حادة على مستوى العلاقات السياسية و الأمنيّة  ،فبعد "ثورة 14 يناير" لا يستطيع الملاحظ فتور العلاقة الدّيبلوماسية الواضح بين تونس و فرنسا في مقابل انتعاش كبير على مستوى العلاقة مع الولايات المتحّدة الأمريكيّة ،فتور سببه موقف فرنسا المذكور من الثّورة و عمّقه وصول الإسلاميين الى السّلطة ،ففي مقابل تحالف بين هؤولاء و الإدارة الأمريكية يصفه الخبراء بأنه تحالف وثيق ،فإنّ تصريحات رئيس الوزراء الحالي مانويل فالس لما كان وزيرا للداخلية في فبراير من العام 2013 عقب إغتيال المعارض السياسي شكري بالعيد حين قال بأنه :" يتعين على فرنسا دعم الديمقراطيين في تونس لضمان عدم خيانة القيم التي قامت من أجلها ثورة الياسمين" و وتأكيده “أنّ فرنسا لن تتهاون أبدا عندما يتعلّق الأمر بقمع شعب”،تصريحات زادت في تعكير العلاقة السياسية ،حيث إعتبرتها قيادات حركة النّهضة الحاكمة أنذاك “غير ودّيّة ومثيرة للقلق”، مثلما جاء على لسان وزير الخارجيّة التّونسي رفيق عبد السّلام ،أو في ردّ فعل زعيم الحركة راشد الغنوشي ، الذي وصف فرنسا بأنها أقل البلدان فهما للإسلام والتونسيين.

في المقابل نجد توسّعا للنفوذ الأمريكي في تونس و في جميع المجالات خاصة الأمنية و العسكريّة فقد عبّر قائد القوات الأمريكية بإفريقيا “أفريكوم” الجنرال دافيد رودريغيز إبّان اجتماعه مع رئيس الحكومة السابق علي العريّض في نوفمبر من العام  2013 عن أن مكانة تونس قد تقدّمت كثيرا على سلّم الأولويات الأمريكيّة ،و يأتي هذا وسط حديث عن تكثّف الحضور العسكري الأمريكي على التراب التونسي كما أفادت بذلك و في مرات كثيرة مصادر اعلامية .

و قد بلغ مجموع المساعدات العسكرية الأمريكية لتونس منذ 14 يناير/كانون الثاني 2011، ما يقرب عن 32 مليون دولار وهو تقريبا ضعف المساعدة المقدمة مباشرة قبل ذلك التاريخ و هو مؤشر مهم جدا على هذه النّقلة النّوعية و التطوّر الكبير في حجم و شكل و طبيعة العلاقة .

أما على المستوى الإقتصادي فقد شهدت العلاقات التجاريّة التونسيّة الأمريكية تحسّنا كبيرا منذالعام  2011، ففي حين حافظت  نسبة الصادرات التونسيّة إلى الولايات المتحدة على استقرارها،فقد  ارتفعت الصادرات الأمريكيّة بنسبة 1.5% سنة 2013 لتبلغ نسبتها الجمليّة 3.1% من إجماليّ واردات تونس أي ما يقارب الضعف تقريبا خلال سنتين فقط و هي كذلك مؤشر مهم جدا في هذه الناحية باعتبار ان السوق التونسية أصبحت أكثر انفتاحا عن السلع الأمريكية .

و تأتي زيارة رئيس الحكومة التونسية المؤقتة المهدي جمعة الى باريس و التي تمتد ليومين بعد زيارة أخرى مشابهة الى الولايات المتحّدة أوّل شهر إبريل/نيسان الجاري إلتقى خلالها العديدة من الوجوه السياسية الأمريكيّة على رأسها الرئيس باراك أوباما ،زيارة أكّد خلالها جمعة على أنّ "تونس تتطلّع الى فتح آفاق مستقبلية عبر الحوار الإستراتيجي بين تونس و الولايات المتحدة الأمريكية" .

هذه "الإستراتيجية" في  العلاقة التي بدأت تتكرّس و يعسى الطّرفان الى دعمها من خلال تبادل المصالح و هي القاعدة الأولى في السياسة الخارجية الأمريكية ،هذا التحوّل يبدو أن فرنسا قد فهمته جيّدا ما إنعكس على تصريح رئيس الوزراء الفرنسي أمس الإثنين 28 إبريل/نيسان 2014 لدى إستقباله للمهدي جمعة حين قال :"من مصلحة فرنسا و أوروبا دعم الثّورة التونسية" ،و هو