تتردد جملة "ما بعد كورونا" اليوم كثيرا على ألسنة الناس، إلى درجة تشعرك، كأن هناك انتفاضة قادمة سوف تزلزل كل القناعات، وتربك كل الخطط والبرامج، وتزيل من على فوق الأرض كل العقول التي عشش فوقها الجهل والتخلف، وخيمت على مساحات التطور والنمو، فهناك ''اقتصاد لما بعد كرونا'' وهناك ''سياسة لما بعد كرونا'' وهناك ''ثقافة ما بعد كرونا''، وهناك "حياة اجتماعية لما بعد كورونا"، وهناك "صحة لما بعد كورونا"، وهناك "قيم لما بعد كورونا"، وهناك "سلوكيات لما بعد كورونا"، وهناك "جيل لما بعد كورونا" وغيرها الكثير مما نسمعه هذه الأيام.


 
في ظل نقص، كي لا أقول انعدام الدراسات الاستشرافية الرصينة عن الوضع العالمي بعامة والعربي بخاصة، بعد كورونا، يصعب الخوض في هذا الموضوع الشائك إلا على سبيل التكهن، كما يفعل الكثير من الإعلاميين وحتى المفكرين. فقد استنزف كورونا تريليونات الدولارات من الثروات، وأنهك الاقتصادات وهوى بمؤشرات البورصات وأغلق الدول والأسواق، وأوقف كل أشكال الحياة، وقيد الناس وحجر على نصف سكان العالم في منازلهم في حدث لم نشهده من قبل، وعجز الساسة والأطباء والعلماء والخبراء المحنكون ومراكز الأبحاث والدراسات واستشراف المستقبل عن الإجابة على أهم سؤال وهو: كيف سيكون العالم العربي بعد كورونا؟ 


وعن هذا السؤال يصعب أن نجد إجابة قاطعة وشافية، لأن الأمر يتعلق بالمستقبل من جهة، ولأن ثمة روايات عدة ومتناقضة في تفسير ظهور الفيروس، وكل واحدة من هذه الروايات تصلح أساساً لقراءة المستقبل قراءةً مختلفةً، لكننا يمكن أن نلاحظ في هذا المجال اتجاهين عامين يميل أحدهما إلى تضخيم تداعيات الجائحة وآثارها إلى حد القول بأن العالم سيشهد بعدها تغيرات دراماتيكية تقلبه رأساً على عقب، بينما يميل الاتجاه الثاني إلى التقليل من شأن هذه التغيرات المزعومة وقدرتها على إحداث انقلاب جوهري في النظام العالمي السائد... وما يزيد من صعوبة تصور الوضع العالمي بعد كورونا هو أن هذه الأزمة مركبة وذات أبعاد متعددة، سياسية واقتصادية وصحية وفكرية وأخلاقية... وكل هذا يتطلب توخي أكثر ما يمكن من الحذر وتوخي أكثر ما يمكن من الموضوعية إذا أردنا أن نتحدث عما سيكون عليه العالم بعد الفيروس.


سؤال يهمنا نحن العرب، الذين نعاني حالة من التشرذم، وصلت في السنوات الأخيرة إلى حد الحروب التدميرية الطاحنة، وهو: هل ستتغير الأجندات الوطنية والإستراتيجيات الدولية بعد تجاوز تبعات فيروس كورونا على دول العالم؟ 


سؤال مطروح ويمتلك الطرح شرعيته، من خلال ما شكله هذا الفيروس من صدمة قوية على المستوى العالمي، سواء كان ذلك في البعد السياسي أم الشعبي والجماهيري، فقد عرّى الفيروس أنظمة كثيرة، وبين درجة قصورها في مجال الصحة العامة، وتركيزها على فكرتي استحواذ المال وعسكرة العلاقات الدولية وتكريس ثقافة القوة في إدارة العلاقات الدولية، فيه تجاوز واضح لميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية والحقوق الطبيعية للدول والأفراد، وترافق ذلك كله في اعتداء على الطبيعة، تمثل في قطع الأشجار، وما نتج عنه من تصحر وحرق الغابات وتلويث البيئة عبر نفايات وأبخرة المصانع والمعامل، وعدم التقيد باتفاقية المناخ، إضافة إلى إقامة سدود عملاقة تشير الدراسات الجيولوجية بتأثيرها السلبي في حركة محور الأرض وانزياحاته، إضافة إلى التفجيرات النووية واستخدام الأسلحة المحرمة دولياً في الحروب...

وهل نجانب الحقيقة إذا قلنا  إنها حالة انعدام الثقة بين دول العالم، ولاسيما بين الأقطاب الكبرى التي تجلت في المرحلة الكورونية المعولمة، والتي باتت أكثر قدرة وتأثيراً على حياة الشعوب وإلى درجة أصبحت من خلالها منظمة الصحة العالمية أكثر سلطة وأكثر قدرة ومنعة وحصانة تتجاوز من خلالها أي قيادة سياسية في وسط هذه الأزمة، في الوقت الذي لم يعد فيه من هو قادر على مخالفة تعليماتها بشكل أو بآخر، وفي الوقت الذي أصبح فيه جميع سكان قارات الأرض مطالبين بتقديم ما لديهم من معلومات بشفافية ووضوح غير مسبوقين، وإلا فإن هنالك عقوبات عالمية ستفرض من تلقاء نفسها معاقبة من يحاول خديعة الآخر، سواء أكانت هذه الخديعة عبر تقديم معلومات مغلوطة، أم كانت من خلال عدم تقديمها أيضاً.


فالأزمة الكورونية على صعيد العالم العربي، متلاصقة مع الواقع العربي المتخلف والمتشظي إلى درجة مأساوية، الأمر الذي جعلها تأخذ بعدا آخر على الصعيد السياسي العربي المشتبك مع ذاته، لتصبح أزمة الفايروس الذي لا يعرف هوية أو عقيدة، ميداناً لتراشق الاتهامات والجدل العبثي الساذج، والمتصفح للواقع العربي يكتشف حجم المأساة التي يعاني منها العرب على خلفية الأزمة الكورونية الكارثية، مما يؤكد هشاشة وهزال التعاطي السياسي العربي مع وباء ينتشر بسرعة دون تمييز بين حاضن عربي وحاضن غير عربي، ودون أن  يقف عند حدود آمنة لأي دولة عربية، ولا حتى عند حدود الوطن العربي وغيره من الحدود الأخرى، لأنه لا يتطلب في تنقله تأشيرة سفر، ولا استمزاجا أمنيا لدخوله. 


ومن باب الاستشراف، فالعالم العربي يستشرف أمالا كبرى مع كل محطة كونية كجائحة (كورونا ـ كوفيد19) وهذا الاستشراف هو الذي يكبر في مخيلتها حلم التغيير، وحلم التبدل من حال إلى حال، وحلم تحقيق الأماني التي غيبتها أطماع الإنسان المستقوي على من يمثلون الغالبية العظمى من سكان الكرة الأرضية، من الضعفاء والفقراء والمساكين، ولذلك فجملة "ما بعد كورونا" لم تأت من فراغ الذاكرة، وإنما تأتي من حمولة معاناة تعيشها الذاكرة الجمعية طوال مسيرتها الحياتية، التي لم تستفق فيها في يوم من الأيام على محطة تتيح لها فرصة الحلم بأن يوما قادم سيغير من مجرى التأريخ الإنساني المحمل بالمآسي، ويفضي على الإنسانية أمنا ورخاء.


إذا كانت هناك دروس مستفادة يجب أن نستخلصها من أزمة كورونا الكاشفة، فهي أولاً وقبل كلّ شيء دروس يجب أن تعيد الاعتبار لكرامة الإنسان وللمنظومات القيمية والأخلاقية التي تعزّز سيادة الدول وكرامتها، وأن تنتزع القدسيّة عن الإعلام الغربيّ الذي ينشر الأوهام عن النظم الليبرالية الغربية، والتي برهنت خلال هذه المحنة أنها لا تُتقن إلّا فنّ صناعة الثروات، وأنّ البشر والذين هم خلائف الله على الأرض يقعون في أدنى سلّم اهتماماتها. في الوقت الذي أشرقت به شمس الصين على العالم من خلال هذه المحنة، وأظهرت التزاماً أخلاقياً ومجتمعيّاً، وتقدّماً مهنياً وتكنولوجياً، ومواكبة عراقة الحضارة لتسخير آخر مبتكرات الإنسان لإنقاذ حياة البشر وتأمين صحتهم وسلامتهم، لن يتمكّن أحد من إطفاء هذا الضوء الساطع. 


ومن العبث الانشغال بترّهات محاسبة أو محاولة تهميش ما أثبت الواقع أنّه حقيقة أكيدة ومقنعة، وفي هذا الإطار تبدو الحاجة ماسّة لتعاون دولي غير مسبوق يناقش كلّ هذه المعطيات والمستجدات، ويرسم خارطة طريق لتعاون دولي مستقبلي يستند إلى الرّكائز الواقعية التي أفرزها زمن كورونا بعيداً عن الإعلام الغربيّ المضلّل، وادّعاءات الديمقراطيات الليبرالية الغربيّة، التي استنزفت أسباب وجودها، وأصبحت الحاجة ملحّة اليوم لاجتراح نظام عالمي جديد تسوده الحكمة والإنسانية، وليس المال والثروات المادّية. ولما كان غلق الأبواب على الخصوصية الداخلية لبلدان العالم سيكون مآله الفشل، فإن الأمر سيؤدي إلى تقبل هذه البلدان انخفاض ما يسمى استحقاق السيادة الوطني لصالح استحقاق السيادة الإنساني، وهذا يعني أن من مصلحة هذه الدول غرباً وشرقاً شمالاً وجنوباً، أن تتعرف على كيفية إدارة  مصالحها، والتي لن تقتصر على مصالح دولة بعينها دون الأخذ بمصالح الدول الأخرى، بمعنى أن عالم ما بعد كورونا، سيكون عالماً مترابطاً دولياً من أجل تنفيذ برامج واسعة تساهم في تحسين الصحة الإنسانية، وهي متفقة إلى أي مدى سيذهب بعضها مع البعض الآخر على حساب ما يتمتع به من حرية... 


والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الخضم هو: إلى أي مدى ستبقى دول العالم متكاتفة وهي تخوض المعارك السياسية والعلمية وعلى كافة الجبهات في مواجهة هذا الفايروس المدمر؟ وهل سيبقى مثل هذا التكاتف قائماً في المستقبل؟ ليكون الجواب لا، لأن الشكوك ستبقى هي المتحكمة وليست الثقة، إنها الطبيعة البشرية القلقة المتجهة نحو التطور، والتي تقرع باستمرار أبواب العالم مستمدة زخمها من الفايروس المستجد نفسه مهما كانت نوعية هذا الفايروس، للانتقال بالنظام السياسي العالمي من حالة موبوءة إلى حالة سليمة، و كيف  يكون هذا الانتقال إلا من خلال القلق الحضاري وما رأته البشرية من خلال تفشي وباء كورونا، الذي ترك انطباعاً سياسياً مضمونه ضرورة تفكك النظام الدولي القائم بسبب فشله في معالجة ما يجري من خروقات قد تؤدي إلى تدمير الحياة على سطح هذا الكوكب. 


إن العالم ما بعد كورونا سيستدعي بشكل ضروري تغييراً في سياسات الدول وأجنداتها الوطنية وطبيعة العلاقات الدولية، وإن كان بشكل تدريجي وليس دراماتيكياً، وذلك بالتركيز على قضايا الصحة العامة، والتعليم ومحاربة الفقر، ورفع مستويات الوعي، ووضع الإنسان في المقام الأول، والاهتمام بقضايا البيئة، والتربية الأركيولوجية، أي الصداقة مع البيئة وعدم العبث بمكوناتها وعناصرها، وليس الكسب المادي وزيادة ترسانات التسلح، على حساب الدور الرعوي للدولة بوصفها أداة لإدارة مصالح المجتمع وحمايته واستقراره وأمنه، وليس وسيلة وأداة صلبة بأيدي قوى رأس المال وذراعاً عسكرية واقتصادية وسياسية لها، وهذه مع الأسف الفلسفة السياسية لقوى رأسمال المعولمة والمتوحشة التي تقدم وهج الثروة على وهج الفكر والقيم الإنسانية النبيلة.


 
وستثبت الفترة القادمة أنه سيكون لفيروس كورونا ضحايا سياسية غير الضحايا البشرية وسيكون هذا الفيروس فيروساً سياسياً، بمعنى أنه سيكون على أجندة الأحزاب السياسية وفي المهرجانات الانتخابية ولاسيما الانتخابات الأمريكية وغيرها من آليات الديمقراطية الغربية، ويجب ألّا نستغرب ولادة أحزاب جديدة أجندتها غير سياسية، وإنما صحية بيئية ثقافية إنسانية، استجابة وتجاوباً مع ردود الفعل عند الرأي العام الذي بات مقتنعاً، وبشكل كبير أنه كان بالإمكان مواجهة هذا الفيروس والحد من ضحاياه لو أن ثمة إرادةً صادقة، وأولويات اجتماعية، ونظاماً صحياً مركزياً وقوياً كانت هي العنوان العريض والأساسي لتلك الحكومات التي يبدو واضحاً للعيان أنها قدمت مصالح قوى رأس المال الاقتصادي على مصالح قوى رأس المال الاجتماعي.


وهذا بدوره يجعل من كل دولة عربية مسؤولة عن مواجهة (كورونا ـ كوفيد19) ليس على مستواها فقط، وإنما على مستوى العالم العربي بمجمله، ومن ثم على مستوى العالم أيضاً، وهل نبالغ إذا قلنا إن هذه المسؤولية تمتد لتشمل حق التبليغ عن حقائق الأزمة الوبائية وتطوراتها، إلى أن يتم القضاء عليها نهائياً. ومن ثم أليس من الأفضل للعرب أن يكونوا متوحدين متضامنين في مواجهتها ليكون  القضاء عليها قضاء مبرماً كونها تهدد سلامتهم ووجودهم كما بالنسبة للشعوب الأخرى؟.


باحث وكاتب صحفي من المغرب.