لم يكن مفاجئا الفشل الذي انتهت إليه الجولة الثالثة من محادثات القاهرة، حيث فشلت في حسم النقاط الخلافية في مسودة الدستور، وأكدت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي ستيفاني ويليامز، أن "الأمم المتحدة ستظل ملتزمة بدعمها لجميع الجهود الليبية لإنهاء المراحل الانتقالية المطولة وانعدام الاستقرار الذي أصاب البلاد، وذلك عبر انتخابات شاملة وشفافة في أقرب وقت ممكن... ودعت إلى اجتماع خلال 10 أيام، لحل النقاط العالقة." يبدو أن موضوع اللجنة المشتركة المكونة من مجلسي النواب والأعلى للدولة، قد وضع على نار حامية، وأن فهم أهداف ونيات اللجنة المشتركة المكونة من مجلسي النواب والأعلى للدولة، هو أمر غاية في الأهمية لإدراك ما يخططون له، ويعملون عليه تحت عناوين مختلفة هذه المرة مثل: القانون، الدستور، الحقوق، مستقبل ليبيا، ولا مانع من كلمات عن الحرية والعدالة، والشعب الليبي والحرص عليه، وكأن الليبيين أبناء عمومة مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي ستيفاني ويليامز، أو الرئيس التركي أردوغان...  
وبكل هدوء نتساءل: أي مسار سياسي هذا، وتوجد في ليبيا اليوم حكومتان، حكومة باشاغا التي تمّ منحها الثقة في مطلع آذار الماضي، وحكومة الوحدة الوطنية التي يقودها الدبيبة، فالمشكلة الأساسية في ليبيا تنافس وتنازع النخب الليبية على السلطة وعدم اكتراثهم بهموم ومطالب الشعب الليبي…؟! فعادة ما تكون الحياة الدستورية تتويجاً لحالة الأمن والأمان المقترنة بالتسليم بالسيادة كضرورة وكشرط، وإلّا سيكون الوليد في هذه الحياة قزماً غير قابل للعيش والتعايش.
عملياً فإن محادثات القاهرة بشأن مشاورات المسار الدستوري الليبي هي الأخطر من زاوية أساسية، فهي تتبنى مسألة "النيابة" عن الليبيين ما داموا غير قادرين على خلق توافق فيما بينهم، وهي تستند إلى سلسلة طويلة من لقاءات التفاوض وغيرها من المبادرات التي أسست لمنهجية تعتمد على أخذ المبادرة من الليبيين ووضعها على طاولة التفاوض دون استشارة الشعب الليبي صاحب الشأن الأول والأخير. فالعناوين العريضة التي تطرحها مسودة الدستور، لا تنعكس على أصغر هموم المجتمع الليبي، فأزمته الحقيقية تبدو في مكان آخر خارج كل ما هو سياسي معلن على المستوى الدولي، أو حتى على مستوى القوى والمبادرات التي تريد "اختطاف" التمثيل من فئات المجتمع كافة. بالتأكيد هناك ما يبرر السلوك الدولي تجاه المجتمع الليبي، فالمشهد منذ أكثر من عشر سنوات يوضح أن التعبير الحقيقي عن الأزمة الليبية لم يتضح إلا ضمن سيناريوهات جانبية منقولة إعلامياً، وتقدم صورة عن انقسامات عميقة وعدم القدرة على إيجاد قاعدة مشتركة، ومع عدم إنكار الانقسام الموجود لكنه في المقابل لم يظهر نتيجة فقدان التوازن الداخلي، والاستثمار فيه كان واضحاً للوصول لتوازنات أكبر من الشأن الداخلي الليبي، ومن الممكن هنا ملاحظة مسألتين:
 المسألة الأولى: لم تترك قاعدة التوافق الليبية لتتفاعل مع الحدث الداخلي سواء في بداية الحدث أم في ذروته العسكرية، وعندما نتحدث عن قاعدة التوافق فنحن نذهب نحو العمق وباتجاه المكونات الاجتماعية الأكثر صلابة، وكان واضحاً أن المسألة كانت فقط متعلقة في "التمثيل السياسي" وغايتها سحب الشرعية عن السلطة القائمة. لقد بدت جميع المحاولات منذ 2011 باتجاه التحشيد السياسي وتجاهل المجتمعات المحلية الليبية والتي دفعت الثمن الأكبر لما حدث، ويتم اليوم تجاهل الأمر والتعامل مع حل الأزمة وكأنه مجرد قرارات دولية يجب تنفيذها، فرهان القوى السياسية الداخلية يقوم فقط على التسلح بهذه القرارات وبقدرة بعض الدول الكبرى على فرضها، وهذا الأمر سيتحول إلى "استبداد دولي" تجاه المجتمع الليبي بدلاً من ترك الحرية له كي يقرأ تجربته، ويبني تصوراته حول مستقبله. المسألة الثانية متعلقة بالاستقطاب، فالقوة السياسية ليست مستقطبة فقط على المستوى الدولي، بل تحاول أيضاً تجاهل واجباتها في مسألة التعامل مع البرامج السياسية وضرورة تقديم رؤيتها بخصوص أي تحول، وتستبدل هذا الأمر بالتحصن بالقرارات الدولية.
 لقد أقرت مستشارة الأمين العام للأمم المتحدة للشأن الليبي ستيفاني ويليامز، بأن "محادثات القاهرة فشلت في حسم النقاط الخلافية في مسودة الدستور، وتوجد خلافات بين اللجنة المشتركة المكونة من مجلسي النواب والأعلى للدولة، بشأن التدابير المنظمة للمرحلة الانتقالية المؤدية إلى الانتخابات". ولتأكيد المؤكد، فلابد أن نقر، أنّ هذه اللجنة المشتركة هي صراع ليبي في النهاية، ومهما بدت الحالة القائمة متعثرة لكنها ترسم الموقع الليبي بكل تفاصيله وتعقيداته... وإن حالة عدم التوافق سابقة الذكر، تتطلب طرح برنامج وطني كبير يتلاقى حوله الليبيون، أو أغلبيتهم على الأقل، وينتج عنه بالضرورة مفهوم عام يتفق عليه أبناء ليبيا، وتياراته وقواه الفاعلة، وفيه تتحدد معاني مصطلحات على درجة عالية من الأهمية مثل الديمقراطية والحرية والعدالة والوطنية أين تبدأ وأين تنتهي، وكذا العديد من المصطلحات المهمة الأخرى، فمن المؤكد هو أن هذه المصطلحات التي تلعب دور صمام الأمان في حفظ الأمن والاستقرار في المجتمعات إذا ما جرى التوافق عليها، هي نفسها التي يمكن أن تلعب دور الأداة لضرب هذين الأخيرين في المجتمعات نفسها إذا ما جاءت ملونة، أو هي معرفة، بطريقة لا تتلاقى تحت سقوفها أغلبية الشرائح والتيارات وقوى المجتمع الأخرى الفاعلة. ومن حقنا أن نتساءل الآن: عن أي دستور يريد الشعب الليبي وما النتائج المتوقعة؟
من المبكر الإجابة على هذه الأسئلة، لكن النماذج الفاشلة تشتعل في محيطنا، ففي لبنان يتابع الجميع تعقيدات الوضع السياسي الناجم عن بنية دستور طائفي، ومحاصصات في كل شيء، وأما في العراق فإننا نرى نتائج دستور "بريمر" الذي أنتج دستوراً مفخخاً، وعملية سياسية مترنحة يمكن تفجيرها في أي وقت مع تعالي الأصوات التي تنادي بدستور جديد يحقق التقدم، والتنمية في العراق أو في لبنان، ولأن القاعدة التوافقية الدستورية الموعودة في ليبيا، ستكون محط أنظار الجميع، فإن المسؤوليات الملقاة على عاتق اللجنة المشتركة بين مجلسي النواب والدولة، هي مسؤوليات تاريخية يجب أن تأخذ بالاعتبار أن الشعارات البراقة التي تطلق من هنا وهناك، ليست ذات أهمية، فقد تبين أن الشفافية والديمقراطية والحرية و... و... ليست إلا دفتر شروط تركية غربية أمريكية يوضع لتطويع الدولة الليبية لمصالحهم، والمطلوب اليوم تطويع هذه الشعارات لتكون في خدمة الشعب الليبي ومستقبله، وتحصين هويته الوطنية والقومية، وأما غير ذلك فلن يكون إلا وصفة إخفاق وانتحار.
الدستور جامع ومنظم ومنسق وموحد للشعب الليبي، في تمسكه باستقلاليته وسيادته، هكذا يفهمه الليبيون، وهو عقد وتوافق بين الليبيين أنفسهم، فالدستور ليس فقط مادة قانونية بحتة، بل إنه الوثيقة التي تقدم هوية الشعب الليبي، والدولة السياسية والثقافية، وتعكس تاريخها وآمالها وتطلعاتها، ولذلك فإن كل كلمة فيه تعني كل المواطنين الليبيين، ولا يمكن التساهل في هذه المسألة، أو كما يسميها البعض، إبداء المرونة، لأنه مستقبل أجيال، وكذلك آمال شعب وتطلعاته، وقيمه ومبادئه، ولذلك فإن معركة الدستور، وقضيته هي قضية مقدسة فعلاً لكل ليبي. والدستور الذي يريده الشعب الليبي باعتباره صاحب ومصدر كل السلطات، يشبهه بتنوعه وغناه، دستور يكون انعكاساً لحاضر وماضي وتاريخ ليبيا، وإرثها الثقافي والحضاري، دستور يكرّس الاستقلال والسيادة الوطنية ووحدة الأرض والشعب.

 أعود للقول: سنوات الأزمة الليبية تحتاج إلى تبديل الأجسام السياسية ومواقعها الحالية، وتغيير الجهد السياسي الذي يسعى للدخول في التوازنات الدولية، إلى موقع يبحث في التوازن للمجتمع الليبي، ولاستثمار كل ما هو محلي قبل الصعود بشكل مباشر نحو الشعارات السياسية المطروحة دولياً، فالقرارات الأممية هي توافق دولي وليس بالضرورة أن تنعكس إيجاباً على المجتمع الليبي، وهي تحتاج إلى قراءة وفق مصالح المجتمع الليبي بمحليته وبمساحته الكلية أيضاً، لأنه هو من سيدفع في النهاية ثمن تطبيقها على ليبيا.

 
كاتب صحافي من المغرب.