ثمة تدفق كبير في الأسماء والعناوين والنطاقات الإلكترونية  اليوم  بحيث أصبحت العديد من القرى النائية والهوامش  والأحواز تحمل اسم موقع إلكتروني ينافس  “كما يزعم”  كبريات المواقع الإخبارية على الأرض وعلى الهواء،   كما أن هناك حركية ما غير معهودة على مستوى اقتناص تداول المعلومة وتداولها وبثّها على نطاقات بلا أمداء في سماوات الله المفتوحة في اللحظة والحين،  ولكن يجدر التساؤل لحظة  حول عنصر المصداقية والموضوعية في هذا السباق المحموم كله، وعن درجة الجدِّية والتفاعلية الحقيقية في خدمة قضايا المجتمع  وتنويره بدل استغلال هامش الحرية الممنوح عولميا لإنتاج وصناعة العبث،  وأحيانا لبث التشكيك ونشر التضليل  وخلق الفجوات المخدومة لأغراض وحسابات ضيقة وعلى نطاق واسع.

     وارتباطا بالوضع الإعلامي الحالي بالوطن ، وعلى ضوء المستجدات  دستور 2011   أكاد أزعم أن حرية الرأي والتعبير ومطية الحصول على المعلومة  كهدف أسمى بالنسبة للصحفي ورجل الإعلام بشكل عام، أكان الصحفي رقميا أو ورقيا    رغم إقرارها دستوريا ، هي في الواقع مقولة ما يزال يشوبها الكثير من الغموض والالتباس  لأسباب يطول المقام لشرحها ،  إذن ، الأمر هنا ، لا يتعلق بغياب قانون واضح،  بل في تنزيله  بوضوح على الأرض ،   حيث تبدو المقاربة الرسمية خجولة ومحتشمة جدا فيما يتعلق بتفعيل حقيقي للبنود المنصوص عليها في المجال الرقمي،  وكذا شبهة التحرر المغرر بها بالنظر إلى المنطق التفاؤلي للخطاب الرسمي وادعاءاته ، لكن،  وبالنظر إلى طبيعة الوضع الجديد المتمثل في وفود الصحافة الإلكترونية  ،    وبالنظر إلى البيان الأخير الذي اعقب مؤتمر النقابة الوطنية للصحافة المغربية بطنجة ، فأزعم أن خلخلة ما حدثت على مستوى  تدبير  المعلومة ،  وخلقت توازنات ما جاري التحليل والنقاش بشأن إفرازاتها الآنية والمستقبلية .

    ومع حرصنا الشديد على أن أمر تقييم تجربة   النشر الإلكتروني ببلادنا  يحتاج إلى منهجية علمية ومقاربة متخصصة لتعزيز هذا الطرح بهدف الوصول إلى استنتاجات حقيقية نابعة من مقاربة علمية متزنة للحقائق والأشياء.  فإن  ندرة ، بل غياب الدراسات الميدانية المعززة بالأرقام والمعطيات المبنية على الاستطلاعات واستمزاج الآراء  حول جدية المنحى التحريري لكل منبر إعلامي إلكتروني هو ما يخلق هامشا من التردد  والانتظارية،  فالمعطيات الحقيقية  تكاد تكون منعدمة باستثناء ما توفره لنا محركات البحث  من كوكل  وأليكسا وأمازون وغيرها من آليات إحصاء نسب التداول غير القارة والمتحركة باستمرار عبر محركات البحث العالمية  ، وهو ما يطرح أمامنا أسئلة كبرى بخصوص الاستراتيجية الإعلامية المواكبة لاستشراف التحديات المطروحة عولميا بالنسبة للإعلام الوطني بشقيه الورقي والالكتروني.

     ولعل أبرز تحديواجهنا بهذا الخصوص هو السبق الإعلامي الإلكتروني كميزة تسم هذا الصنف التواصلي بامتياز.  خاصة الجانب المتعلق بنشر المادة الخبرية صوتا وصورة في وقت قياسي والتفاعل معها إيجابيا من طرف الرأي العام عبر مواقع التواصل الاجتماعي ، وكذا تداعيات هذا التفاعل على الصحافة الورقية بعد 72 ساعة من تداوله رقميا ، سواء تلك الأخبار المتعلقة بتململات المشهد السياسي الوطني  أو بما يتعلق بالنبش في الملفات المسكوت عنها والقضايا الساكنة خلف التجاويف المجتمعية والالتباسات الكبرى ذات الصلة بسوء تدبير آليات الاقتصاد الوطني والإفساد الاجتماعي في قنواته الى غير ذلك.    ولابد من التأكيد في هذا الصدد ، أن نسبة كبيرة من الأخبار الصادمة التي تشكل انفرادا إلكترونيا سبقيا بالنسبة لكبريات المشهد الرقمي الوطني سرعان ما يتم تكذيبها عن طريق بيات توضيحية رسمية ، ما يفيد التجاوب المرغوب فيه من ناحية ، ويرسخ ثقافة تكريس منطق التحري الشخصي المشروع في نطاق البحث عن المعلومة كإشاعة على خلفية انعدام تسهيل معطياتها رسميا ، ما يحيل إلى مجرد عملية دعائية مجانية لهذا المنبر أو ذاك من ناحية ثانية ،  ومع ذلك ، يمكن القول بقليل افتخار أنه من أصل 500 منبر الكتروني في سوق التداول على المستوى الوطني بالنسبة لمحرك البحث العالمي أليكسا ، نجد منابر مغربية إلكترونية في الطليعة ليست قديمة المنشأ، وبلا رديف ورقي،  إضافة إلى بضع  منابر الكترونية وطنية المنشأ ذات سمعة تداولية لابأس بها.  وهي مواقع كان يجدر بجرائد ورقية قديمة ولها رديف الكتروني أن تحتلها.    والمحصلة، وبالنظر إلى حجم ما هو متداول من أسماء المنابر الإلكترونية المعروفة والمتناسلة يوما بعد يوم ، بل ساعة بعد أخرى ، يمكن الجزم أن هناك تدفقا غير مسبوق على مستوى صناعة  ونقل الخبر ،   وتخمة فيما يتعلق بتعدد مصادر المعلومة وصناعتها، لكن تقييما حقيقيا لقياس مدى تفاعلها مع القراء والواقع المجتمعي يقتضي الدراسة والتحليل العلميين ، من هنا تحديدا تنبع الإشكالية التي تجعل من كل مقاربة للوضع الإعلامي الوطني في شقيه الورقي والرقمي يعرف ارتباكا إيجابيا على نحو ما ، فعدد العناوين الصادرة بانتظام او بغيره في تنام ملحوظ ، لكنه في تقديرنا ، قد لا يعكس بالضرورة حركية معلوماتية جادة وموضوعاتية في ارتباط التحامي بقضايا الشعب وانتظاراته ، ما يكرس إبداء الرأي كانطباع ليس إلا .

   وفي سياق النقاش الدائر اليوم حول  تأييد  رؤية: (اتجاه الصحافة الرقمية لإلغاء الصحافة الورقية) أعتقد أن الكثير من المداد سال حول هذه المقاربة الكيدية إن صح التعبير،  وأن الجدل سيستمر بشأن هذا التساؤل الجوهري طويلا قبل أن يستثب ، لكن واقع الأمر،  يعكس تفاعلا إيجابيا بين الحقلين ويسجل تأثيرا واضحا وتأثرا حقيقيا بين المجالين .  لكن من المفيد القول هنا ، أن كل كتابة رقمية ، لابد أن تتم بخلفية ورقية ، إما نفيا أو تأكيدا ، كما أن استحضار المعطى الرقمي يشكل أولوية أثناء التحرير الورقي ما يفيد التكامل الموضوعي بين الحقلين ارتباطا بالتموج المجتمعي في الداخل والخارج.  لكن ورغم هذا الشد والجذب بين الورقي والإلكتروني الذي يبقي الأنظمة المتخلفة “العربية والإسلامية” خارج سياق تشكيل مصير العالم على مستوى صناعة حرية الرأي وتكريس منطق التعبيرالحر ، فإن آليات التكنولوجيا الرقمية في ذات المجال تشتغل بتواتر فائق السرعة حوالي 3200 اختراعا رقميا في اليوم والتطور المتسارع في وسائل الإعلام ينمو ويطرد بعيدا عن وجع حكامنا العرب البائدين الراغبين في بقاء الحال كما كان ،  الأمر الذي يتيح أمام الصحفي الإلكتروني دون غيره فرصا حقيقية لممارسة شغبه الجميل بالكتابة والتنوير حتى تظل ذاكرة المجتمع يقظة وذاكرة حكامه لا تنام .

    لقد استطاعت التيكنولوجيا الرقمية دونما أدنى شك التغلب على هذه الأزمة المفتعلة بشكل لم يكن يخطر على بال أي من العاملين في هذا المجال ، بل من الأنظمة العربية الحاكمة نفسها. على العكس من ذلك ، حيث يمكن تأكيد الموت السريري للعديد من الجرائد الورقية قبل وفود العنصر الجديد الالكتروني ، لكنها ماتزال حاضرة ،لأن ما يحدد الموت هو التنافس الشريف وليس التداعي بالألقاب. صحيح أن ثمة مؤسسات صحافية ورقية عالمية تأثرت بفعل النشاط المحموم للتدوين الالكتروني ، مما أثر سلبا على تداولها في بورصة المال والأعمال ، ما قلص أيضا من معاملاتها وهامش ربحها كمقاولة تجارية بالأساس ، مما جعلها تقلص مواردها البشرية ، وتتخلى تدريجيا عن العديد من الصحفيين الذين سرعان ما أسسوا مواقعهم   و انصهروا بحرفية عالية في صناعة الخبر بكيفية أكثر احترافية وجاذبية . وهذا هو الجانب المظلم في كافة التحاليل والمقاربات المعطوبة التي ترد علينا ونتقبلها بواقعية . لماذا هذه الضجة إذن ولا طحين؟ الجواب بسيط جدا ، هو أن القادم إلى الصحافة الرقمية في العالم الغربي ليس متطفلا كما يحدث عندنا في العالم العربي ، فغالبا ما يكون الصحفي الغربي كائنا كفؤا مقتدرا يمتلك رصيدا حقيقيا من المعارف والخبرات ، كما يستند إلى تكوين حقيقي في مجال الصحافة والإعلام معزز بشواهد ودبلومات حقيقية ،  وهو قطعا لا يكون جزارا تاجرا أوعاطلا أو  سائق سيارة  ضاقت به السبل ، مستثمرا فاشلا في قطاع البناء حتى يفد إلى مهنة الصحافة،كما هو الأمر عندنا اليوم ،   حيث الحصول على رخصة بائع متجول أصعب من الحصول على بطاقة صحافي ،  وإن حصل ذلك صدفة في الغرب من باب الديمقراطية في الولوج ، فسرعان ما يقذف به الرأي العام المتنور إلى مزبلة الصحافة ويندم على اليوم الذي اختار فيه أن ينتسب الى مهنة المتاعب بامتياز.

    ثمة إسقاطات عديدة تصدمنا كمغاربة  وعرب ، ونحن نقارب هذا المجال من بينها السماح لأنفسنا بوضع الصحفي الغربي كمؤشر قوي والصحافة الغربية بمقوماتها الديمقراطية العصرية والحداثية في كفة واحدة مع الصحفي العربي بموانعه  ومحظوراته السرية والمعلنة وبمكبوتاته ومنظومته المجتمعية الموسومة بالكبت والاحتقان ،  والتغاضي بدافع كبرياء مزعومة على السماح بتنصيب الصحافة في الشمال والجنوب على درجة واحدة من الكفاءة والاقتدار رغم وجود هوة عميقة بين العنصرين غير قابل للتجسير.   في غالب الأحيان سواء على مستوى التكوين والخبرة أو على درجة التعاطي مع الشأن المجتمعي على خلفية النزاهة والموضوعية .  ولكيلا نسقط في التعميم اللامنصف،  نجزم أن الكتابة الصحفية الإلكترونية بخلفية مهنية حقيقية تقدم فائدة كبيرة لمن يقدم على إنشاء موقع الكتروني فالمهم ليس هذا التصنيف القدحي صحفي إلكتروني وصحفي ورقي ، المهم الآن هو البحث عن الصحفي كمعدن خام أولا ،  ثم بعد ذلك نتساءل هل نصب هذا الخام السائل في قالب الكتروني أم ورقي ، لأن امتلاك الأسس التقنية للكتابة الصحفية في تقديرنا لا تقتصر على أحد دون الآخر ، ولا يعقل أن يتقمص أحدهم هذه الصفة من غير أن يكون قد تصفح قانون الصحافة والنشر بالمغرب ، أو يكون له اطلاع على مجمل التقارير السنوية التي تنشرها النقابة الوطنية للصحافة المغربية مثلا ، كما أنها من ناحية ثانية تمكن الصحفي عموما والإلكتروني على نحو خاص من أساليب التفاعل المهني على مستوى الكتابة واللعب بالكلمات وتوظيف التقنيات لخلق ملامح تحفيزية تخلق لدى القارئ البصري عوامل الاثارة والتشويق وإحداث مسارات خبرية متعددة داخل المادة الخبرية المقدمة التي تعمل على تجييش وجدان المتلقي وتجعله يراهن على تورطه في فعل التصديق للنص الخبري الكثيف والمركز .

*رأي اليوم