تمثّل المؤسسات الدينية في العادة إطارا لصياغة السياسات الدينية في المجتمع حفاظا على السلم و الوئام الإجتماعي و محاولة تثمين المبادئ السمحة للدين كي تقطع الدولة الطريق على الجماعات المتطرفة التي من شأنها أن تعكر صفو السلم العام.

إلا أن الوضع في ليبيا مختلف تماما حيث أن المؤسسة الدينية الرسمية و هي دار الإفتاء أصبحت مصدرا لخطاب عنيف و متحيّز سياسيا.

تمظهر هذا السلوك خاصة في خطاب المفتي المعزول الصادق الغرياني، فقبل اندلاع ما  الربيع العربي،  كان القيادي الإخواني الليبي،  صادق الغرياني،  يدعم بشدة مشروع "ليبيا الغد" الذي أطلقه سيف الإسلام القذافي،  وفي أعقاب أحداث فبراير في 2011،  أراد الغرياني أن يقفز من السفينة ،  حيث ظهر عبر شاشات العديد من الفضائيات،  وهو يدعو إلى إسقاط حكم القذافي،  وهي الدعوة التي كان يكررها بشكل يومي تحت مسمى "الجهاد ضد كتائب القذافي"،  وانحاز بشكل مطلق إلى صفوف أنصار جماعة الإخوان في ليبيا.


وفي فبراير من عام 2012،  ومع فوز جماعة الإخوان في انتخابات المؤتمر الوطني،  عُين الصادق الغرياني مفتياً عاماً للديار الليبية،  وذلك وفق قانون دار الإفتاء الذي أصدره المجلس الوطني الانتقالي المؤقت،  والذي نص على إنشاء دار الإفتاء،  ومنح صلاحيات واسعة للمفتي،  فضلا عن حصانة قضائية.

وكان الغرياني انحاز إلى قوى الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة أثناء انتخابات المؤتمر الوطني،  حيث دعا الناخبين الليبيين لعدم التصويت لتحالف القوى الوطنية،  وعدم التصويت لمحمود جبريل،  باعتباره مناصراً لليبرالية.

وعندما أطلق المشير خليفة حفتر،  قائد الجيش الوطني الليبي،  عملية الكرامة لتطهير مدينة بنغازي من الجماعات الإرهابية والمتطرفة،  عارض الغرياني العملية،  ودعا إلى القتال ضد قوات الجيش الوطني،  وأهدر دم خليفة حفتر وجنوده،  وأكد عبر كلمة أذيعت على إحدى الفضائيات أن قتال حفتر وأعوانه واجب شرعي،  وأن لا دية لهم ودمهم مهدور،  وزعم أن من ينضم إلى حفتر ويموت معه فإنه يموت ميتة جاهلية،  وكل من يقاتله ويموت فهو شهيد في سبيل الله.

وفي أغسطس 2014،  طالبت اللجنة الوطنية الليبية لحقوق الإنسان بإعفاء المفتي العام للديار الليبية صادق الغرياني من منصبه،  ورفع الحصانة عنه،  حيث قالت اللجنة،  إن هذه الدعوة جاءت بعد رصد اللجنة لدعوات صريحة للمفتي العام للديار الليبية بالتحريض على ممارسة وإثارة العنف وتصعيده،  وتحريض على القتل والتعذيب،  وانتهاك حقوق الإنسان عبر وسائل الإعلام،  والتي تنذر بحدوث حرب أهلية،  وتؤثر سلبا على الأمن والسلم الاجتماعي للمجتمع الليبي،  كما طالبت بإحالته للتحقيق من قبل مكتب النائب العام.

ورغم معارضة رابطة علماء ليبيا للقرار الذي اعتبرته يفتح الباب لتفرد الغرياني بقرار الإفتاء إلا أن صوتها لم يجد آذانا مصغية ولم تتم إقالة الغرياني إلا في نوفمبر 2014 إذ قرر مجلس النواب،  عزل الصادق الغرياني من منصبه،  كما قرر إلغاء دار الإفتاء وإحالة اختصاصاتها واختصاصات المفتي لهيئة الأوقاف،  وذلك بسبب مواقفه المتطرفة،  إضافة إلى خطابه المتشدد،  وفتاويه التي يدعو فيها إلى القتل وسفك الدماء.

ويطلق الشارع الليبي صفة "مفتي قطر"على الغرياني وذلك لدفاعه المستمر على تدخل الدوحة في الشؤون الداخلية لليبيين وتهجمه على رافضي ذلك التدخل الذين وصفهم بالكلاب عندما قال "من لا يشكر قطر فهو أقل من الكلب".

إذ يتندّر كثير من الليبيين ، بتصريحات للغرياني ، أثارت جدلا واسعا في حينها ، كتصريحاته حول دولة قطر ، التي تعتبر داعمه الأوّل ، حين وصف من "يتطاول" عليها ، بأنّه "دون مرتبة الكلب" ، وهو التصريح الذي تلقّفه الليبيون بسخريّة واسعة على مواقع التواصل الإجتماعي ، وانفجرت حوله النّكت والنوادر وصور الكاريكاتور.

يتقمص الغرياني البالغ من العمر 77 عاما،  في برنامجه دور المحلل السياسي وفي الأثناء يوظف صفته كمفت لإطلاق فتاوى تحرض على قتال خصومه،  لـ"نصرة الدين"و"حماية الثورة والديمقراطية والدولة المدنية".

وتتسم مواقف الغرياني من التدخل الأجنبي بالتناقض. ففي حين كان يصف طائرات حلف شمال الأطلسي في 2011 بـ"طيور الأبابيل"التي جاءت لإنقاذ الليبيين من جبروت القذافي ويصمت إزاء الوجود العسكري الإيطالي في مصراتة،  يهاجم الدول العربية والأوروبية الداعمة للجيش ويصفها بـ"عملاء إسرائيل".

ومن أغرب الفتاوى التي خلفت جدلاً واسعاً،  تلك التي استهدف فيها قوات الجيش الليبي في حربها لتحرير البلاد من التنظيمات الإرهابية،  حيث أفتى بهدر دم القائد العام للجيش الليبي خليفة حفتر وجنوده،  ودعا إلى الخروج للقتال ضدهم بدعوى "الجهاد".

كما أفتى الغرياني بعدم جواز الصلاة خلف من يدعو لنصرة حفتر،  قائلاً "لا تجوز الصلاة خلفهم ولا سماع كلامهم،  لأنّ الحرام لا يجوز سماعه ولا تجوز رؤيته،  وهكذا العلماء يقولون الحرام إذا كان شيء حرام لا يجوز لك أن تسمعه،  ولا يجوز لك أن تراه،  ولا يجوز للمسلم أن يصلي خلفهم أو يجلس عندهم أو يستمع لهم أو ينظر إليه".

إلى ذلك،  أصدر فتوى تقول "إن من ينضم إلى حفتر ويموت معه،  يخشى أن يموت ميتة جاهلية،  في حين كل من يقاتله ويموت فهو شهيد وفي سبيل الله".

في المقابل،  دافع الغرياني الذي يقيم في تركيا،  بشدة عن الجماعات المتطرفة والمليشيات المسلّحة في فتاواه،  حيث سعى في كل مرّة إلى الدفاع عنها وتبرئتها من كل الأعمال الجرمية،  حتى إنه أجاز دفع أموال الزكاة للجماعات المسلحة لشراء المقاتلين والسلاح.