ميزة الشعراء الشعبيين الليبيين أنهم يربطون شعرهم دائما بالوطن. لا نكاد نعثر على شاعر ليبي على الأقل المشاهير منهم خارج هذه الدائرة. أبدعوا في المدح والهجاء والغزل وكل صنوف الشعر نعم، لكن لا أحد منهم نسي التغنّي بوطنه، بل يكادوا يتميزون عن غيرهم من الشعراء العرب في تناول القصيدة الوطنية لربطهم لها بأحداث وحقب وأشخاص وصورة يغلب الطابع البدوي فيها أي طابع آخر. فكان الشعر الشعبي عندهم مدّونة تأريخ للأحداث وخزّان تاريخي ليس لبلادهم فقط بل لكل المنطقة العربيّة.

الأغنية الوطنية عند الشعراء الشعبيين الليبيين خاصة بعد ثورة العام 1969 بقيادة العقيد معمّر القذافي، هي أرشيف لتأريخ التحولات التي عرفتها ليبيا، لم تقتصر قصائدهم على الوطن الصغير، بل امتدت نحو أفق الأمة العربيّة الموحّدة على الأقل في وجدانهم. لكن لليبيا أيضا نصيبها الكبير، ليبيا الخيمة والبادية والقبيلة والحياء وأيضا ليبيا الثائرة الصامدة في وجه الأزمات والجنة الخضراء ذات الشوارع والأضواء الجميلة.

خارطة الشعراء الشعبيين في ليبيا طويلة بحجم الوطن الممتد شرقا وغربا، لكن هناك شعراء طبعوا لأنفسهم مكانة خاصة بما قدموه لليبيين والعرب من كلمات مازالت خالدة إلى اليوم وعلى رأسهم الشاعر الكبير علي الكيلاني، منشئ سلسلة النجع الشهيرة بما تحمله من رمزية وقيمة.

لا نعتقد أن عربيّا واحدا لا يعرف أغنية "وين الملايين"، هذه الأغنية التي دوّى صداها في أرجاء هذا الوطن الكبير من الأطلس إلى صنعاء. تزامن صدورها من حرب كبرى على العراق تركت جراحا كبيرة في الوجدان العربي بداية التسعينات من القرن الماضي فكانت الأغنية تضميدا نفسيا لتلك الجراح. نتذكر ونحن صغار أن تلك الأغنية كانت دموعا تنهمر من أعين شيوخنا، لأنها هيجت فيهم حلما كبر معهم لكنهم لم يعيشوه ولا عاشه حتى من جاء بعدهم ورحل. تلك الأغنية قائل كلماتها هو الشاعر الليبي علي الكيلاني، الذي كان جزءا من الألم العربي خلال عقد التسعينات وحتى بعده.

لم تكن "وين الملايين" لوحدها شاهدة على قيمة هذا الشاعر، فقد تكلّم للقدس ولفلسطين في أيام الانتهاكات الكبرى بأغنية "يا حمام القدس" التي جاءت مع بداية النكسات المسيئة لكل العرب. كما غنّى لثورة الفاتح من سبتمبر ولقائدها من خلال قصيد "فارس ورجال"، باعتباره كان مقربا من العقيد الليبي الراحل، ومؤمنا بفكره ومشروعه الوحدوي، وغنى للحصار الذي أرهق ليبيا لحوالي عقدين بسبب صمودها في وجه الطامعين.

وحتى بعد التحولات التي شهدتها بلاده، ورغم خفوت صوته في مرحلة أولى في موقف أشبه بالرضى، لكن هدْم حكومة الوفاق لمركز أجاويد للانتاج الفني (دار أجاويد) في اكتوبر 2018، حرك في الرجل ذكريات قديمة كان هو جزءا منها، باعتبار الدار هي الحاضنة التاريخية لكل المبدعين الليبيين والعرب، حيث أنشد قصيدة قائلا في بعض جملها:

"وجعتني دار أجاويد

لكن ما ع الله بعيد

دار ثقافيه

دار اعلاميه فنيه

ماهي ثكنه عسكريه

ولا سجن ولا فيها قيد

ولاهي في الدوله التركيه

ولاهي لسطنبول بريد

ولا كادرها عثمانيه

ولا لروما تعزف نشيد

لا نجمتها سداسيه

ولا اطبع لاي للتهويد

لاهي موكر للرجعيه

ولا ترمز لي رمز بعيد

هذي لامين القوميه

مشرفها يجيها الصنديد

خيمه ف الضهره مبنيه

موش لزيد ولا لعبيد

ملقى للناس الشعبيه

تساعد وتضمد تضميد"


ليس علي الكيلاني فقط كان شاعرا للوطن، فقد كان الشاعر عبد الله منصور رفيق دربه في المشهد الثقافي الليبي. هو والكيلاني من صنعا جزءا من ملاحم "محمد حسن" و"ذكرى" التونسيّة وغيرهما من أشهر الفنانين في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي.

يكفي أن نعرف أن منصور صوّر المواطن الليبي على سليقته الأولى في كلامه ولباسه وطريقة عيشه، ليكون قريبا من النّاس. هو الذي كانت كلماته حالمة بليبيا أفضل، فكتب لها "يا ليبيا يا جنّة" التي غنّاها الفنان الإماراتي الكبير، والتي كانت أيضا ملحمة جمعت المسرح بالشعر والغناء مازالت راسخة إلى اليوم بدورها في أذهان الليبيين، خاصة أنها من آخر الأغاني الوطنية التي كتبت قبل أحداث "فبراير".

ولأن جراحات ما بعد تحولات 2011  مازالت غائرة فإن الشعر كان معبّرا عن بعض تفاصيلها  سواء في تصوير الحالة التي أصبح عليها الليبيّون  أو في استذكار أيام حكم العقيد معمّر القذافي الذي عبّر البعض عن ندمه على المشاركة في إسقاطه. ففي أحدى القصائد التي تصوّر واقع "فبراير" وتنتقد التعامل مع زوجة الزعيم الراحل معمّر القذافي  يقول الشاعر محمد بلحاج المقرحي:

ثورة مجيده مانحه الجنسية
 
لبرنار ليفي وناكرين صفيه
 
ناكرين الحره
 
اللي ضايقه حلو الوطن ومره
 
اللي جدها جره اترد الجره
 
ليبي ولد ليبي ولد ليبيه
 
بعد عزنها تكرام ما اتعرا
 
لكان تستحو قدام حق وليه
 
هاذي ضناها بين خيط وصره
 
عطتهم افداء للوطن يا ذيليه
 
غير في الرجوله ما هوتكم ذره
 
لا بان فيكم عرق لانسانيه
 
اخيه من عوج ليّام يا ما مره
 
ام معتصم تطلع البرانيه
 
ويطلع الصهيوني اللي من برا
 
ليبي ولد ستين صهيونيه
 
كلاب ضالة الله يعطيكم هره
 
تردكم لهلكم قبل قهواجيه.

ويتساءل الشاعر الليبي صالح فريتلو عن حال الليبيين بعد رحيل العقيد القذافي الذي سمّاه "سيد الخيمة" أي القائد الذي يجتمع حوله الجميع، من خلال جمل لا تخفي تحسرا على تلك الأيام التي كان فيها المواطن الليبي كريما آمنا  قائلا فيها:

كيف حالكم من بعد سيد الخيمه
 
ياك حالكم باهى ومرتاحين  
 
وياك تنعمو باحلى حياه كريمه
 
وياك العويله جد مبسوطين  
 
وياك وطنكم ممتاز فى تعليمه    
 
وياك الرواتب فايتات الفين  
 
حتى النص باهى فى عهود قديمه  
 
قايلينهن فى سبعطاش اثنين  
 
وياك ناقصه فى وطنكم الجريمه  
 
لاسجن قابل لاهناك سجين  
 
وياك السيوله فالمصارف ديمه  
 
وياك غير ماتشكوش مالبنزين  
 
وياك بالكم مرتاح من تخميمه    
 
وياك غير مافيكمش حد حزبن  
 
خطرها نبى ننشد عقول فهيمه  
 
وين راح بوخبينه وبالروين  
 
اللى قبل يحكى عن ديار قديمه.
 
يطرى وفيها قال ملتمين
 
وياكم نصيب الهفك شم نسيمه.
 
وماجاش نادم بعدها بعامين.

الشعر الشعبي في ليبيا إذن هو جزء من المحكي اليومي. لم يذكر الموضوع إلا عددا قليلا من الشعراء فيهم من فرضته شهرته، وفيهم من لم يكن معروفا لكن كلماته ناسبت المقام، لكن بالتأكيد أن بلدا مثل ليبيا يعتبر خزّانا من الشعر أبدع قائلوه في تصوير الوطن في أيام أمجاده وفي أيام مرضه.