كانت مملكة مالي، التي نشأت في القرن (السابع الهجري=الثالث عشر الميلادي) في غرب إفريقيا، أعظم الممالك الإسلامية التي قامت في غرب إفريقيا زمن السيادة الإسلاميَّة، ووصلت أراضيها إلى سواحل المحيط الأطلسي غربًا، واتَّصلت بتخوم المغرب الإسلامي شمالًا؛ أمَّا حدودها الجنوبيَّة فكانت تسكنها جماعات وثنيَّة تُسمَّى "اليسج" (تُمثِّل جمهورية مالي الحديثة جزءًا صغيرًا فقط من مملكة مالي القديمة).

وكانت مملكة مالي في الأصل خمسة أقاليم قامت في كلٍّ منها مملكةٌ مستقلَّة؛ وتمكَّن حاكم مالي من السيطرة عليها جميعًا وضمِّها في مملكةٍ واحدةٍ تحت حكمه، كان الإقليم الأوَّل من هذه الأقاليم إقليم مالي الذي أعطى اسمه للمملكة الموحدة، وكانت عاصمته وعاصمة المملكة عامَّةً تُسمَّى بنبي؛ والإقليم الثاني إقليم صوصو في غرب مالي؛ ثم يليه الإقليم الثالث الذي عُرف باسم بلاد غانا على ساحل المحيط الأطلسي؛ أمَّا الإقليم الرابع فكان في شرق مالي باسم بلاد كوكو؛ وإلى الشرق من هذا الإقليم بلاد التكرور التي تُشكِّل الإقليم الخامس، وفي تلك العصور كانت بلاد التكرور الأكثر شهرةً لدى الجغرافيِّين والمؤرِّخين في مشرق العالم الإسلامي.

ويتوه التاريخ الباكر لمملكة مالي الإسلامية في ضباب الغموض بسبب ندرة المصادر التاريخية، ولعدم قدرة الحفريات الأثرية على كشف غموض الفترة الباكرة من تاريخ هذه البلاد، ومن هنا فإنَّنا نبدأ بدخول الإسلام إلى هذه المناطق، وحرص حكامها الأوائل على أداء فريضة الحج عبر الطريق البري والمرور بمصر التي كانت تحت حكم سلاطين المماليك في ذلك الحين.

برمندان أول حاكم مالي مسلم

تُشير الروايات الشفويَّة المتداولة بين الأهالي في تلك الأنحاء إلى أنَّ أول حاكمٍ كبيرٍ لهذه البلاد كان هو "جورماندانا" الذي يرى بعض الباحثين أنَّه هو نفسه "برمندان" أول من اعتنق الإسلام في هذه البلاد. ويذكره المؤرِّخ تقي الدين المقريزي باسم "سرمندانة أو برمندانة" في كتابه "الذهب المسبوك في ذكر من حجَّ من الخلفاء والملوك". وقد أورد المؤرِّخ البكري قصَّة اعتناق ذلك الرجل الإسلام في كتابه الذي يحمل عنوان "المغرب في ذكر بلاد إفريقية والمغرب". وتقول هذه القصَّة: إنَّ المملكة تعرَّضت للجفاف عدَّة سنوات؛ وقدَّم الملك عددًا كبيرًا من الماشية أضاحي تقرُّبًا للآلهة حتى تسقط الأمطار دونما فائدة، وكان يعيش في البلاد رجلٌ مسلمٌ قال للملك إنَّه إذا اعتنق الإسلام، فإنَّ الله سبحانه وتعالى سوف يرحمه ويُرسل الخير إلى بلاده. واستجاب الملك لنصيحة الرجل المسلم؛ كما استجاب الله لصلواته ودعائه؛ وجادت السماء بالمطر، ثم أمر الملك بتحطيم الأصنام كلِّها في كافَّة أنحاء المملكة، وصار هو وخلفاؤه من المسلمين الصالحين، ولكن الأهالي بقوا على وثنيَّتهم لفترةٍ من الزمن. وقد ذكر المقريزي أنَّ أحد خلفاء هذا الملك -وهو "موسى الأكوبي"- أدَّى فريضة الحج في عهد السلطان الظاهر بيبرس.

السلطان المالي المسلم منسا موسى

ولا تذكر الأساطير المحليَّة سوى الملك الأشهر "منسَا موسى" الذي يذكره ابن خلدون باسم "ماري جاطة"؛ ومعناها (الأمير الأسد). وربَّما كان هذا اللقب هو اللقب الذي حمله مؤسِّس مملكة مالي. وعلى أيَّة حال، فإنَّ المصادر التاريخية تُؤكِّد أنَّ ملك مالي السلطان منسا موسى "كان من أعظم ملوكهم" على حدِّ تعبير القلقشندي. وقد أدَّى هذا الملك فريضة الحج ومرَّ بالأراضي المصرية في رحلته البرية إلى بلاد الحجاز في عهد السلطان العظيم ركن الدين بيبرس البندقداري.

أشهر رحلة حج في التاريخ

والملك الذي تتحدَّث المصادر التاريخيَّة عن رحلته الأسطورية (من ملوك التكرور) كما يُسمِّيهم المقريزي، هو الملك "منسَا موسى بن أبي بكر"، وهو غير منسا موسى المؤسِّس الذي زار مصر أيام السلطان الظاهر بيبرس، ويصفه المؤرخون بأنَّه كان شابًّا أسمر البشرة، وسيمًا، طويل القامة، ممتلئ الجسم، وكان متبحِّرًا في الفقه المالكي؛ شديد التمسُّك بدينه، وقد اشتهر هذا الملك الشاب في الشرق العربي الإسلامي كلِّه بسبب رحلة الحج الكبيرة التي قام بها إلى الأراضي الحجازيَّة سنة (724هـ=1324م).

وقد بدأ منسَا موسى رحلته من تمبكت (تمبكتو) ومعه حاشيةٌ كبيرة العدد؛ ودارت حول تلك الرحلة حكايات غلَّفها الخيال، وأحاطت بها المبالغة؛ فقد ذكر المؤرِّخون المعاصرون، ومن نقلوا عنهم من اللاحقين، أرقامًا تفاوتت بين ستين ألفًا في تقدير المكثر وخمسة عشر ألفًا في تقدير المقل؛ كما ذكر المقريزي أنَّ خمسة عشر ألف جاريةٍ صحبن الملك الشابَّ في رحلته الحجازيَّة! كذلك ذكر ابن خلدون أنَّ عدد من حملوا أمتعة الملك وحاشيته كانوا اثني عشر ألف حمَّال يلبسون أقبية الديباج والحرير اليماني.

ومن بين الروايات المثقلة في الخيال حول تلك الرحلة الحجازية الفريدة، ما ذكره أحد المؤرخين من أنَّ امرأة الملك أرادت أن تستحم في أثناء الرحلة، في منطقةٍ تقع ما بين"تفازة وتوات"؛ فأمر الملك بحفر بحيرةٍ صناعيَّةٍ إرضاءً لها، وتقول الرواية: "إنَّ الزوجة التي كانت تُسمَّى "إنار كنت" ظلَّت ساهرةً مع الملك في خيمته، ثم نام هو، وعندما استيقظ وجدها ما زالت ساهرةً فسألها عمَّا بها؛ فقالت: إنَّها تُريد البحر لكي تستحم وتعوم، فأمر بعمل حفرةٍ ورمى فيها الأحجار والرمال، ثم ملِست الحفرة حتى صارت ملساء مثل الفخار، وبعد ذلك أمر بتفريغ المياه التي يحملها أعضاء القافلة في قربهم في البحيرة الصناعية حتى امتلأت، وأعلت وسمت، بحيث تضطرب فيها الأمواج مثل البحر العظيم".

ومهما كانت رائحة المبالغة والخيال التي تفوح من مثل هذه الروايات، فإنَّها تدلُّ على مدى ثراء ذلك الملك.

كانت مصر آنذاك المحطة التي يتوقَّف عندها الحجاج القادمون من غرب إفريقيا وشمال إفريقيا في طريقهم إلى الحجاز لأداء مناسك الحج، وقد وصلت قافلة منسا موسى إلى مدينة القاهرة في اليوم (السادس عشر من من شهر رجب سنة 724هـ=العاشر من مايو سنة 1324م). وقد أورد المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" نصًّا مختصرًا عن تلك الرحلة، على الرغم من رواياته المفصَّلة عن تلك الرحلة في كتبه الأخرى؛ إذ قال: "وفيه (شهر رجب) قدم منسا موسى، ملك التكرور، يُريد الحج، وأقام تحت الأهرام ثلاثة أيام في الضيافة، وعدى منسا إلى بر مصر في يوم الخميس سادس عشر رجب، وطلع القلعة ليُسلِّم على السلطان، وامتنع عن تقبيل الأرض، فلم يُجبر على ذلك؛ غير أنَّه لم يُمكَّن من الحضور في الحضرة السلطانية، وأمر السلطان بتجهيزه للحج؛ فنزل وأخرج ذهبًا كثيرًا في شراء ما يُريد من الجواري والثياب وغير ذلك حتى انحطَّ سعر الدينار ستَّة دراهم".

هذه الرواية المختصرة التي أوردها المقريزى عن زيارة منسا موسى بن أبي بكر للقاهرة شغلت الناس زمنًا، ولكنَّ الواضح أنَّ السلطان محمد بن قلاوون -الذي كان يحكم آنذاك- قد عامل الملك منسا موسى باعتباره تابعًا له ولم يُعامله معاملة الند، ومع ذلك فإنَّه أكرم وفادته وبعث إليه بالهدايا في محلِّ إقامته بمنطقة الأهرام.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنَّ كميَّة الذهب التي دخل بها الملك الإفريفي المسلم مصر كانت كبيرةً بالقدر الذي جعل سعر الدينار الذهبي ينخفض ستَّة دراهم في أسواق الصيرفة وفقًا لرواية المقريزي. كما أنَّ ابن خلدون، في كتابه المعنون "العبر وديوان المبتدأ والخبر" يقول: إنَّ منسا موسى أحضر معه ثمانين حملًا من تبر الذهب زنة كلِّ حملٍ ثلاثمائة رطل. وعلى الرغم من رائحة المبالغة التي تفوح من هذه الروايات، فإنَّ العمري صاحب كتاب "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" قد رفع الرقم إلى مائة حمل ذهب جاء بها منسَا إلى مصر، ومن الواضح على أيَّة حالٍ أنَّ الرجل قد جلب معه كميَّةً كبيرةً من الذهب بالفعل.

وعندما حان وقت الرحيل، أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بعمل الترتيبات اللازمة لسفر منسَا موسى من القاهرة إلى الحجاز مع حاشيته ضمن ركب الحاج المصري بقيادة الأمير "سيف الدين أيتمش" أمير الحج في تلك السنة، وكانت تعليمات السلطان للأمير تقضي بالعمل على راحة الملك منسا موسى حتى ينتهى من أداء مناسك الحج ويعود سالمًا، كما أرسل السلطان الناصر محمد إلى المسئولين عن الحجاج في أثناء الطريق يأمرهم بالسهر على راحة الملك الأسمر، وفي منتصف شهر ذي القعدة غادرت قافلة الحج المصرية القاهرة في طريقها إلى بلاد الحجاز، وقد عامل الملك الإفريقي المسلم رفاقه من الحجَّاج الآخرين في القافلة بسخاءٍ بالغٍ وكرمٍ فاق الحدود المألوفة في ذلك الزمان:

فقد حصل منه الدليل الذي كان بصحبته –مثلًا- على ما يزيد عن مائة مثقال ذهبًا، وعندما وصلت القافلة إلى مكة المكرمة والمدينة المنورة أنفق منسا موسى الكثير من الأموال، كما تصدَّق بمالٍ كثيرٍ على الأهالي والحجَّاج والمجاورين في المدينتين المقدَّستين، وعندما عاد الملك الإفريقي إلى القاهرة، في طريق عودته إلى بلاده، كان أكثر كرمًا وسخاء.

كانت الأشياء التي انطبعت في ذهن إمبراطور مالي الشاب في أثناء زيارته للشرق العربي كثيرة؛ لقد أراد الملك أن يُؤدِّي فريضة الحج شأن كلِّ مسلم، وكان في ذهنه الامتيازات السياسيَّة التي ترفع من مكانته في عيون رعاياه بسبب هذه الرحلة؛ فضلًا عن تدعيم صلاته وروابطه السياسية بسلطنة المماليك التي كانت آنذاك أهمَّ قوَّةٍ إقليميَّةٍ في العالم العربي والعالم كلِّه؛ وربَّما كان هناك سببًا آخر شخصيًّا تحدَّثت عنه المصادر التاريخية التي قالت: إنَّه تسبَّب في قتل أمِّه عن طريق الخطأ، وندم وخاف، وتصدَّق بمالٍ جسيم، وعزم على صوم الدهر، وسأل بعض علماء زمانه عمَّا يفعل في الاستغفار لهذا الذنب العظيم؛ فقال له: أرى أن تفزع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتستشفع به، وسيشفع الله فيك، وعقد العزم على ذلك في يومه.

كانت رحلة منسَا موسى بن أبي بكر الأسطوريَّة تجسيدًا لشوق ملوك مالي (التكرور) الإسلامية القديمة إلى الشرق المسلم؛ حيث الحجاز منبت الدين الإسلامي، وحيث المدينتين المقدَّستين؛ مكة المكرمة والمدينة المنورة، وحيث يُمكنهم أداء مناسك الحج لاستكمال أركان دينهم، ومن ناحيةٍ أخرى، كان الشرق العربي الإسلامي في تلك الفترة مركز الثقل في العالم المسلم ومستودع ميراث الحضارة العربية الإسلامية ومجدها الرائع، بعد الهجمات التي تعرَّض لها المغرب والأندلس الإسلامي من جانب الكاثوليك؛ واجتياح المغول للشرق الإسلامي وإسقاط الخلافة العباسية في بغداد، حتى أوقفهم سلاطين المماليك بعدما هزموا جيوشهم في عين جالوت بفلسطين.

لقد كانت القاهرة في تلك الفترة العاصمة الجاذبة للهجرة من كلِّ أنحاء العالم المسلم، بسبب ما كانت تُوفِّره من أمان، وما تنعم به من ازدهارٍ اقتصادي، واستقرارٍ سياسي، وقوَّةٍ ومهابةٍ على الصعيد الإقليمي والعالمي.

ولم يكن شوق السفر إلى الشرق العربي وبلاد الحجاز خاصَّةً قاصرًا على الحكام؛ وإنَّما امتدَّ إلى رعاياهم الذين تكبَّدوا تكاليف الرحلة، وتجشَّموا مشقَّة السفر، وخاطروا بعبور الصحراء بما تحويه من مخاوف ورهبة؛ لتتويج حياتهم بهذه الرحلة العظيمة. ومثلما يفعل مسلمون كثر في جميع أنحاء العالم المسلم في مشارق الأرض ومغاربها اليوم، كان مسلمو غرب إفريقيا (مالي، والتكرور، وغانة وغيرهم) يُفضِّلون قضاء ما بقي لهم من العمر في رحاب البلاد الحجازية وفي المدينتين المقدستين؛ زوَّارًا، وحجَّاجًا، ومجاورين، ودارسين ومدرِّسين. وقد آثر بعضهم البقاء في مصر لأسباب متنوعة؛ تجَّارًا، وطلَّابًا، وعلماء، وحرفيِّين.

وعلى الرغم من أنَّ إمبراطوريَّة مالي لم تلبث أن تعرَّضت للتفكُّك والانهيار لأسبابٍ لا يتَّسع هذا المقام لذكرها، فإنَّ زيارة منسا موسى تركت أثرها واضحا في اهتمام التجار المصريين بتجارة غرب إفريقيا من ناحية،كما جعلت المصريين يُصدِّقون ما تناولته الحكايات الخرافيَّة عن الأشجار التي تُثمر ذهبًا في تلك البلاد البعيدة من ناحيةٍ أخرى، وعلى الجانب الآخر تأثَّر البلاط في بلاد غرب إفريقيا بالمراسيم والنظم التي كان يُعمل بها في بلاط سلاطين المماليك في مصر.

وربَّما كان الأمر ذو الأثر البالغ في هذه الصلات التي قامت بين مملكة مالي الإسلامية ودول الشرق العربي؛ يتمثَّل في التمسُّك بأحكام الشريعة الإسلامية الصحيحة التي أدخلها علماؤهم في بلادهم بعد أن تعلَّموا في القاهرة أو في الحجاز، ومنذ تلك الفترة صارت دول غرب إفريقيا مسلمةً في بنيتها؛ حيث تبنَّت ما نُقِلَ من الشرق العربي المسلم من عقائد وممارسات ومظاهر ماديَّة ولا ماديَّة، وتُعتبر الآن -مع دول المغرب العربي في شمال إفريقيا- الجناح الغربي للعالم الإسلامي كلِّه.

 *عن دار عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية