كانت ضربة البداية لدخول (الركشة) ــ دراجة بخارية بثلاث عجلات تستورد من الهند وتستخدم كوسيلة نقل في السودان منذ أواخر التسعينات، بعدد قليل جداً وجد إقبالاً منقطع النظير لدرجة أن معظم الركاب كانوا يبحثون عن النزهة ليس إلا، وسرعان ما انتشرت في شوارع المدن والقرى وصارت وسيلة مريحة للتنقل بين الأحياء، مما دفع بعض التجار إلى ارتياد المجال واستيراد الركشات بكميات كبيرة لتزايد الإقبال عليها للمساهمة في الدخل الشخصي خاصة للموظفين لضعف الرواتب وقلة البدائل المتاحة ومجال عمل يحارب بطالة الخريجين.

ومن الملاحظ في الآونة الأخيرة أن السودان صار مستورداً لأعداد كبيرة من وسائل نقل الركاب، فبعد أن أثبتت (الأمجاد) مكانتها جاءت (الركشات) ثم تلاها (الهايس) و(الكريز)، وتزايد عدد الحافلات والعربات الصغيرة بصورة واضحة جداً مما دفع الشباب إلى سلوك نهج الكسب لرزق اليوم وترك المستقبل مجهولاً، فمنهم من نذر حياته لـ(السواقة) وترك من أجلها مقاعد الدراسة، بدءاً من وسائل النقل التقليدية (سواقة الكارو) ــ عربة تقليدية يجرها الخيل ثم (الركشة) وشيئاً فشيئاً الوصول إلى درجة (الأمجاد) ثم (الهايس) ليصبح السائق في مرحلة اللا عودة، فيورث الحرفة لأولاده الناشئين أساساً على حب (السواقة).

و(الركشات) في بداية عهدها بالسودان كان يقودها السائقون كبار السن من الحاصلين على رخص (سواقة) من إدارة المرور، ولهم باع طويلة أو تجربة عملية في الطريق. «كنت أعمل سائقاً في عربة (كارو) في الفترة المسائية بعد الدوام المدرسي، ثم عملت بإحدى الورش في الإجازات، تعلمت خلالها أسس قيادة الركشة التي اعتبرها من السهولة بمكان، مع سرعة الصيانة وانخفاض أسعار الإسبيرات، إلا أنها تحتاج إلى مزيد من التركيز على الطريق لخفة وزنها وصغر حجمها بالإضافة إلى ذلك؟ فالركشة في تحد دائم مع أصحاب المركبات الكبيرة ويستخفون بسائقي الركشات»؟ كما يقول حاتم حسن حماد شاب في مقتبل العمر يحكى تجربته مع الركشات.

انتشرت في الآونة الأخيرة وفى الخرطوم العاصمة وبصورة لافتة للنظر مجموعات كبيرة من دولة أثيوبيا وأرتيريا في الخرطوم، حيث أصبحت كل زاوية بيت توجد فيها بنت حبشية تعمل في بيع الشاي بجانب الوجبات الحبشية، اتجه مباشرة رجال النساء الحبشيات إلى العمل في قيادة الركشة وهم أعداد كبيرة؟ حيث يقول تسفاي وهو سائق ركشة من الجارة أثيوبيا «إن العمل المناسب لكل الأحباش في السودان هو قيادة الركشة والكثير من الأحباش حتى قبل أن يأتوا إلى السودان يكون في خاطرهم العمل في قيادة الركشة». ويضيف «أعمل منذ سنتين في قيادة هذه الركشة وقد أسست منها الكثير متوسط الدخل يتراوح ما بين الستين جنيهاً سودانياً إلى الثمانين وقد تتجاوز ذلك أيام الأعياد والعطل الرسمية والمناسبات الدينية مثل المولد والكريسماس».

أسعار معقولة

وللركشات فوائد عدة في سرعة التنقل بين الأحياء والقرى، بأسعار ملائمة جداً وتصلح لنقل الأطفال إلى المدارس والرياض، وقد أثبتت مقدرة في ترحيل الخضر والفاكهة والأدوات المنزلية، فهي مريحة وسلسة في التعامل؟ حسب محمد أحمد أحد المتعاملين مع الركشة كوسيلة نقل.

فيما يرى عثمان آدم سائق ركشة «إن للركشة سلبيات وهي أن معظم السائقين صغار السن هم السبب الرئيسي في كثرة الحوادث وسوء استعمال (الركشة)، لعدم المسؤولية والاستهتار بالمهنة، مما يجعلهم عرضة للإصابة بالحوادث، بالإضافة إلى أن (قيادتهم) للركشة ليست للكسب أو المساهمة في دخل الأسرة، بل لتغطية نفقاتهم الخاصة والتلاعب بها وسط أقرانهم لذلك لا يتمسكون بأسعار محددة، ونجدهم لقلة معرفتهم يلبون المشاوير بأي سعر مهما طالت، مما ينعكس سلباً على بقية الركشات والمواطنين الذين يعتقدون أن هذا هو السعر المعقول باعتبار أن الركشة ليست مكلفة من ناحية البنزين والإسبيرات، متناسين الاستهلاك والجهد المبذول والزمن، بالإضافة إلى الالتزام المالي (الإيراد) اليومي». ويضيف «في بداية ظهور الركشات كان العائد على الأسر كبيراً خاصة الفقيرة والمعاقين ومصابي العمليات من القوات النظامية، وكان الإيراد اليومي ‬30 جنيهاً لأن عددها كان بسيطاً جداً، ويرتادها أصحاب الفخامة والوجاهة من عامة الشعب، مما ترك انطباعاً سيئاً بأنها للأغنياء فقط وأسعار الإيجار مرتفعة جداً، وذلك ما نفاه الزمن وسرعان ما اعتاد الناس عليها وغزت الأسواق بأعداد كبيرة وازدادت المشكلات بتضاعف العدد إلى الآلاف ليصبح بالسوق عدة أجيال من الركشات.

أسماء خاصة

وثمة علاقة عمل نشأت بين سائق الركشة (جوكي) ومالكها (الجلابي) يحكمها الاتفاق بين الطرفين لتسيير العمل بينهما، وهناك عدة مسميات وسط عالم الركشات منها ما يطلق على الركشة القديمة (جلبة) والأفضل حالاً منها (جنقور) والركشة الجديدة (المبكشة) ومكتملة الزينة (قرض) و(بابور) (ولورى) وغيرها من التسميات، على اختلاف المناطق والمدن وهنالك تسميات أخرى للسائقين القدامى مثل (بكش) معلمين وبكش فارات (أربعات) للسائقين المبتدئين، وتعتبر الكتابات على الركشات مميزة للموتر ليس إلا، وتعكس نفسية السائق في أغلب الأحيان، ويسمى الجوكي الذي لا يراعي سلامة الركشة ويهملها دائماً (دباب) ــ لقب يطلق على المحاربين الذين شاركوا إبان الحرب الأهلية بجنوب السودان ــ وكذلك (هراس أو كتال).

وقد انتشرت في الآونة الأخيرة الركشات الجديدة ‬2006م المستوردة بكميات كبيرة من الهند، فمنهم من أطلق عليها اسم (القرموط) ــ نوع من الأسماك ــ لسواد لونها وسرعتها التي لا يختلف عليها اثنان، وهنالك أسماء أخرى للنوع الجديد منها (ربيكا) ــ زوجة زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق ــ وقد أطلق هذا الاسم بناءً على الاعتقاد السائد بأن هذه الركشات تم استيرادها أساساً للعمل بجنوب السودان، ولعدم صلاحيتها تم بيعها في أرجاء السودان المختلفة بأسعار زهيدة جداً، وهنالك نوع آخر بالحجم الكبير أطلق عليه اسم (تكتك) وهي منتشرة في الأطراف بكثرة، مما أدى إلى انخفاض سعر الإيراد إلى ‬15 جنيهاً وأقل من ذلك أحياناً، ولم تستعد (الركشة) مكانتها إلا بعد الترخيص ليعود الإيراد إلى ‬20 جنيهاً.

و«تلعب الركشة دوراً فاعلاً في محاربة العطالة والكسب غير المشروع، ولم تتسبب الركشات في بداية ظهورها في أي عمل إجرامي، فالقيود المفروضة عليها كبيرة جداً تبدأ من الترخيص المرتفع التكلفة ثم الالتزام بكرت شرطة النظام العام الذي كتب عليه (لجنة تنظيم عمل الركشات) «حسب عوض عبدالله عضو نقابة الركشات، غير أنها في الآونة الأخيرة أصبحت وسيلة لنقل المخدرات والخمور البلدية إلى المتعاطين داخل منازلهم ما جعلها تحت دائرة الاتهام والملاحقة ولكن رغم اختلاف الآراء حولها لكنها تمثل في ذات الاتجاه مصدراً مهماً لإعاشة الكثير من الأسر السودانية ولها ميزة تحاشي زحام المدن على الرغم من ان مصير تواجدها في السودان متأرجح بين مسؤول وآخر على الرغم من دخولها في الواقع السوداني بكل التفاصيل كرقم في الطرقات لا يمكن تجاوزه، وإن كان عصي عليها عبور الجسور الفاصلة بين مدينة أم درمان والخرطوم وبحري بأمر السلطات.

عن « البيان » الإماراتية