في نهاية العام 2009، زار رئيس الوزراء التركي والرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، ليبيا، وهي الزيارة الأخيرة له قبل إسقاط الناتو لنظام العقيد معمر القذافي. من يعود إلى تلك الزيارة، سيتذكّر مواقف الرئيس التركي والقيادي في حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وما كان يقوله من مدحيات في الزعيم، لن يتصوّر للحظة أن ينقلب الرجل الرجل في أول امتحان، ويتحول من حليف قوي إلى خصم أول، بل ومحرّض لإسقاطه. الواقع أن تجربة الأحزاب الإسلامية غالبا ما تنتهي هكذا مع من يُكرمونها ويعطونها حظوة في دولهم، فأمثلة التاريخ حتى في منطقتنا العربية حول الانزياحات في مفترق الطرق كثيرة، وما حصل بين ليبيا أيام القذافي وأردوغان ليس بعيدا عن ذلك.

كانت تركيا وبعد أيام قليلة من تقييم مسارات المعارك في 2011، ضمن المخطط الدولي للهجوم على ليبيا. في تلك الفترة، عاشت المنطقة العربية على وقع تحولات سياسية كبرى، تغيرت معها أنظمة بشكل سريع في بعضها ودخلت دول أخرى في أتون الفوضى وسطوة السلاح. ليبيا من سوء حظها كانت في الصنف الثاني، لأسباب بعضها مكشوف والكثير منها نصف مخفي، بحكم حسابات السياسة. في الجانب المكشوف كانت بعض القوى تسوّق أن المسألة تتعلق بحقوق الإنسان وبشعارات الحرية والديمقراطية وغيرها. أما الجانب النصف فهو الطمع الذي عجّل بقدوم الجميع للقفز على ثروة البلاد. الجميع في ذلك الوقت كان يعرف القذافي ومواقفها من مسألة السيادة والثروة والموقف من الغرب، فكانت الفرصة مواتية للبعض بأن يصفي حسابه معها مادامت الفرصة مواتية والجميع متكالب على إسقاطه.

الموقف التركي في تلك الفترة، اختار أن يكون إلى جانب قرار أممي خاضع في قراراته لمراكز نفوذ وبالتالي فكّرت تركيا أردوغان بمنطق، المراهنة على "الرابح"، هكذا تقريبا كان تعاملها في ما يشبه هواة المراهنات في المسابقات الرياضية. مواقفها وخياراتها بنتها على التوقع وهذا ما حصل لاحقا بإسقاط النظام وترك البلاد أمام شبح الفراغ والفوضى وصعود المليشيات وقوى العنف والتطرف، لتجد أنقرة نفسها في رأس قائمة النافذين الجدد على الساحة الليبية، وتضع منذ ذلك التاريخ قدما على الأرض وفي القاعات المغلقة عبر مقربين لها، هي تدعمهم بكل قوة، وهم يرونها سندهم أمام القوى الدولية والإقليمية التي ترى فيهم مشروعا مشجعا على التطرف ونبذ الآخر.

منذ ذلك التاريخ لم تغب تركيا عن ليبيا. في كل المحطات اللاحقة كانت متواجدة بقوة، الفرق أنها اختارت زوايا اللعب في المشهد. خيارها الذي رسمتها لنفسها هو أن تكون داعمة وحاضنة لكل ممثلي الإسلام السياسي. أردوغان بطبيعته بدأت تكبر في ذهنه فكرة الزعامة واستحضار الخلافة العثمانية وبالتالي بالنسبة إليه، سيفتش عن الأقرب في تبني ما يريد تحت شعارات الإسلام العائد في وجه خصوم تم تصنيفهم خارج ذلك السياق. زعامتها بدأ يبنيها حتى في بلاده عبر الحرب على خصومه الذي يرفضون سياستها، بل حتى عبر صناعة سيناريوهات تؤبّد حكمه وحكم حزبه، ولعل الشبهات حول حادثة الانقلاب التي وقعت منتصف 2016، تكون دليلا على ذلك.

كانت ليبيا إذن ساحة مفتوحة لأردوغان، واصطفافاته مختارة على حسب التفكير الذي يناسب مشروعه. الواقع الذي يتهرب منه كثيرون أن أردوغان لا يراهن على مشروع الإسلام السياسي بشكل عقائدي مثلما يتبناه البعض في المنطقة العربية. الرجل سليل ثقافة قومية تركية علمانية ومتعصبة في الكثير من الأحيان لتركيتها، لكن هو اختار ذلك الطريق لغايات لا تغيب عنها المصلحة، وليبيا بالنسبة إلى جزء من المصلحة وحتى ما حصل لاحقا يؤكد ذلك.

وفي تحول غير مسبوق للدور التركي في ليبيا بعد العام 2019، والحرب التي بدأها الجيش على طرابلس، اختارت أنقرة أن تكون جزءا من تلك الحرب. في البداية عبر دعم سياسي ظاهر ولوجستي مخفي، ثم في مرحلة لاحقة بداية العام 2020 بالمشاركة المباشرة إسنادا لحليفها السراج الممثل السياسي لإسلاميي غرب البلاد، وكان ذلك عبر طريقتين، الأولى كانت بإرسال مرتزقة أجانب تم استقدامهم من الساحة السورية والثانية عبر سلاح الجو الذي كان حاسما في تغيير مسار الحرب آنذاك.

وبالحديث السابق عن أمجاد عثمانية راسخة في ذهن أردوغان يحاول أن يستثمر لها كل شيء، نستخضر مقالا للكاتب العربي الكبير طلال سلمان في موقع "الشروق المصرية" متحدثا عن هذا الأمر. في ذلك المقال اعتبر أن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان رسخت في ذهنه أن ليبيا هي بعض أملاك "السلطنة"، وأراد استردادها ولو عن طريق إرسال المرتزقة. سلمان أضاف أن اردوغان يعتبر نفسه وريث السلاطين في مخيلته، لكن في الوقت ذاته، "يحاول اجتياح ليبيا طمعاً بنفطها وموقعها الاستراتيجي ومساحتها الخرافية التي تسمح له بتوسيع إطار مناوراته بوصفه السلطان الجديد".

ومنذ دخولهم إلى ليبيا، أصبحت قضية المرتزقة، أعقد القضايا وأكثرها إثارة للجدل. فبعد توقف المعارك في أغسطس من العام الماضي، ركز الحديث عن ضرورة إخراج المرتزقة الأجانب كسبيل للتقدّم بالعملية السياسية، وحتى الحوار السياسي الذي بدأ في أشهر لاحقة دائما ما ركز على هذه النقطة، إلى أن تم وضع بند في مخرجاته التي أفرزت حكومة الوحدة الوطنية وهو بند المرتزقة الأجانب وضرورة إخراجهم من البلاد.

لكن على الرغم من النداءات المحلية والدولية بضروة إخراج المرتزقة من ليبيا، إلا أن أنقرة مازالت تصرّ على تجاوز الجميع وعدم الانضباط لمخرجات الحوار السياسي حول القضية. وفي الوقت الذي يبحث فيه الجميع عن توافق داخلي مازالت الطائرات التركية تنقل المقاتلين إلى ليبيا، حيث ذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان في فبراير الماضي أن دفعات مازالت تصل غرب البلاد وينقلون إلى مناطق يشرف عليها ضباط أتراك، بل حتى محاولات الإيهام بإخراجهم من ليبيا كان يتم عبر التدوير أي إعادة البعض وتعويضهم بآخرين مما خلق مشاكل فرضت على مسؤولي السلطة التنفيذية مطالبة أنقرة بالالتزام بالقرارات التي خلص إليها الحوار السياسي الليبي.

وفي قراءة للإصرار التركي على الإبقاء على المرتزقة داخل ليبيا، يمكن أن نستخلص أنها محاولة المناورة أمام خصومها لضمان استمرار العمل بالاتفاقيات التي تم توقيعها في نوفمبر 2019 مع حكومة الوفاق وما فيها من امتيازات ربحت بها لا في ليبيا فقط بل في المتوسط أيضا، كما أنها تضغط بكل قوة لكي لا يجد حلفاؤها في الداخل أنفسهم خارج اللعبة السياسية مستقبلا، وبالتالي يفهم من رفضها الحسم في قضية المرتزقة أن تحصل على ضمانات من القوى الفاعلة على الساحة الليبية بأن دورها باق ولن تغييره التحولات التي شهدتها البلاد مؤخرا.


-------------------------------------------------------------------------------------------


  • كانت تركيا وبعد أيام قليلة من تقييم مسارات المعارك في 2011، ضمن المخطط الدولي للهجوم على ليبيا. في تلك الفترة، عاشت المنطقة العربية على وقع تحولات سياسية كبرى، تغيرت معها أنظمة بشكل سريع في بعضها ودخلت دول أخرى في أتون الفوضى وسطوة السلاح.


  • منذ 2011 لم تغب تركيا عن ليبيا. في كل المحطات اللاحقة كانت متواجدة بقوة، الفرق أنها اختارت زوايا اللعب في المشهد. خيارها الذي رسمتها لنفسها هو أن تكون داعمة وحاضنة لكل ممثلي الإسلام السياسي. أردوغان بطبيعته بدأت تكبر في ذهنه فكرة الزعامة واستحضار الخلافة العثمانية.


  • في تحول غير مسبوق للدور التركي في ليبيا بعد العام 2019، والحرب التي بدأها الجيش على طرابلس، اختارت أنقرة أن تكون جزءا من تلك الحرب. في البداية عبر دعم سياسي ظاهر ولوجستي مخفي، ثم في مرحلة لاحقة بداية العام 2020 بالمشاركة المباشرة إسنادا لحليفها السراج الممثل السياسي لإسلاميي غرب البلاد، وكان ذلك عبر طريقتين، الأولى كانت بإرسال مرتزقة أجانب تم استقدامهم من الساحة السورية والثانية عبر سلاح الجو الذي كان حاسما في تغيير مسار الحرب آنذاك.


  • على الرغم من النداءات المحلية والدولية بضروة إخراج المرتزقة من ليبيا، إلا أن أنقرة مازالت تصرّ على تجاوز الجميع وعدم الانضباط لمخرجات الحوار السياسي حول القضية. وفي الوقت الذي يبحث فيه الجميع عن توافق داخلي مازالت الطائرات التركية تنقل المقاتلين إلى ليبيا.


  • وفي قراءة للإصرار التركي على الإبقاء على المرتزقة داخل ليبيا، يمكن أن نستخلص أنها محاولة المناورة أمام خصومها لضمان استمرار العمل بالاتفاقيات التي تم توقيعها في نوفمبر 2019 مع حكومة الوفاق وما فيها من امتيازات ربحت بها لا في ليبيا فقط بل في المتوسط أيضا، كما أنها تضغط بكل قوة لكي لا يجد حلفاؤها في الداخل أنفسهم خارج اللعبة السياسية مستقبلا