يتساقط من جبينه عرق التعب، يُلقي بيديه المليئتين بتجاعيد قسوة الأيام مخلفات معدنية من النحاس والألومنيوم في قدر متأجج بالنيران، ويقلب هذا الرجل المصري الخمسيني تلك المخلفات بملعقة حديد كبيرة أحنت ظهره من ثقلها متحملاً سخونة السائل المنصهر الذي ينصبّ في النهاية بقوالب تصنع أشياءً منزلية هامة مثل الصنابير ومستلزمات مواقد الطعام.
كل ما مضى هو مشهد صغير ضمن قصة كبيرة في مصنع لتدوير وإعادة صناعة “الخردة”، بطله عم “سيد هنيدي” الصانع المصري الذي يقترب عمره من 54 عامًا قضي منها 40 عامًا في مهنة سبك الخردة والتي رغم صعوباتها وخطورتها يراها ” أكل عيش (مصدر رزق)” بحسب ما يروي لمراسل الأناضول.
والخردة كلمة تطلق علي المعادن غير المستعملة، كالأجهزة الكهربائية القديمة، أو المعادن غير المستخدمة، كالنحاس، والألومنيوم، والبلاستيك.
عم سيد هو العمود الفقري في “كنز″ تدوير وإعادة تصنيع خردة النحاس والألمونيوم في مرحلته الأولي السباكة، لا يهمه وقوفه بالساعات أمام وقود لا يهدأ لصهر المخلفات المعدنية، بملابس مُلأت بسواد دخان المكان، ووجه تقرأ في ملامحه التحمل الشديد، في مهنة ورثها عن أبيه.
وليس وحده عم سيد في هذا المصنع الذي يبني أكل عيشه علي المخلفات المعدنية، فكل من يتواجد كبيرا أو صغيرا يعتبرها مصدر الصناعة ، ولابد أن تتواجد أجولة مخزنة بها عبر شرائها من تجار يجمعونها من مخلفات المصانع أو المنازل .
ولتوضيح قيمة الخردة، يقول محمد فتحي (31 عاما) أحد العاملين بالمصنع : “الحنفية (الصنبور) القديمة التي تفك من المنازل وترمي في الزبالة (القمامة) نحن نحتاجها ونقدر قيمتها ونطلع (نوجد) منها بحاجة (شيء) جديدة بعد صهرها وصبها في قوالب مجسمة مسبقا علي شكل خلاطات مياه وعدد من مسلتزمات البوتاجاز(موقد الطعام)”.
في أحد أركان المصنع، كانت مجموعة من تلك القوالب توضع في الرمال متشحة بالسواد، لامتصاص حرارة النيران، ويبدأ عامل في تنظيفها من الرمال، قبل أن يحملها بعض عمال أحد تجار القليوبية (شمال القاهرة) في أجولة في طريقها للمرحلة الثانية وهي الخراطة المعنية بضبط وتشكيل القالب.
انتقل مراسل الأناضول إلى حي الخصوص بمحافظة القليوبية، شمال القاهرة، وهي منطقة صناعية تهتم بمثل هذه الصناعات وفيها تقبع مخرطة إيهاب اليماني أحد أبرز التجار بمصر في مجال الأدوات الصحية.
أصرّ اليماني قبل اصطحاب مراسل الأناضول في جولة للتعرف علي مرحلة الخراطة علي التحدث عن أهمية الخردة قائلا :”الخردة شيء مهم جدا في مصر، تعتبر مثل الأكل والشرب (الماء) وأهمّ منهما، وليس أقل من 2 أو 3 ملايين مصري يعملون فيها وفي مجالات تدويرها سواء في السباكة والخراطة والتلميع أو في التجميع والتعبئة والتسويق والتصدير”.
الخراطة هي المرحلة الثانية بحسب اليماني الذي يتم فيها وضع المنتج بعد سبكه ووضعه في قالب، علي ماكينات تعني بضبط وتشكيل القالب، وهي عملية دقيقة تعتمد علي دقة الصناع ومهارته ، لاسيما في مصر التي تتميز بالعمالة الماهرة.
ومن الخراطة إلي التلميع تبدأ الخردة مرحلة ثالثة عبر وضعها علي ماكينات وأحواض ماء لتلميع المنتج من الأصفر إلي الفضي ، قبل تحويلها إلي منتج شعبي يجد إقبالاً كبيرًا في الداخل والخارج، بحسب اليماني.
وفي مخزن لليماني تبدأ مرحلة التجميع والتعبئة وهي المرحلة الرابعة قبل الأخيرة المعروفة بالتسويق، مشيرا إلي أن الخردة في مراحلها الخمسة المرتبطة بصناعة واحدة أو صناعتين في هذه الحالات السابقة تستوعب عمالة كبيرة، ولكي تستمر العمالة وتد ر عملة صعبة للبلاد يجب أن تتواجد “الخردة” ولا تصدّر للخارج، بحسب قول اليماني.
وبخبرته التي تجاوزت 30 عامًا من عمره الذي يقدر بـ 50 سنة، أوضح اليماني أن الخردة لها قيمة كبيرة في أسواق الصناعة في بلاد مثل الصين وإيطاليا التي تقوم بإعادة صناعتها وتصديرها مرة أخرى بقيمة أخرى مرتفعة لبلاد أخرى منها مصر، موضحا أنه سافر إلى بلاد عربية وآسيوية منها ورأى فيها مقدار الاهتمام بالخردة كمصدر لبناء اقتصاد قوي.
في هذه المهنة المتشابكة والقائمة بالأساس علي “الخردة”، يحرص الصناع والتجار علي توريثها للأبناء، فـإيهاب اليماني أحد التجار ورثها عن والده حسان وجده محمد كما يقول متعلمًا منهم خبرة السوق.
والخردة ذلك الكنز الذي لا يدري قيمته كثير من المصريين، تختلف أسعارها في السوق المحلي لدى تجارها بحسب نوع معدنها، فكيلو المخلفات النحاسية يقدر بنحو 27 جنيها (3.5 دولار) ومخلفات الألومنيوم يقدر الكيلو منها بـ 11 جنيهًا (دولار ونصف)، بحسب إيهاب اليماني التاجر المصري المتهم بصناعة الصنابير ومستلزمات مواقيد الطعام.
وتشغل الصناعة حيزًا هامًا من اقتصاد مصر وبحسب بيانات لوزارة التخطيط المصرية، يساهم القطاع الصناعي بنحو 16% من الناتج المحلي الإجمالي بمصر.