هل تسير الحركة نحو النهاية السياسية "المؤلمة"؟

تطورات متسارعة على الساحة السياسية التونسية، لم تستثن حركة النهضة الطرف الأساسي في " الأزمة الخانقة" التي تعيشها تونس على امتداد سنوات. فمن الصعود الساحق في انتخابات 2011 وحتى السقوط المدوّي بعد تحركات 25 جويلية /يوليو 2021، كانت حركة النهضة في انشغال تام عن قضاياها وتوافقاته الداخلية كحزب وقضاياها الخارجية كطرف سياسي فاعل وهام يستجيب لتطلعات الشعب التونسي ويضمن لنفسه البقاء والاستمرار.

رحلة تشريعية "فاشلة"

في 2011، اكتسح حزب حركة النهضة الإسلامي الانتخابات التشريعية في تونس وصعد إلى سدّة الحكم بـ89 مقعدا من جملة 217 مقعد في المجلس الوطني التأسيسي محتلا بذلك صدارة تطلعات التونسيين أيضا ومتربعا على عرش المشهد السياسي كـ"أناس يخافون الله وسيؤتمنون على البلاد" بعد ثورة الياسمين التي قادها الشعب التونسي بمختلف فئاته بحثا عن الديمقراطية والإصلاح الاقتصادي والإجتماعي ليدخل منذ ذلك الحين في سرداب جديد من الأزمات كان  المكسب الوحيد فيه"حرية التعبير" حسب الخبراء والمحللين.

في 30 جانفي/يناير 2011، أعلن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي فور عودته من منفاه  عدم رغبته في الترشح للرئاسية آنذاك غير مستبعد في الوقت ذاته حضوره وقيادات حركته في الحكومة الإنتقالية. مفيدا أن "بناء حزب حركة النهضة" هي أولويتهم.

أما في انتخابات 2014، "وبعد تجربة الإسلام السياسي الفاشلة" التي خاضتها تونس كغيرها من عديد الدول العربية التي انتفضت تزامنا مع الثورة التونسية، بدأ حزب حركة النهضة بالتراجع شعبيا ليحتل المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد بالبرلمان التونسي بـ69 مقعدا خلف نداء تونس الذي استحوذ على 85 مقعدا. تراجع اعتبره الخبراء مدوّ للحركة في غضون 4 سنوات فقط من ظهورها في المشهد السياسي التونسي.

في تشريعية 2019 تصدر حزب حركة النهضة الإسلامي نتائج الانتخابات، وذلك بحصولها على 52 مقعدا من جملة 217 مقعدا بالبرلمان، وهو لئن مثل فوزا لها باعتبارها ستكون المعنية أساسا بتشكيل الحكومة القادمة، إلا أنه يعد تراجعا بالمقارنة مع الـ 69 مقعدا كانت تحصلت عليها في أول استحقاق تشريعي بعد دستور 2014 والـ 89 مقعدا في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011. لتكون بذلك تشريعية 2019، بداية "الإندحار السياسي للنهضة" رغم اعتلاء زعيمها راشد الغنوشي رئاسة البرلمان التونسي الذي دخل بدوره في فوضى عارمة تتالت فيها المطالبات وعرائض سحب الثقة منه.

يقول الخبراء السياسيون أن حركة النهضة جعلت من نفسها "كبش فداء" لفشل " العشرية السوداء" في تاريخ تونس وهو ما تترجمه المؤشرات الاقتصادية والإجتماعية والأزمة السياسية الخانقة التي خلّفتها التحالفات والخيارات الفاشلة للحركة. فبعد تحالف فاشل مع الترويكا مثّل التحالف مع قلب تونس سقوطا مدويا للحركة ومصداقيتها توجّهها "فلا يمكن أن تعارض الحركة نفسها".

تصدّع وانشقاقات داخلية

لم تكن الخلافات والانشقاقات بحركة النهضة وليدة ما بعد 25 يوليو/ 2021 بل يؤكّد المحللون السياسيون أنها خلافات قديمة منذ أول مؤتمر للحركة بعد الثورة التونسية وهو خلاف امتد وتواصل طيلة السنوات العشر وكانت نتائجه وخيمة تسببت مؤخرا في حل المكتب التنفيذي للحركة والإستقالات المتتالية والتصدّعات العميقة بين قيادييها وهو ما أثر بدوره على قاعدتها الشعبية التي تتقلص من محفل سياسي إلى آخر.

منذ مؤتمرها العاشر في ماي/ مايو 2016، بدأت الأزمة الداخلية تثير الدخان والتساؤلات حول المطبخ الداخلي لحركة النهضة، إذا شهدت خلافات حادّة بين قياداتها حيث انقسمت القيادات فعليا إلى شقين، الشق الداعم لراشد الغنوشي وشق من رموزها وقيادييها داعمين للتجديد والتغيير في مكتبها التنفيذي وقيادتها وكذلك في نهجها السياسي وبرزت أصوات معارضة واستقالات منذ ذلك الحين رغم ما أبدته الحركة من صمود في قادم المسارات السياسية والانتخابية.

في عام 2017، شهدت الحركة خلافات كبيرة عميقة بسبب سياسة التحالفات التي انتهجها زعيم الحركة راشد الغنوشي حيث نشب "خلاف كبير داخل حركة النهضة بشأن التوافق مع حزب نداء تونس، إذ يرى قسم داخلها أن الحركة قدمت تنازلات مؤلمة وغير ضرورية للشركاء في الحكم، فيما يذهب الطرف الآخر، بقيادة الغنوشي، إلى اعتبار تلك التنازلات مهمة لمصلحة الحزب والبلاد".

في 2019 بدأت الخلافات تشتدّ داخل الحركة وباتت الأصوات المكتومة"لأجل مصلحة الحركة" تصدح بالأسباب والخلل الموجود أعلى قمة الحركة "بالإستحواذ التام على السلطة ومقاليد تسيير الحركة دون تشريك العديدين في قرارات كثيرة" لعل أبرز الإستقالات استقالة زياد العذاري من كل المناصب القيادية في حركة النهضة منذ نوفمبر 2019، وهي منصب الأمين العام المكلف بفضاء الحكم ومن المكتب التنفيذي لتعقبها استقالة من كتلتها بالبرلمان التونسي.

 وقال العذاري في تصريحات إعلامية مختلفة متحدثا عن أسباب استقالته "في سنة 2019 رأيت بأن الحركة أصبحت منهمكة أكثر في الشأن الداخلي وأصبح التركيز أكثر على أجندة المؤتمر ورئيس الحركة والخلاف الداخلي ." مفيدا بأنه قد "حصل تحول داخل حركة النهضة بسبب المسار الخاطئ الذي تتبعه الحركة و خياراتها وقراراتها الخطيرة،" واتهمها بالسير بالبلاد في سكة محفوفة بالمخاطر لا ترتقي إلى تطلعات التونسيين.

وفي أواخر العام 2020، أطلق حمادي الجبالي الأمين العام السابق لحركة النهضة مبادرة سياسية جديدة، قال أنها ليست مبادرة بل مقترحات، تهدف لتجاوز الخلافات داخل الحركة مبديا رغبته في العودة إلى الحزب ووجّه على ضوء ذلك رسالة إلى راشد الغنوشي دعاه فيها إلى  "وقف النزيف الداخلي في جسم الحركة، والتصدع الخطير في الصف القيادي الأول، وتهيئة المناخات النفسية والتنظيمية والإدارية لحوار صريح وبناء حول كل القضايا التي تهم الحركة والبلاد، والإعداد الجيد للمؤتمر الحادي عشر، حتى يكون مؤتمر التوحيد والإصلاح والتخطيط الإستراتيجي على جميع المستويات والمجالات".

واعترف الجبالي، بأن حركة النهضة تمر بـ"محنة حقيقية ومحطة مفصلية لم تشهد لها مثيلاً طيلة تاريخها الممتد على العقود الخمسة الماضية"، داعيا إلى إيقاف التجاذب الإعلامي بين قياداتها، كما طالب رئيس الحركة بتأكيد التزامه تطبيق جميع فصول القانون الأساسي الخاصة بها، وعدم نيته تغيير أي فصل فيه، والتزامه قرارات المؤتمر المقبل الذي قال إنه سيحدد مستقبل الحركة. لكن المبادرة "لم تلقى آذانا صاغية" حيث قال الجبالي أنه " لم أتلق رداً لأن المحتوى لم يعجب راشد الغنوشي" مفيدا في السياق ذاته وفي تصريحات إعلامية أن " الشورى داخل النهضة ضربت، وغابت تماما".

بعد 25 يوليو..حركة النهضة بين المطرقة والسندان

بعيدا عن القرارات الرئاسية التي قضت في مرحلة أولى بتجميد البرلمان التونسي في الـ25 من جويلية/يوليو ثم حله نهائيا فيما بعد. كانت حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي يمرون "بأزمة داخلية وخارجية حادة" وسط فوضى وعنف طغت على جلسات البرلمان وترجمت عمق الأزمة السياسية الخانقة للشعب التونسي الذي خرج تلقائيا في الـ 25 من جويلية/يوليو، دون أن تعلن أي جهة دعم التحركات في البداية ومسؤليتها عنها، لتنطلق صيحات الشعب في مناطق مختلفة من البلاد مطالبة بحل البرلمان وإسقاط حركة النهضة من المشهد السياسي بحرق مقراتها في ولايات ومناطق عدة من البلاد التونسية.

قبل ذلك كان البرلمان التونسي يعيش حالة من الفوضى والعنف الغير مسبوق وأمضيت العرائض الواحدة تلو الأخرى مطالبة بإقالة راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان، كما أطلق نشطاء وحقوقيون تونسيون، بداية عام 2020، على مواقع التواصل الاجتماعي حملة شعبية للمطالبة بإعفاء رئيس حركة النهضة الإسلامية راشد الغنوشي من رئاسة البرلمان التونسي، على إثر زيارة غامضة أداها إلى تركيا ووقّع الآلاف التونسيين على لائحة حملت عنوان "لا لراشد الغنوشي على رأس البرلمان". ومع بداية العام 2021 وقع  103 نائب من أصل 217 نائب  بالبرلمان التونسي عريضة لسحب الثقة من رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي على خلفية "سوء إدارة العمل وتنامي العنف داخل البرلمان" . مشاهد كثيرة للعنف اللفظي والمادي تنامت تحت قبة البرلمان "وسط عجز تام لرئاسته عن حسن إدارته" مقابل تنام كبير للأزمات خارج قبة البرلمان خاصة مع جائحة كورونا التي عصفت بالبلاد في مأساة صحية غير مسبوقة أمام غياب تام للحلول و"حت الرغبة في إيجاد حلول".

في مقابل الأزمة الخارجية المحيطة بحركة النهضة عامة وبرئيسها راشد الغنوشي خاصّة، طفت إلى "سطح التماسك  الداخلي الهش" الذي كانت تبديه الحركة خلافات كبيرة وانشقاقات عميقة واستقالة من الوزن الثقيل. ففي سبتمبر 2021 بلغت حصيلة الاستقالات صلب حركة النهضة، 131 عضوا من بينهم نواب وقياديين بارزين في الحركة على غرار سمير ديلو وعبد اللطيف المكي ومحمد بن سالم وغيرهم، معللن هذه الإستقالات الجماعية بـ"إخفاقهم في معركة الإصلاح الداخلي"، محملين "القيادة الحالية للحزب المسؤولية الكاملة فيما وصلت إليه من عزلة، وقدرا هاما من المسؤولية فيما انتهى إليه الوضع العام بالبلاد من تردّ فسح المجال للانقلاب على الدستور والمؤسسات المنبثقة عنه"، وفق تعبيرهم.

من جانبه أفاد الوزير الأسبق والقيادي المجمّد في حركة النهضة عماد أن رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي تحوّل إلى "دكتاتور كامل الأوصاف". مؤكدا في ذات السياق أن الغنوشي"انتهى سياسيا"، وفق تعبيره. كما شدد الحمامي على ضرورة أن تقطع الحركة مع الإسلام السياسي وتتحول إلى حزب مدني يخدم مصلحة التونسيين. وكان الحمامي قد صرّح على إثر تجميد نشاطه بالحركة أن "تجميده من طرف رئيس الحزب هو استهداف لشخصه".مضيفا "رفعت راية الإصلاح فجمّدوني داخل حركة النهضة."

تجميد الأرصدة والمثول أمام القضاء مع إمكانية الإيقاف..هل هي النهاية؟

في 5 يوليو2022، قررت السلطات التونسية تجميد الأرصدة المالية والحسابات المصرفية لعشر شخصيات من بينها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، ورئيس الحكومة السابق، حمادي الجبالي. كما شمل  القرار وزير الخارجية السابق رفيق عبد السلام  ونجل الغنوشي وابنتي الجبالي. وفي وقت سابق،في شهر مايو من العام الحالي، أصدرت المحكمة الإبتدائية بأريانة التابعة لإقليم تونس الكبرى بتحجير  السفر على راشد  الغنوشي وأكثر من 30 شخصا آخرين، على خلفية ما يعرف قضية تعرف بـ"الجهاز السري للحزب الإسلامي".

تهم مختلفة تحوم حول راشد الغنوشي وحركة النهضة "من غسيل الأموال إلى الإرهاب وتهديد أمن الدولة إضافة إلى التمويلات المشبوهة وغيرها" في صلة "بجهازها السري" ومصادر تمويلها. وكانت النيابة العامة بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب قد قررت إيقاف ثلاثة مسؤولين بجمعية خيرية "جمعية نماء" من أجل شبهات الحصول على تمويلات مجهولة المصدر وشبهات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب من بينهم القيادي السابق في حركة النهضة حمادي الجبالي.

وكان رضا الرداوي عضو هيئة الدفاع عن شكري بلعيد ومحمد البراهمي، قد قال خلال مؤتمر صحفي فبراير الماضي، أنه "في عام 2011  تأسست جمعية تحت اسم "نماء تونس" وكان هدفها تشجيع الاستثمارات الأجنبية، وتورطت في جرائم التسفير وتم فتح أبحاث جزائية أولية سرعان ما لاحقتها يد حركة النهضة عبر ذراعها في القضاء، القاضي بشير العكرمي، وتم وقف المسار" وأوضح "أن الجمعية كانت تتخذ من تشجيع الاستثمار غطاء لها فيما كان دورها الباطني إدارة معركة التسفير إلى بؤر الإرهاب عبر مبالغ مالية تضخ في حسابها".

يقول الخبراء والمحللون أن "الخناق اشتد حول الغنوشي لدرجة استنجاده بجبهة الخلاص الوطني كحركة يائسة" حيث تحدّث أحمد نجيب الشابي رئيس الجبهة  في مؤتمر صحفي عقد بداية الأسبوع الماضي، "غريب التوقيت والتنظيم والتصريحات" حسب توصيف المحللين الساسين، على لسان الغنوشي وأكّد  نفي رئيس حركة النهضة لأي علاقة تربطه بجمعية 'نماء تونس' التي وقع فتح تحقيق قضائي فيها أو قضية انستالينغو وأنه سيمثل يوم الثلاثاء للتحقيق معه، وفق تعبيره. ونقل أحمد نجيب الشابي على لسان راشد الغنوشي "أنا ولدت في هذه الأرض وسأموت فيها وليس لي شيء إلا أن أستجيب لهذا الاستدعاء وحسب المعلومات الأولية التي وصلتني سيتم إيقافي".

تسارع كبير في الأحداث في الآونة الأخيرة و"سقوط مدوّ لرئيس حركة النهضة راشد الغنوشي" الذي كانت توقعات "فشل الإستفتاء"، المستبعدة إلى حدّ ما حسب الخبراء، تنذر بعودته إلى سدّة الحكم، لكن مع التهم الموجهة إليه وبعد تورطه في التمويلات المشبوهة وعقود اللوبينع التي أطاحت ببعض قائماتها في انتخابات 2019 بقرار رسمي من المحكمة التونسية، يبدو أن حركة النهضة، المتصدّعة أساسا بخلافاتها الداخلية وانسحاب أبرز قيادييها، وزعيمها راشد الغنوشي على شفير النهاية السياسية" المؤلمة".