المرأة الليبية تعيش مأساة مضاعفة؛ مأساة الوطن بأسره بما تعنيه من حرب وإرهاب وغياب للأمان، ومأساة كونها امرأة مكاسبها القليلة مهددة بالتلاشي في ظل النزاع المسلح ومحاولات أسلمة المجتمع قصرا. المرأة الليبية لم تتأخر عن المساهمة في الحراك السياسي والمدني منذ اندلاع الثورة في ليبيا لكنها اليوم تعاقب من قبل قوى إسلامية متطرفة تسعى حثيثا إلى إعادتها إلى عصر الظلمات والاستعباد. منذ اندلاع الثورة والشعب الليبي يعيش تحت وطأة النزاعات المسلحة إلى ما بعد انتهاء فترة حكم القذافي، وتواصلت هذه النزاعات بل يمكن الجزم بأنها -وخاصة في الفترة الأخيرة- تضاعفت وازداد الأمر سوءا مع انتشار السلاح وضعف الدولة وغياب الدور الفاعل لمؤسساتها إلى جانب انتشار الجماعات المتطرفة والإرهابية ومنها أنصار الشريعة التابعة للقاعدة في جميع أنحاء البلاد بالإضافة إلى الكتائب المسلحة أو الثوار وغيرها من المجموعات المسلحة المتناحرة. شاركت الليبيات فتيات وشابات وأمهات وعجائز في الحراك الشعبي للإطاحة بحكم لم يضمن حقوقهن كاملة على مدار سنوات حكمه وكان الطموح الأكبر الذي جمعهن وأبناء وطنهن الحرية وضمان الحقوق، وأملن في غد أفضل لهنّ وللأجيال القادمة يكون عنوانه الحفاظ على المكاسب على قلّتها وكسب الحقوق والحريات وتحقيق العدالة والمساواة مع الرجل في كل مجالات الحياة من التعليم إلى العمل إلى المناصب القيادية في الدولة. ولا أدلّ على هذه المشاركة الفعّالة في ثورة 17 فبراير من تقرير منظمة الأمم المتحدة الصادر في عيد المرأة 08 مارس/آذار 2014 حيث حيّت المنظمة المرأة الليبية لدورها خلال الثورة وكذلك مشاركتها في انتخابات لجنة الستين المكلفة بإعداد الدستور، في بداية المرحلة الانتقالية، وقال الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، طارق متري: “إن نسبة مشاركة النساء في هذه العملية الانتخابية بلغت 40.8 بالمئة، وهو ما يبعث برسالة مفادها أن المرأة قادرة على المطالبة بحقوقها السياسية، وعلى أنها جزء من العملية السياسية الانتقالية من خلال مبادراتها ومشاركاتها في جميع المجالات وفي كل مناطق ليبيا”.

غير أن فترة ما بعد الثورة لم يتحقق فيها ولو جزء بسيط من هذه الطموحات بل وجدت الليبية نفسها في حلقة مفرغة لا تبدو نقطة نهايتها قريبة وباتت تتقاسم مع وطنها المعاناة وتتجرع بمرارة شتى صنوف الانتهاكات التي تمس المجتمع الليبي بأكمله وخاصة منه الفئات الضعيفة كالأطفال والنساء. ولم يشفع لها وجودها في الصفوف الأولى من المشاركين في ما يسمى بالثورة الليبية خلال المرحلة الانتقالية بل عانت التهجير والنزوح وتدمير الوطن والبيت والأسرة والمدينة وتشتت أفراد الأسرة وغياب الحقوق أدناها وأرقاها وعلى رأسها الحق في حياة كريمة وآمنة في وطن مستقر. وحسب آخر تقارير منظمة الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان في ليبيا الصادر نهاية عام 2014 فإن القتال الذي تواصل خلال الأشهر الأخيرة بين الجماعات المسلحة في غرب ليبيا وشرقها وجنوبها قد أدى إلى مقتل مئات المدنيين ونزوح جماعي لآلاف آخرين، علاوة على معاناة أولئك العالقين في مناطق النزاع من ظروف إنسانية قاسية. ويوثّق التقرير الذي أصدرته بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا بالاشتراك مع مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حالات القصف العشوائي للمناطق المدنية واختطاف المدنيين والتعذيب والتقارير الواردة عن حالات الإعدام وكذا التدمير المتعمد للملكيات وغيرها من التجاوزات والانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي في مناطق مختلفة من البلاد.

فمثلا في منطقة ورشفانة الواقعة غرب ليبيا، أدى القتال بين الجماعات المسلحة المتحاربة إلى مقتل ما يقارب من 100 شخص وإصابة 500 آخرين خلال الفترة الممتدة من أواخر آب/أغسطس وأوائل تشرين الأول/أكتوبر 2014. وتسبب القتال في أزمة إنسانية حيث يقدر عدد النازحين بما لا يقل عن 120 ألف شخص يعانون نقصا حادا في الغذاء والإمدادات الطبية. كما تم تدمير مئات المنازل والمزارع وغيرها من المؤسسات التجارية، حيث تعرضت المستشفيات للقصف أو الاحتلال على أيدي الجماعات المسلحة. كما أدت الهجمات على الملكيات الخاصة إلى تدمير العديد من المنازل، فيما تم تهجير عدد هائل من العائلات. هذه التجاوزات في مجال حقوق الانسان تمس بطريقة مباشرة ومن كل النواحي المرأة الليبية فهي أمّ الشهيد أو المخطوف وهي أخته وزوجته وابنته وهي ربّة أسرة تشتت أفرادها وهي فرد من أسرة كبيرة تقطعت بها السبل للوصول لزيارة عائلتها في مدينة أخرى وهي مهجّرة من موطنها وهي تلك التي دمّر بيت كان يؤويها وأبناءها وزوجها وهي اليوم لاجئة أو نازحة مقيمة في بلد آخر تعاني ويلات الخصاصة والغربة. كما أن الليبيات تعرضن للإساءة والعنف والتعذيب والسجن والاغتصاب والحجز والقتل والاغتيال كما يحدث في ظل الحروب دوما ورغم غياب الإحصائيات الرسمية لعدد النساء المعنّفات أو المتضررات إلا أن هذا الأمر ثابت. وهو ما يجعلهن يواجهن شتى صنوف الاعتداءات في غياب دولة قادرة على فرض الأمن والعدالة، وسواء كانت مواطنة بسيطة أو سياسية أو حقوقية أو ناشطة أو كاتبة أو صحفية.. فهي مهددة بذلك، ولعل عملية الاغتيال البشعة التي تعرضت لها المحامية والناشطة السياسية والحقوقية وأحد مؤسسي المجلس الوطني الانتقالي في ليبيا سلوى بوقعيقيص خير دليل على ذلك وهو ما جعلها رمزا للمرأة الليبية المناضلة من أجل بناء الوطن ومن أجل حقوق الإنسان وحقوق المرأة وجعلها نموذجا لمساندة المرأة الليبية لقضايا وطنها حتى الموت.

هذه الوضعية المتّسمة بالعنف والظلم التي تعيشها الليبيات دفعت جهات من المجتمع المدني متمثلة في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا ومن خلال قسم تمكين المرأة بالتعاون والتنسيق مع مؤسسة نساء التغيير وفريق دعم نفسي واجتماعي لإقامة حملة تحت شعار “الحرب عنفتني” انطلقت في شهر نوفمبر وحتى منتصف ديسمبر 2014 وهي تندرج في إطار حملة لمناهضة العنف ضد المرأة. ومن خلال الحملة تم اللقاء مع النساء النازحات بهدف إلقاء الضوء على الآثار النفسية والمادية للنزاع المسلح عليهن وأهمية وجود آليات ومؤسسات لحماية المرأة خلال الصراعات المسلحة. واستهدفت الحملة الشباب والشابات في عديد المجالات وحتى في الجامعات بهدف توفير الدعم النفسي لهم بالإضافة إلى بث البرامج في الإذاعة والتلفزيون لإلقاء الضوء على قضية النزاع المسلح وما يتركه من آثار على حياة النساء ونفسيّاتهن. وكما نظيراتها في الدول العربية التي تعاني من زحف الإرهاب والتطرف ومن النوايا الهادفة إلى “أسلمة” المجتمعات – رغم إسلامها – وإلى الحط من مكانة المرأة، تواجه المرأة الليبية مخاطر جمّة تحف بمستقبلها وبمكاسبها القليلة وتسعى لذلك كله للدفاع بقوة عن مكانتها في المجتمع وعن حقها في المشاركة في الحياة الاقتصادية والحياة السياسية.

ورغم كل ما مرت به من معاناة وعدم انصاف ومن عنف وجرائم في فترة ما بعد الثورة إلا أنها مازالت صامدة مواصلة درب الدفاع عن حقوقها وخاصة منها الحق في المساواة مع الرجل في مجتمع قبلي ذكوري. ويعمل المجتمع المدني الليبي والمنظمات النسوية على دعم مكانة المرأة في ليبيا عن طريق عدد من المبادرات بعض منها موجه نحو نشر الوعي المجتمعي بأهمية تشريك المرأة في صنع القرار وتمكينها من حقوقها والبعض الآخر موجه نحو الجهات الرسمية لدسترة هذه الحقوق وضمانها قانونيا. وخلال شهر ديسمبر الماضي انتظم لقاء بين ممثلات المنظمات النسوية الليبية والناشطات الحقوقيات وبين هيئة صياغة الدستور ممثلة في رئيسها علي الترهوني وأعضاء من لجان الهيئة وذلك لتقديم المطالب المتعلقة بحقوق المرأة والحقوق الدستورية العامة التي يأملن في إدراجها بمسودة الدستور. وقد تمت صياغة هذه المطالب خلال ورشة عمل عقدت في القاهرة من 1 إلى 4 نوفمبر 2014 والتي قام قسم تمكين المرأة في بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي وهيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة (هيئة الأمم المتحدة للمرأة) بتيسيرها وتنظيمها.

ويأتي مطلب تمكين المرأة من المناصب العليا في الدولة والمناصب الحكومية على رأس قائمة المطالب الحقوقية للمرأة في ليبيا، وفيما يخص مشاركة المرأة في الحياة السياسية خلال الفترة الانتقالية فإن المؤتمر الوطني العام ضم إبّان تشكيله 33 امرأة من أصل 200 عضو وهي نسبة محترمة قياسا بدول عربية أخرى. غير أن بعض الملاحظين نبهوا إلى أن هذا العدد من النساء في البرلمان الليبي هو نتيجة لنظام الانتخابات الذي اشترط التناوب بين الرجال والنساء في القائمات المترشحة وليس نتيجة طبيعية لحضور المرأة في المشهد السياسي، لأن انتخابات السابع من يوليو 2012 مكّنت امرأة واحدة من الصعود للمؤتمر الوطني العام كمرشحة فردية، وهي آمنة محمود محمد تخيخ عن مدينة بني وليد. وعندما نتأمل تمثيلية المرأة في حكومات ما بعد الثورة نجدها ضعيفة، فحكومة عبدالرحمن الكيب منحت المرأة حقيبتين واحدة للشؤون الاجتماعية (مبروكة الشريف جبريل) والثانية للصحة (فاطمة حمروش)، أمّا حكومة علي زيدان فقد أسندت وزارتين للمرأة: الشؤون الاجتماعية (كاملة المزيني) والسياحة (إكرام باش إمام)، وأكدت بعض الناشطات في مجال حقوق النساء على أن حضور المرأة في المؤتمر الوطني العام يعد خطوة إيجابية في أول تجربة انتخابية تعيشها البلاد.

لذلك لا تفوّت الناشطات والحقوقيات مناسبة محلية أو دولية دون تمرير الدعوة إلى منح دور أكبر للنساء في رسم المسار السياسي لليبيا، خاصة في العملية الدستورية، ودون أن تعربن عن مخاوفهن بأن الثورة التي ساهمت المرأة الليبية في تحقيقها قد تحد من مكاسبها على جميع الأصعدة. وعن مسيرة المرأة الليبية وما جنته من الثورة تقول سميرة المسعودي، رئيسة الاتحاد النسائي الليبي: “إن المرأة الليبية تم تغييبها خلال فترة حكم القذافي رغم وجود قوانين تضمن حقوقها، أما بعد الثورة فقد تضاعفت التحديات لضمان مكاسبها ومنها التحديات الاجتماعية المتمثلة في توعية الليبيين أنفسهم بأهمية تفعيل دور المرأة، كما أن هناك تحديات سياسية تتمثل في التخوف من التوجهات الإسلامية المتطرفة التي يمكن أن تضع فصولا في الدستور ترسخ التراجع عن مكاسب المرأة وحقوقها”. وأضافت: “المرأة نصف المجتمع وإذا كنا نريد أن نبني دولة مدنية عصرية كيف يمكن أن نعطل نصف المجتمع؟”. ولكن ورغم هذه المساعي المدنية المنظماتية من خلال تنظيم المظاهرات والحديث في وسائل الإعلام وتقديم العرائض إلى الحكومات الانتقالية والمجلس الانتقالي بالإضافة إلى إجراء الاتِّصالات مع المنظَّمات الدولية لممارسة الضغط على السياسيين الليبيين، ما تزال المرأة في ليبيا عرضة للتمييز وما يزال جزء هام من حقوقها ضائعا في ظل خوف متزايد على المكاسب مع صعود التيارات المتشددة والنزاعات المسلحة. هذا الواقع المرير الذي تمر به المرأة الليبية جعلها أكبر الخاسرين من الثورة وأكبر الخاسرين من النزاع المسلح وعرضها لفقدان الأمان والاستقرار الذي يشكل البنية التحتية لانطلاقتها نحو مستقبل أفضل في دولة لطالما حلمت بها، كما بقية المواطنين الليبيين، تقوم على سيادة القانون واحترام حقوق الإنسان وضمان الحريات العامة والخاصة وعدم التمييز بين مواطنيها حسب الجنس أو الانتماء أو غيرهما.

*نقلا عن العرب اللندنية