لم يعد التدخل التركي في ليبيا سرا على أحد، إذ يوما بعد يوم تتكشف ادلة إدانته بشكل واسع، متهمة أردوغان بتحويل ليبيا إلى حقل تجارب لأسلحته و للتقنيات العسكرية التركية الجديدة، من خلال الدعم المباشر الذي يقدّمه للميليشيات الإرهابية المسيطرة على العاصمة طرابلس، تدخّل يكشف النزعة الاستعمارية لأردوغان، الذي ما زال -يعتقد جازما- أن "ليبيا إرث أجداده، وجغرافيتها جزء من الإمبراطورية العثمانية".


** محاولات اردوغان لأخونة ليبيا

مع اندلاع احداث 17 فبراير 2011، دعّمت أنقرة سريعا مساحة نفوذها على الجانب الغربي من الأراضي الليبية، وفتحت مبكراً خطا ساخنا مع تنظيم الإخوان و قياداته، وعناصر الجماعة الليبية المقاتلة، فآوت أمراء الحرب الفارين من المعارك، وعالجتهم في مشافيها و مستشفياتها، وجعلت من أراضيها نقطة انطلاق لفضائيات التكفير والتحريض.

و مع سقوط نظام العقيد الراحل معمر القذافي و على امتداد سنوات، ذهبت تركيا بعيدا في دعم الجماعات المتطرفة في ليبيا سرّا، لكن تدخلاتها في الأشهر الأخيرة باتت علنية وأكثر فظاظة فمن تسليح تلك الميليشيات إلى المشاركة ميدانيا بقوات خاصة في مواجهة قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، الذي صار قاب قوسين أو أدنى من حسم معركة طرابلس.

انتقل أردوغان من التسليح السرّي للميليشيات المتطرفة الجاثمة على العاصمة طرابلس طيلة ثماني سنوات، إلى التسليح العلني على أمل تغيير موازين القوى لصالح حكومة الوفاق، فأنقرة التي تسعى لتعزيز قدرات جماعة الإخوان المسلمين وأذرعها العسكرية في ليبيا، تدفع بثقلها لإعادة التموقع في ظل نكسات وهزائم متواترة للمشروع الإخواني في عدد من الدول.

بالتوزاي مع ذلك تدرك جماعة الإخوان التي يقيم عدد من قادتها في تركيا وقطر، اليوم أكثر من آي وقت مضى أن الجيش الوطني الليبي الذي يخوض منذ أبريل/نيسان 2019، معركة مصيرية لتطهير العاصمة طرابلس من الميليشيات المتطرفة، أصبح خطرا على مشروعها في المنطقة.

تركيا بقيادة أردوغان الذي أغاضه تحرك الجيش الوطني الليبي واستشعر خطرا على المشروع الاخواني، دخلت على خط الأزمة مع نهاية أبريل/نيسان معلنة دعمها لقوات وميليشيات حكومة الوفاق بما في ذلك إرسال تعزيزات عسكرية شملت في البداية شحنات ذخيرة وأسلحة خفيفة وصولا إلى إرسال طائرات مسيرة. 


** تركيا و ليبيا.. تاريخ من الاستعمار المهين

كرّست الدبلوماسية التركية في ليبيا خلال السنوات الماضية، حالة من الانحياز البيّن لتنظيم الإخوان المسلمين و دعما مباشرا للميليشيات المسلحة، فتركيا التي يربطها بليبيا تاريخ استعماري مظلم استمر لأكثر من 400 عام لم تبنِ فيه أي عمران سكني ولا حكومي، وما أنشأت نظاماً تعليمياً ولا صحياً يمكن الاستشهاد به اليوم على حجم التنمية التركية أو العثمانية، التي من المفترض أن ولاة السلطان العثماني قد قاموا بها في ليبيا، رغم جمعهم للضرائب والخموس من السكان المحليين وإذلالهم.

ليبيا التي غيبتها تركيا عن الحضارة وسلمتها لمستعمر فاشي إيطالي بعد انسحابها من ليبيا، وترك الليبيين يواجهون مصيرهم مع مستعمر استيطاني جديد، فالخذلان التركي لليبيا، ليس فقط في هذه المرة الأولى، فقد سبق لتركيا العثمانية أن سلمت ليبيا المسلمة إلى الطليان الكاثوليك، وفق معاهدة أوشي التي تم توقيعها إثر الحرب العثمانية الإيطالية (1911 - 1912). عقدت في قلعة أوشي في ضواحي لوزان السويسرية في 3 أكتوبر (تشرين الأول) 1912، والتي بموجبها انسحبت الدولة العثمانية من ليبيا، تاركة الليبيين، عزلاً بلا سلاح، لمصيرهم أمام الغزو الإيطالي الاستيطاني.

اليوم تذهب الكثير من التحليلات السياسية العربية إلى توصيف السياسات التركية الخارجية تجاه العالم العربي خاصة منها تجاه ليبيا المنقسمة بطبعها، بأنها تستبطن موروثات الحقبة العثمانية، وتحن إليها كثيرا، وتسعى بصمت لبعثها من جديد، فرغم مرور أكثر من قرن من الزمان على تحرر الدول العربية من الاحتلال العثمانى، إلا أن أردوغان مازال يرى فى المنطقة وثرواتها إرثًا لأوهام السلطنة والخلافة الجديدة، ساعيًا لإعادة احتلال ليبيا التى أصبحت كعكعة نفطية يسيل لها اللعاب، مستعينًا فى تنفيذ مهمته بليبيين من أصول تركية.

فعندما دخلت الدولة العثمانية ليبيا عام 1551 بدأ الأتراك بالهجرة إلى المنطقة، ونتيجة لذلك تزوج العديد من الجنود الأتراك بنساء ليبيات محليات وكانت أطفالهم معروفة باسم «كول أوغلى» ـ ويشار إليه أيضاً باسم «الكراغلة».

 وبحلول عام 1936 بلغ عدد الأتراك فى ليبيا نحو 35 ألف، ومنهم 30 ألف عاشوا على طول الساحل الطرابلسى، واليوم لا يزال هناك ليبيين يهتمون بانتمائهم التركى، أو بالافتخار أن ذريتهم عائدة للجنود الأتراك الذين استقروا فى المنطقة خلال الحكم العثمانى.

ومن بين هؤلاء الليبيين الأتراك وجد الرئيس التركى ضالته، ليكون طابورًا خامس داخل ليبيا، بل وخلق تحالفًا بينهم وبين المتطرفين من المنتمين لجماعة الإخوان وبقية التنظيمات المتطرفة، فى محاولات مستميتة للسيطرة على النفط الليبى ووضع قدم تركى فوق ليبيا بعد انتشار الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية.

المشكلة أن أفرادًا بارزين من عائلات الليبيين الأتراك ظهروا على الساحة لا يتوارون ولا يخجلون من إعلان ولائهم التام لتركيا والعثمانيين الجدد على حساب ليبيا، وعلى طريقة الوالى السلطان بدأ أردوغان فى منح المناصب والأموال لأحفاد الغزاة ممن قرروا بيع ولائهم له، لا سيما وأنه يسيطر على مجريات الأمور لدى حكومة الوفاق الإخوانية، التى يرأسها فائز السراج فى طرابلس.


** أردوغان و بيادق تنظيم الإخوان

يبدو أن الرئيس التركي إردوغان لم يجد وسيلة لتحقيق حلمه إلا عن طريق تنظيم الإخوان الإرهابي، الذي تحكّم في مفاصل المنطقة الغربية، بعد 17 فبراير، واستعان بتركيا منذ الأيام الأولى عن طريق التواصل عبر بعض سكان مدينة مصراتة، وهو يسعى إلى السيطرة على كل الموارد الطبيعية وتحويل ليبيا إلى دولة تابعة لبلاده.

فالنظام التركي سيطر منذ العام 2011، على الاقتصاد والموارد المالية الليبية، من خلال إغراق الأسواق الليبية بالسلع التركية والاستفادة من الحكومات المتعاقبة بالفوز بالمشروعات الحكومية في قطاع الإنشاءات والمقاولات والنقل اللوجستي والصحة وتوريد المواد الإلكترونية والسلع الاستهلاكية.

كما فتح المجال أمام أمراء الحرب والميليشيات وبعض السياسيين لتهريب الأموال نحو تركيا واستثمارها في مجال الإعلام والتجارة والطيران والسياحة أو وضع كودائع استثمارية، كما حرص إردوغان على استضافة سياسيين ونواب ينتمي أغلبهم إلى المنطقة الغربية (طرابلس ومحيطها)، في قصر الرئاسة بتركيا، على رأسهم السويحلي، وخلفه في رئاسة المجلس الأعلى للدولة خالد المشري، أحد مؤسسي حزب «العدالة والبناء» الذي هو الذراع السياسية لتنظيم الإخوان المسلمين في ليبيا. 

كذلك تستضيف أنقرة قيادات ينتمون لما يسمّى «مجلس شورى بنغازي» المصنّف «تنظيماً إرهابياً»، ومنهم أحمد المجبري، وطارق بلعم، فضلا عن قيادات يتهمها القضاء افلليبي بالتورّط في جرائم عنف و إرهاب و الإضرار بالأمن القومي، مثل عبد الحكيم بلحاج الإضافة إلى علي الصلابي، الذي تربطه علاقة قوية بـ«الجماعة الليبية المقاتلة» والمُدرج اسمه في «قوائم الإرهاب». 

المدعو علي الصلابي عضو جماعة الاخوان المسلمين المدرج على قوائم الاٍرهاب والمطلوب لدى القيادة العامة للجيش الليبي، مثلا يشيد بالموقف التركي من مختلف القضايا التي تهم العرب والمسلمين، معتبرا أن الخطاب التركي يتميز أنه خطاب إنساني ينحاز للقضايا الإنسانية العادلة، على قوله.

و يقول الصلابي أن الموقف التركي منحاز للهوية وتاريخها وحضارتها، مشيرا إلى أن تركيا تقف مع الشعوب في مطالبها العادلة، ومع الديمقراطية والحرية والتعدد السلمي ومع السلام والمصالحة ومع الرأي والرأي الآخر.

وأضاف أن الخطاب التركي هو خطاب إنساني ينحاز للقضايا الإنسانية العادلة، وينحاز للقضايا الإنسانية الكبرى، كما يحاول دفع الظلم وإقامة العدل، والدعوة لكلمة طيبة وحقن الدماء بين الناس، وهذا انحياز للقيم الإنسانية الرفيعة، دون أن يعلق على التدخل التركي في الشأن الليبي وارسال الطائرات المسيرة والمدرعات للميليشيات المسلحة.

اليوم تشهد العاصمة الليبية طرابلس حالة غليان ضدّ نفوذ الميليشيات التي تسيطر على حكومة الوفاق وعلى الأموال المرصودة للحرب، في وقت يعيش فيه سكان العاصمة ومحيطها وضعا اقتصاديا صعبا خاصة مع العجز عن الإيفاء بالرواتب وتوفير المواد الأساسية في الأسواق.

هذا و يذهب البعض للقول إلى ان ما جرى من احتجاجات واشتباكات أمام المجلس الرئاسي الليبي بأنه بوادر انتفاضة قوية ضد حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج والميليشيات الحليفة التي يقودها الإسلاميون، فقد بدأ المقاتلون الذين لا ينتمون إلى الميليشيات الإسلامية يتحسبون لما بعد سقوط طرابلس بيد قوات الجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وأنهم يفكرون بالقفز من المركب في أقرب وقت.