آثار ليبيا كثيرة، شأن الكثير منها شأن الأحياء القديمة والأسواق والمباني والمعالم الأثرية في مدن ومواقع تعرضت وتتعرض للتدمير، جزئيًّا أو كليًّا، أو للتشويه أو للسرقة...؟! فقد أصبحت أخبار الاعتداء على الأماكن الأثرية والأوابد الحضارية التي تزخر بها ليبيا أمراً عادياً وطبيعياً، إذ لا يمر أسبوع إلا ونسمع فيه عن اعتداء متعمّد على أثر من الآثار الباقية التي بناها الأقدمون وحافظ عليها الأجداد بوعي وإدراك لأهميتها لم يعودا موجودَين هذه الأيام... والملاحَظ أن معظم هذه الاعتداءات ليس لأهداف تجارية كالرغبة في  بيعها مثلاً والاستفادة من ثمنها كما قد يُعتَقَد للوهلة الأولى بل لأسباب هدفها الأوحد محو الذاكرة الحضارية المتعددة للشعب الليبي، واستبدالها بذاكرة واحدة ذات لون واحد ونكهة واحدة وشطب ما عداها من الوجدان. 


 
ليطرح السؤال الهام نفسه وبقوة: ما هو دافع ومقدار الحقد الذي تمتلئ به قلوب (ثوار ثورة 17 فبراير) تجاه آثار بلادهم حتى يعاملوها بهذا الشكل، وليس بعيداً عن الأذهان ما قيل أن قلوب (ثوار ثورة 17 فبراير) قد فعلوه بالآثار الإغريقية والرومانية والبيزنطية والإسلامية، وبالمقابل هل تضيع كنوز ليبيا ومدخراتها الثقافية، ومن يحافظ على ما تحويه مدينة شحات التاريخية الإغريقية والتي تحوي أيضا معبد زيوس ومعبد أبولو وغيره من المعابد... إضافة إلى قلعة الأتراك ..


نعترف أننا لا نملك إجابة واضحة عن هذا التساؤل، وربما أن من يقومون به لا يمتلكون تلك الإجابة بدورهم سوى ما يمور في صدورهم من إحساس بأن هذه الأرض الطاهرة لن تقبل دنسهم مهما حاولوا وفعلوا، فما يكون منهم إلا الانتقام من ذاكرتها الحضارية بهذا الشكل الذي لا يعبّر إلا عن دناءة من يقوم به .ويرفض السؤال أن يغادر الأذهان: من هذه القوة الخفية المرئية التي تتبع أسلوباً واحداً ممنهجاً ألا وهو تدمير الأوابد التاريخية العربية الليبية والمعامل والمتاحف والجامعات والمكتبات والمدارس ومراكز البحوث والجسور والمعابد والمساجد والمباني الحكومية الخدمية وغيرها، من معالم الحضارة الأصيلة في ليبيا؟ من هذه القوى التي تستهدف تدمير المدن الأثرية الموزعة على حقب مختلفة في ليبيا....!


مع كل عملية هدم وتفجير لمنطقة أثرية أو لهيكل هنا، أو مسجد أثرى هناك كان المتابعون يطرحون السؤال مستفسرين عن علاقة الهدم الممنهج ذاك بالثورة المزعومة أو الأعمال الإرهابية المسماة قتالاً للسلطة هنا أو هناك. سؤال يطرح فيعجز الخبراء عن إيجاد جواب موضوعي منطقي له حتى أن بعض الذرائع التي كان يسوقها الإرهابيون التكفيريون، كانت سطحية واهية يرد عليها بردّ قاطع يسقطها ردّ يقال فيه: ''إن لم يكن الإسلام يجيز وجود هذه الآثار... فكيف بقيت في مكانها طوال القرون الماضية، رغم أن من حكم خلالها حكم باسم الإسلام وأنه يعتمد الشريعة الإسلامية ورغم كل ذلك فإنه لم يقترب من الآثار بل حافظ عليها وأضاف إليها من جواهر العمارة والبناء ما جعل هذه المدن تحفاً أثرية ومعمارية؟"
 
 

فالمسألة إذاً لا علاقة لها بالدين الإسلامي قطعاً وليست أبداً تطبيقاً للشريعة الإسلامية، كما أنها لا تتصل لا من قريب ولا من بعيد بالعمليات العسكرية والمواجهة التي شكلت الجماعات المسلحة الطرف المعتدي الإجرامي فيها، ومع هذا النفي والاستبعاد يطرح السؤال مجدداً: لماذا إذاً تقوم هذا الجماعات الإرهابية بالإبادة التاريخية وتدمير آثار الحضارات في ليبيا؟

بالتأكيد إنها ليست مصادفة، بل خطّة محكمة، والغايات الأساسية لهذا التدمير الممنهج تكمن في الآتي:

ـ تدمير التاريخ الإنساني لليبيا.

ـ إلغاء هوية ليبيا والمنطقة.

ـ خلق هويات جديدة تخضع لما هو موجود.

ـ سرقة الكنوز والآثار ونقلها إلى أماكن أخرى اختارها الأقوياء.

ـ تدمير البنية التحتية لبلد الشهيد عمر المختار، لإلغاء نهوض ليبيا، أو تأخير هذا النهوض على أقل تقدير.
 
ـ تمويل تدمير ليبيا من ثرواتها وكنوزها.

وقد اختارت دوائر القرار بتدمير ليبيا عناصر التدمير بعناية فائقة:

ـ جماعات مؤدلجة من أبناء البلدان التي لم تعد قادرة على رؤية شيء سوى ما تمليه عليهم أيديولوجيتها.

ـ جماعات خارجية مأجورة لا يعنيها ليبيا، ولا تعنيها آثاره ولا تاريخه...

ـ عناصر داخلية وخارجية حاقدة مستعدة للتدمير والقتل والنهب.

 ـ شركات متخصصة في التدمير والنقل وما شابه.


 
ما من شكٍّ أنّ من ليس له حضارة ولا تاريخ، لا يمكن له أن يحافظ على الحضارة ولا يمكن له أن يقرأ التاريخ قراءةً صحيحةً ولا يمكن له أن يكون من صُنّاع التاريخ. إن التشبث بالتهشيم والعبث بالآثار الليبية (وهي كنوز ثقافية) لحضارات عظيمة بائدة كانت قد قامت وازدهرت حتى فاقت كثيرا حضارتنا الحالية، لا يعني قط بأن من يفعل ذلك يستجيب لإرادة الإسلام الحق بتحطيم الآثار، كما يدعي الجهلة والسفهاء. وبذلك ترتكب الميليشيات والعصابات المأجورة، زيفا وتعسفا، خطا قاتلا لا بد أن يقضي على جميع ما حملوه للآخرين من شعارات وأفكار. 


لقد حفظ  العرب عن ظهر قلب مقولات تنسب إلى بن غوريون، وأبا إيبان وموشي ديان خلاصتها أن العرب لا يقرؤون، وإذا قرؤوا لا يستوعبون، وإذا استوعبوا لا يفعلون، لكن هذه الرهانات سقطت لأن العرب ليسوا أمة محنطة في مرحلة، فالأميون تعلموا، ومن استغرقهم السبات عقوداً استيقظوا وبدؤوا بإحصاء خسائرهم ومديونياتهم العلمية والسياسية والثقافية، رغم وجود بعض الأنظمة العربية التي تحاول إبقاء العرب خارج الزمن. ورغم ذلك، فإنه لابد من الإقرار بأن منسوب هذه اليقظة لا يزال شحيحاً ولا يتناسب مع الأخطار التي تحاصر العرب تاريخياً وجغرافياً، والتي لا تبتعد عن محور تلك الحرب الثقافية التي نسميها حرب الحروب... 


قادة هذه الحرب من العرب هم مفكرون وعلماء نفس واجتماع ومؤرخون، وأسلحتهم رؤى وخنادقهم مختبرات، والذين تراهن الولايات المتحدة الأمريكية والصهيونية على تحويلهم إلى عاطلين عن أدوارهم، لكن تاريخ الأمة، ماضياً وحاضراً، يؤكد سقوط هذا الرهان.


 
إن ليبيا الشعب والجيش الوطني، مهما كانت عصية على الكسر وحصينة ذات قلاع من همم وعمران، فإنها تحتاج إلى أن تحقن دم بنيها ويرتفع عنها سيف الإرهاب، وأن تنعم بالأمن والاستقرار بعد كل الذي أصابها... إنها تنزف وتخسر يوميًّا وهذا أكثر من حدود الاحتمال... ومن حقنا أن نتطلع إلى وقف نزيف الدم، ووضع حد للعنف والإرهاب، وعودة إلى حضن البيت والوطن بأمن من جوع وخوف...

ومن حقنا على كل ذي مسؤولية وعقل وضمير في العالم أن ندعوه إلى العمل من أجل الحق والعدل والسلم، وإلى أن يقف ضد العدوان الموسع الذي تقوده تركيا، وضد التحريض والإعداد والاستعداد لمعارك ضد الشعب الليبي والدولة الوطنية الليبية، وهي معارك أينما وقعت وكيفما كانت نتائجها، ستؤدي إلى مزيد من النزف والضعف والقتل والدمار والخراب وفقدان الأمن... 

إننا نحتاج إلى كل جهد، وكل فعل، وكل كلمة، وكل موقف... يساعد على حقن الدم ووقف العنف وتوقف الإرهاب والرعب والدمار والخراب والاحتراب... ومن حق الإنسان علينا ومن واجب الإنسان فينا أن نفعل ذلك وندعو إليه... فهل ترانا نفعل ونفلح من موقع الإخلاص والمسؤولية... أم أن الأمل في العقل والضمير والفعل الإنساني البناء قد غدا في جملة المستحيلات... ! 


خلاصة الكلام: آثار ليبيا، ليست من واقع الجغرافية والمعمار والتاريخ فحسب، بل من حيث العزم البشري والهمة والرؤية والتطلع الذي يعطي للمكان والعمران والتاريخ معانيه عبر عصور وأمكنة... 

وللأسف فالاستهداف الممنهَج للآثار والأوابد الحضارية الليبية لم يتخذ تجاهه المثقفون العرب أي موقف قوي وشاجب ومستنكر، وكل ما نتمناه ألا يكون هذا الصمت بمثابة موافقة ضمنية من قِبلهم على هذه التصرفات الهمجية باعتبار أن تدمير الذات بمختلف الأشكال بالنسبة للبعض أضحى الأسلوب المفضّل اليوم لبناء الإنسان الجديد في ليبيا بخاصة والمنطقة بعامة.


باحث وكاتب صحفي من المغرب.