الدكتورة ربيعة جلطي  شاعرة من أهم الوجوه الشعرية في الجزائر وأكاديمية تخصصت في الأدب المغربي الحديث و مترجمة، أبدعت في فن الرواية ة ايضا و هي الوحيدة تقريبا من بين شعراء جيل السبعينات التي بقيت تكتب وتنشر مجموعاتها الشعرية تباعا. أصدرت العديد من الدواوين كان أولها ـ تضاريس لوجه غير باريسي. ترجم شعرها إلي الفرنسية الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي ـ كما ترجم لها الروائي الجزائري الكبير رشيد بوجدرة. 

* ربما أنت الشاعرة الجزائرية الوحيدة من بين جيل السبعينات التي لم تنقطع عن الإبداع الشعري و نشر المجموعات الشعرية. ما سر هذا التمسك الروحي بالشعر رغم نجاح أعمالك الروائية ؟

- الشعر ليس هواء الكتابة فقط بل بالنسبة لي هو أكسجين الحياة ، لا يمكنني أن أعيش بدون الشعر، حياة و قراءة و كتابة. لي مع الشعر سفر بدأ منذ الطفولة، فهو يسكنني كما تفعل الاكتشافات الأولى التي أدهشتني، و مازلت أحملها ،  ذاكرتي دونه ودون  تلك الأشياء ،عمياء.

و لكن النثر الجميل  أيضا ، ذاك الذي تتوفر فيه الشعرية السردية يفتنني. صغيرة ورثت غواية القراءة من والدي  الذي كان يعتز كثيرا بمكتبته في البيت وبنهم يشتري الكتب  حتى أن ذلك طالما أغضب زوجته . بدأت بقراءة قصص  لم تكن تخلو من شعرية الحكاية و شعرية الصور، ومبكرة اكتشفت ألف ليلة وليلة وغيرها من أمهات الكتب التي كانت تزخر بها مكتبة والدي. إلى جانب هذا فكم  وقفت مشدوهة أمام حكواتي الأحياء الشعبية في ندرومة المدينة الأندلسية أثناء زياراتنا لبيت جدتي أثناء العطل الصيفية والربيعية ، و في مدن أخرى سكناها و غادرناها و أخرى استقبلتنا في ترحالي مع والدي الذي كان يشتغل أستاذا و مترجما محلفا أمام القضاة ..عذبني  وشذبني  الحل و الترحال كثيرا إلى درجة أنني أحيانا لا أعرف الحد بين الهشاشة فيّ وبين القوة . ثم إن استماعي  للحكواتيين {نسميهم نحن في الجزائر بالقوالين} أي أهل القول الجميل علمني أن الحكاية التي يشتد نبض القلب تسارعا لها  يلتقي فيها الشعر و النثر و الموسيقى و الفرجة .. وكبر شغفي بالحكاية فبحثت عن الحكواتي الشامي  وأنا طالبة دراسات عليا في دمشق فوجدت مجلسه عامرا بالعرب والأجانب في زقاق شعبي قرب جامع الأمويين فرايتني آخذ مكاني بين الجالسين  أمام عرشه العالي وبين يدي فنجان قهوة كنت أصغي إلى تدرجاته الصوتية  بحيرة ولكنني أيضا كنت أشاهد حركاته وسكناته كنت في حالة شعرية متفردة لم تختلف كثيرا عن الحالة الشعرية التي انتابتني وأنا أحضر ليلة احتفال بــ"سانتا لوسيا"  وكيف يستأنس بالحكاية  سكان الشمال ذي الليل الممتد شهورا طويلة ، إنه تقليد  أن يقاوموا الظلام  جماعيا بالحكاية.. يتناوب على منصتها الكبار والصغار المتمرسون والهاوون والموسيقيون والكتاب والأدباء  والسحرة والبهلوانيون ..الحكاية سلاح ضد الضجرضد روتين الظلمة الممتدة إلى مالانهاية .. سانتا لوسيا كانت حالة شعرية أكدت لي أن عملية القص  مقاومة للظلمة في معناها الحقيقي والرمزي ..ولأنني اكتشفت صغيرة أن لا حدود بين الشعر و النثر والفنون الأخرى فقد  أدركت في ما بعد  أن الأمر مرتبط بشطارة المبدع و مدى قدرته على الإدهاش، بالحكاية السردية النثرية كما بالشعر و الإيقاع. فتنت بالجميل  قبل وعاء  الجميل. وبوعي  لا أزال أكتب الشعر و أكتب الرواية و القصة القصيرة دون شعور بخيانة جنس معين.

لعلنا الحضارة الأدبية الوحيدة  التي تحاول أن تقيم بين الأجناس أسلاكا مكهربة ، كتلك الحدود الجمركية الموجودة بين بلداننا. ألم يكن شكسبير شاعرا و مسرحيا، ألم يكن هيغو شاعرا و روائيا، ألم يكن أراغون شاعرا و روائيا .. الكتابة أسبق من جنس الكتابة، هي حالة جوانية تتبدى على هيئة الشعر أو الرواية فتفرض حالها على اللغة و علينا.

لعل الشعر نوع من الصلاة الخاصة  أمارسها و أحرص عليها يوميا كتابة و قراءة، أما الرواية فتأمل  للعالم ،فيه تتبدى لي اللغة السردية مثيرة و قادرة وهادرة مثل النهر الحامل الذي يجرف أمامه كل شيء في طريقه، يعجبني عنف السرد الروائي.

 أشعر و أنا أكتب الشعرمن جهة  و الرواية من جهة ثانية  كالكناري الذي يطير باتزان موسيقي مدهش.

* في روايتك «الذروة" يشعر القارئ بما يشبه التنبؤ بما سمي 'الربيع العربي' هل هو حدس الشاعرة أم عقلانية الروائية؟

للتذكير فقد نشرت جريدة النهار اللبنانية فصلا مطولا من رواية  الذروة تسعة شهور قبل صدورها عن دار الآداب اللبنانية في 2010 ،و منذ بداية الرواية تتبدى  شخصية "أندلس" كما ذهب إلى ذلك بعض النقاد تجسيدا للحرية في جمالها وفي صعوبة منالها،تقاوم الفساد و تعريه بطريقة شفافة  وتوحي بما تحتاجه الإنسانية للتعايش والتسامح، لعل في "الذروة" أول تناول روائي لليهود الذين نزحوا مع النازحين من الأندلس  إلى المغرب العربي ليأتي زمن يطردون فيه من جديد يخيرون فيه بين الذهاب إلى فلسطين أو العودة إلى اسبانيا . الفتاة أندلس التي تحمل اسم جدتها "الحاجة أندلس "بما تحمله من سطوة الرمز والتاريخ تجسد العفوية والصفاء والوفاء والجمال والثورة على الظلم . ألم تظل لوحة أندلس معلقة عند رأس سريرالحاكم  صاحب الغلالة والذي يأتي بعده، بمعنى أنها الحلم والمبتغى في رمزيتها وأنها أندلس غير قابلة للمسخ أو للشراء والبيع . وكم أسعدني أن الكثير من قراء الذروة سموا بناتهم  "أندلس " هذا الإسم الذي لم يكن من قبل .

 أومن أن  الكتابة تكاد تشبه قراءة الكف أو قراءة خط الرمل، لها سرها، و هو سر يكمن في المعرفة أولا. قد لا أومن بالتنبؤ ولكنني  أومن بالشاعرأ و الروائي الذي له معرفة، المؤسس على رؤية تاريخية، في المفهوم و في اللغة أيضا.. الشاعر والروائي الذي له عين نافذة على ما يجري حوله في السياسة والاقتصاد والاجتماع والاختراع والفن والمعارف ذاك يجعله يفهم ميكانزمات المجتمع الذي يكتب عنه وبالتالي يقوي حدسه ..وحدها بعض الحيونات ذات الحس الخارق وكذا الشعراء من  يحدس الزلزال قبل وقوعه. و في رواية {الذروة}لعلني  بحاسة الشاعرة ونتيجة إصراري على معرفة المجتمعات العربية حين أزورها معرفة شاقولية وليست معرفة سياحية وسطحية، قد حدست هذا الزلزال الذي كان على أهبة أن يجرف العالم العربي.

قد تكون "الذروة" هي تزويج ما بين حدس شاعرة و تأمل عقلاني لروائية تقرأ التاريخ على نار هادئة. أتعبتني كثيرا كتابة رواية الذروة فقد كتبتها بحرقة شاعرة و بعيون روائية كانت تتابع انهيار الأخلاق في كل شيء في السياسة و في المال و في التاريخ، كل شيء تم تشويهه لأجل تكريس عبادة الشخص و الزعيم التي تعود إلى بداية القرن الماضي.

* "نادي الصنوبر" أليست في النهاية استنطاقا فنيا وواقعيا لجزائر اليوم.. جزائر الخيبة؟

أنا  لا أكتب من برج عاجي أو من قبة مباركة على قمة جبل عال، أنا أمارس الكتابة انطلاقا من علاقاتي اليومية بالناس العامة و بالنخب أيضا، نادي الصنوبر رواية مركزها فكرة الخوف على الجزائر و من ورائها الخوف على العالم العربي مما قد يحصل له جراء الظلم القائم و الفقر المنتشر و الحرية الغائبة، و تلك علامات من علامات الساعة؟؟؟ ساعة الشعوب حينما تأكل لحم مغتصبيها؟؟

نادي الصنوبر هي رواية الجنوب و قد كتبتها قبل أحداث مالي و الطوارق و و بلدان الساحل  و فيه جئت على بعض ما قد يفسر ما يجري الآن في هذه المنطقة من حروب و تطرف و حلم ببناء الإمارة الإسلامية...عبر أحد القراء على صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي قائلا :( كتبت ربيعة الذروة فاندلعت الثورات الغاضبة وكتبت  نادي الصنوبر فانتفض الجنوب ).  لا شك أن هذا الحال هو نتيجة منطقية للفقر الذي يعاني منه ساكنة هذه الأقاليم الجنوبية، ساكنة تعيش منذ قرون فوق ثروات لا مثيل لها و بالمقابل تعيش فقرا لا مثيل له، هذا التناقض المولد لرغبة التغيير لدى أهالي الجنوب  حاولت رصده في {نادي الصنوبر}، و في الرواية تنبيه إلى أن البلدان معرضة للتفكك في غياب العدالة الاجتماعية و الاعتراف بالثقافة و اللغات المحلية من الواجب  احترامها و ترقيتها... كل هذا ينتج الغضب الذي للأسف قد توظفه قوى ظلامية متطرفة لتحقيق مرآربها السياسية و الأيديولوجية القروسطية.

* يقول صنع الله ابراهيم بأنه يكره الغنائية و ان الرواية هي فن التفاصيل: كأكاديمية متابعة للرواية الجزائرية هل تخلص الروائيون الشباب ، في رأيك، من الغنائية وولجوا عالم التفاصيل.. و هل من أمثلة؟

صحيح أن الشعر و ثقافة الشعر في الثقافة العربية القديمة و المعاصرة لا يزال هو الصوت الأشد وضوحا و الأكثر تأثيرا، و هي حالة غير صحية في مشروع بناء الحداثة بمفهومها الحضاري الشامل. و ما ألاحظه شخصيا على تجارب بعض الكتابات الجديدة و بعيدا عن كل أبوية نقدية، بل انطلاقا من قراءة أفقية بدئية، هو أن كتابة الرواية أضحت تغري عديدا من التجارب الجديدة التي تصل عالم النشر في العالم العربي، و هي ظاهرة صحية لأنها دون شك ستفرز من خلال هذا الكم الكثير نسبيا بعض الأقلام الأصيلة في العشرية الأدبية القادمة، و أعتقد أن الذهاب نحوالرواية  حالة طبيعية لأن في الرواية إمكانية كتابة التفاصيل كما يقول صنع الله إبراهيم، صحيح أن هناك نوعا من التسرع في كثير من الأعمال الروائية المنشورة إلا أن نشرها حالة صحية في الثقافة الأدبية عندنا ، فلنحص مثلا  ما ينشر في فرنسا من الروايات خلال السنة إنه عدد ضخم ولا يعني أن كل ما ينشرونه في مستوى جمالي وقيمي واحد  . تتعدد التجارب الروائية في الجزائر و إنني أتابعها بكثير من المحبة لها ، فروائيون من أمثال بشير مفتي و الخير شوار و حميد عبد القادر و سمير قسيمي واسماعيل يبرير وعبد الرزاق بوكبة  و زيواني حاج صديق و سعيد خطيبي و دهية لويز وفارس كبيش و غيرهم ..هي أسماء جديدة  صوتها وصل العالم العربي بسرعة مما يدل بأن هناك اجتهادا في الكتابة و إصرارا   على الإضافة. 

كيف تفسرين غياب بل انعدام فن 'السيرة الذاتية' في الجزائر؟

- للأسف الذات مغيبة في الكتابة العربية بشكل عام، تنتمي إلى كتابة خارجية أساسا، بمعنى أنها تغتال الأنا لصالح الجماعة، و لعل غياب كتاب السيرة الذاتية يظهر ما للرقابة الأخلاقية  من سطوة حتى و إن كانت هذه الرقابة لا أخلاق فيها بل مجرد ادعاء وقد سبق أن تناولت هذا الموضوع في محاضرة ألقيتها في أحد الملتقيات الأدبية أثارت نقاشا عميقا.

يبدو لي أن الإنسان العربي و منه الكاتب لا يريد رؤية وجهه في المرآة، لذا يتوارى باسم الأخلاق و باسم الأسرة و باسم الفضيحة و باسم القبيلة و باسم الدين و باسم الأب المهيمن بشكل قوي... يهرب من الكتابة عن نفسه.

نحن لا نملك ثقافة الاعتراف التي  تنتمي إلى أنساق الثقافة المسيحية، و لعله منذ أن تراجع الصوت المسيحي في الثقافة العربية تراجع الصوت الذاتي و الصوت عن الذات في الأدب العربي، مع الربع الأول من القرن الماضي.  بوجود مكثف لأصوات أدبية مسيحية عربية استطاعت اللغة أن تحاور الذات من خلال الشعر و من خلال النص النثري، إن عودة إلى كتابات جبران و ميخائيل نعيمة و مي زيادة و سعيد عقل و إليا أبوماضي و إميل حبيبي و غيرهم  تجعلنا نكتشف هذه الثقافة التي كانت الذات فيها  تشكل مركزا، أما الآن و بطغيان صوت طه حسين و العقاد و الرافعي و أحمد أمين { على أهمية كتاباتهم} إلا أنهم أخرجوا الكتابة من الذات إلى الأخلاق، و منذئذ لم يتخلص الأدب العربي النثري من الأخلاقي ،وإن السيرة الذاتية  في نهاية الأمر مرآة الكاتب، يستعرض فيها نفسه مجردا من الكذب ومغلفا  بالطهرانية.

 
 *جديدك هو رواية "عرش معشق" التي صدرت هذه الأيام وتحضرين ايضا  لعمل شعري. هل تحاولين إيجاد توازن ما بين الرواية كفن ديمقراطي بمعنى متعدد الاصوات و الشعر الذي هو أصلا أحادي الصوت؟

- الكتابة بمفهومي ليس لها منطق الحسابات الخارجية،بل تناغم جواني مع الذات.صحيح فقد  صدرت لي هذه الأيام رواية جديدة بعنوان (عرش معشق )عن منشورات ضفاف ببيروت و منشورات الإختلاف بالجزائر، نص روائي عن  حوارات الحضارات و في البحث عن العيش المشترك في عالم كثرت فيه ثقافة الكراهيات بكل أنواعها الدينية و الجغرافية و اللغوية . رواية (عرش معشق)  نص عن فلسفة الجمال و البحث عن مفهوم الجميل الذي كثيرا ما يغيب في ظل الكراهيات و ثقافة التهميش و العداوات المكرسة على هذه الكرة الأرضية، هي رواية عن محنة الواحد حين يحاصره مجتمع قامع و همجي فيمارس عليه أحكامه الجمالية و الأخلاقية ليدفع به إلى الانتحار الرمزي.

أما الكتاب الشعري المعنون بــ ( في وضح الليل ) كتاب تضم دفتاه نصوصا شعرية كتبتها على مدى السنتين الماضيتين، إنها  نصوص في التأمل الفلسفي لتفاصيل الحياة اليومية و أعتقد أنها تجربة جديدة أتمنى أن يجد القارئ العربي فيها متعة، نصوص ملونة بما يجري في العالم العربي من انهيارات و عودة ثقافة القرون الوسطى حيث الضحية الأولى هي المرأة و الأوطان.. نصوص تستمد ضوءها من شموس عدة : الفلسفة والتاريخ والتصوف وحياة الناس البسيطة  التي تقاوم فوق هذه البسيطة التي لم تعد بسيطة أبدا .

*أجرى الحوار حميد زناز