تأزمت الأوضاع في العاصمة الليبية طرابلس، بعدما شهدت اشتباكات عنيفة بين مجموعات مسلحة متناحرة، ما أسفر عن سقوط عدد كبير من الضحايا أغلبهم من المدنيين، خلال ثلاثة أيام من المعارك، بحسب مصادر طبية، فيما حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من "التدهور السريع للوضع الإنساني في طرابلس".

وأضافت اللجنة في بيان أن "التوترات التي بدأت في وقت سابق من هذا الأسبوع، تحولت إلى مواجهات مسلحة في أجزاء من طرابلس، مما أدى إلى مقتل عدد غير معروف من الأشخاص وإصابة عشرات الأشخاص، بمن فيهم المدنيون وهم في طريقهم إلى المرافق الصحية".وحثت اللجنة الدولية جميع الذين يحملون السلاح على تجنيب أرواح المدنيين وممتلكاتهم، وتيسير الوصول الآمن إلى موظفي الإغاثة والمتطوعين في الصليب الأحمر والهلال الأحمر، الذين يقدمون المساعدة المنقذة الحياة.

وشهدت العاصمة الليبية طرابلس منذ الأحد الماضي، توتراً أمنياً ارتفعت حدته منذ فجر الاثنين، إلى اشتباكات ليست الأولى من نوعها، لكنها تبدو الأعنف هذه المرة من حيث نوعية السلاح المُستخدم، ومساحة الاشتباك التي تجاوزت أحياء صلاح الدين، وعين زارة، وخلة الفرجان، إلى مناطق أخرى بجنوب وجنوب شرق العاصمة طرابلس.

وأثارت الأحداث الدامية والاشتباكات المسلحة بين الميليشيات التي شهدتها العاصمة الليبية استنكارا وتنديدا واسعين على الصعيدين الداخلي والخارجي. وبالرغم من التوصل إلى وقف إطلاق النار، فإن تساؤلات عديدة تتصاعد حول مدى قدرة حكومة الوفاق على بسط سيطرتها على العاصمة والحد من سطوة الميليشيات.


** إرتباك حكومي

ومع تسارع وتيرة الأحداث على الأرض، ظهر الإرتباك جليا في مواقف الحكومة، ففي الوقت الذي أكدت فيه القوة المهاجمة لطرابلس "اللواء السابع"، تبعيّتها لوزارة دفاع حكومة الوفاق، من خلال مراسلات تحمل شعار الحكومة وفيديوهات تظهر رئيس الحرس الرئاسي لحكومة الوفاق اللواء نحمي الناكوع، في زيارة لمقرات وقيادات اللواء السابع، نفى الأخير هذا الأمر، مؤكداً أن قراراً أصدره في ما بعد حل بموجبه اللواء من دون أن يعلن عنه رسمياً.

وبالإضافة إلى ذلك، أعلنت وزارة داخلية حكومة الوفاق، ليل الأحد الماضي، عن توصلها إلى هدنة أعقبها اتفاق بين الطرفين لوقف إطلاق النار وتكليف مديرية أمن طرابلس بتسلّم المواقع العسكرية التي سيطر عليها اللواء السابع، لكن المديرية نفت في بيان صباح الثلاثاء، عقد اتفاق والتوصل إلى هدنة، مؤكدة أنها تخوض حرباً ضد اللواء السابع لاستعادة المقرات العسكرية.

ولم يجد المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبي برئاسة فائز السراج، سوى مفردات الإدانة لمواجهة سطوة الميليشيات المُسلحة،حيث استنكر المجلس في بيان له الاشتباكات المسلحة التي قال إنها تسببت في ترويع المدنيين الآمنين، لافتا في نفس الوقت إلى أن "المتورطين ستطالهم يد العدالة والعقوبات الدولية حسب قرارات مجلس الأمن الدولي".

لكن البيان غلب عليه التعميم، وعدم تحديد موقفه من المليشيات المتصارعة، والموالية له من المعادية، وكان شديد الحذر في توجيه الانتقادات لمن يقفون وراء تلك الاشتباكات، بل جرّم التصعيد العسكري بشكل عام، معتبراً أن الحرب تدور بسبب "العصابات الخارجة عن القانون والمتسبّبة في ترويع المواطنين الآمنين".

ومما زاد من غموض موقف السراج من تلك المليشيات، ظهوره صباح الإثنين في اجتماع مع رؤساء الأجهزة الأمنية التابعة لوزارتي الداخلية والدفاع، مقدّماً شكره لها، بحسب مكتبه الإعلامي، ودعمه جهودها في استعادة أمن العاصمة، من دون أن يسمي الكتائب المسيطرة على طرابلس باسمها، كما هي عادته في الأحداث السابقة، لا سيما أثناء اقتحام مليشيات "الرحبة" قاعدة معيتيقة في يناير/كانون الثاني الماضي، عندما أكد تبعية كتائب "قوة الردع" وثوار طرابلس وبوسليم لحكومته.

من جهة أخرى،نفت وزارة خارجية حكومة الوفاق الليبية بيانًا وصفته بـ"المزوَّر" يطالب بتدخل عسكري أجنبي. وكان بيان جرى تناقله على نطاق واسع عبر وسائل التواصل الاجتماعي أفاد بترحيب وزارة خارجية الوفاق "بأي تدخل عسكري يهدف إلى كبح جماح القوات المارقة، وتحقيق استقرار العاصمة". وأكدت الوزارة عبر صفحتها على موقع "فيسبوك" نفيها صدور أية تصريحات، أو بيانات عنها،الأربعاء، مؤكدة  أن التصريحات و البيانات المنسوبة إلى وزارة الخارجية الليبية غير صحيحة.


** مطالبات باستقالة السراج

ودفعت هذه التطورات،عددا من أعضاء مجلس النواب إلى المطالبة بسحب الثقة من السراج وحكومته، وطالبوا بإعادة هيكلة السلطة التنفيذية، لتتكون من مجلس رئاسي برئيس ونائبين فقط، بالإضافة إلى إعادة تشكيل الحكومة.وقال النواب، في بيان لهم إن "المجلس الرئاسي بوضعه الحالي لم يعد يمثل في نظرنا مفهوم التوافق الوطني المنصوص عليه بالاتفاق السياسي".

وأعلن النواب الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "مجموعة داعمي الاتفاق السياسي"، الشروع في "إعادة هيكلة السلطة التنفيذية بحيث تصبح مكونة من مجلس رئاسي برئيس ونائبين ورئيس حكومة يعمل على تشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة تنال الثقة من قبل مجلس النواب".

وعزا النواب مطالبهم إلى "استمرار حالة الانقسام السياسي والمؤسساتي بالبلاد وعدم مقدرة المجلس الرئاسي على إنهائها وإخفاقه في تنفيذ الاستحقاقات المنصوص عليها في الاتفاق السياسي وعلى رأسها الترتيبات الأمنية".

وأكد البيان "عدم قدرة المجلس الرئاسي على بسط سلطة الدولة على المنافذ كافة والسجون وإجراء المصالحة الوطنية ومحاربة الفساد وتحسين الوضع المعيشي للمواطن رغم ما حظي به من دعم محلي ودولي".

ورفض النواب "حل الخلافات بين الليبيين بالاحتكام إلى السلاح وتعريض حياة المدنيين للخطر والبلاد لمزيد من الدمار، وأنه لا حل للأزمة الليبية إلا عبر الحوار"، داعين الأطراف كافة ذات العلاقة "لإعلاء الروح الوطنية وتغليب المصلحة العامة".وشددوا على ضرورة أن تقوم "البعثة الأممية بدعم هذه الخطوة وذلك بدعوة مجلسي النواب والدولة للعودة للحوار في أسرع وقت".

من جانبهم، أصدر أعضاء آخرون في مجلس النواب، أطلقوا على أنفسهم اسم "الرافضون للمجلس الرئاسي وحكومة الوفاق"، أعربوا فيه عن دعهم لبيان النواب الداعمين للاتفاق السياسي.وقال النواب "الرافضون" في بيانهم:"نثمن الموقف الوطني لزملائنا النواب والذي نرى فيه فرصة لمجلس النواب لتجاوز خلافاته وتوحيد موقفه إزاء العملية السياسية".

من جهته،أعلن المجلس الأعلى للدولة الليبية دعمه لبياني النواب الرافضين للمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني بقيادة فائز السراج، مؤكدا استعداده لاستئناف جولات الحوار للبحث عن آليات لاختيار سلطة تنفيذية جديدة.وقال المجلس في بيان،الأربعاء: "يرحب المجلس ببيان مجموعة داعمي الاتفاق السياسي الليبي في مجلس النواب، ويؤكد على تطابقه مع موقف المجلس الأعلى للدولة في رؤيته لتعديل السلطة التنفيذية".

وأضاف البيان "كما يرحب المجلس ببيان أعضاء مجلس النواب الرافضين للمجلس الرئاسي".مؤكدا "عجز السلطة التنفيذية الحالية على مختلف المستويات وخاصة منها الاقتصادي والأمني يجعل أعادة النظر في هيكلتها وفي شاغليها خطوة مهمة يجب اتخاذها لتحقيق الأمن والاستقرار".وأتم البيان "ويعلن المجلس عن استعداده التام لاستئناف جولات الحوار طبقا للاتفاق السياسي للشروع في البحث عن آليات اختيار سلطة تنفيذية، مكونة من مجلس برئيسين، ونائبين، وحكومة وحدة وطنية مستقلة عنه".


** إنتقادات دولية

وكشفت الاشتباكات الدائرة في العاصمة الليبية طرابلس، منذ الأحد الماضي، بين عدد من المليشيات ضعف حكومة الوفاق الليبية، التي تعول على هذه الجماعات المسلحة وتشرعن نشاطاتها وتمولها بالمال والسلاح بحسب المراقبين.

وفي هذا السياق، إعتبر السفير البريطاني السابق لدى ليبيا بيتر ميليت فى إطار تعليقه على الاشتباكات الجارية فى طرابلس إن سببها هو إستمرار حصول المليشيات على المال من الدولة. وفى تغريدة عبر حسابه الشخصي على موقع تويتر،قال ميليت،الاربعاء ، إن إستمرار دفع المرتبات للمليشيات تعد عقبة رئيسية أمام الاستقرار في ليبيا. وأضاف أن التحدي القائم الآن يتمثل في كيفية إيقاف المدفوعات والمرتبات لامليشيات دون إثارة المزيد من العنف مشيراً أم لا أحد قد توصل إلى حل حتى الآن.

وكانت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا،قد طالبت في بيان لها منذ أيام حكومة الوفاق الوطني بالسيطرة على الكتائب التي قالت إنها تنطوي تحت وزارة الداخلية التابعة لها بالاسم فقط. وأوضح بيان البعثة أن المجموعات المسلحة التابعة لوزارة الداخلية بحكومة الوفاق تورطت في مهاجمة مؤسسات سيادية في الدولة وعرقلت عملها، وهو أمر يجب أن يتم إيقافه على الفور.

وحسب البيان، فإن البعثة الأممية للدعم في ليبيا تقوم بإعداد تقرير موسع حول التهديد الذي تشكله هذه المجموعات المسلحة على موارد ليبيا وثرواتها، لعرضه على المجتمع الدولي.وتعمل البعثة الأممية على دراسة إمكانية فرض عقوبات على كل الجهات التي تهدد استقرار المؤسسات السيادية في ليبيا، بالتعاون مع الجهات المختصة.

ورأت مجلة "لوبوان" الفرنسية أن المليشيات الليبية في طرابلس تحولت إلى شبكات إجرامية تمارس أنشطة سياسية واقتصادية في ظل حكومة الوفاق الهشة برئاسة فايز السراج،مشيرة إلى إن "المليشيات الكثيرة في طرابلس تحولت إلى شبكات إجرامية تعمل في السياسة والأعمال التجارية".واستندت المجلة إلى تقرير بعنوان "رؤوس أموال المليشيات" صدر مؤخرا عن منظمة "الدراسات الاستقصائية للأسلحة الصغيرة"، المتخصصة في تحليل شؤون الصراعات المسلحة ومقرها جنيف.

وأوضحت المجلة أن "تجدد الاشتباكات بين المليشيات في طرابلس يوضح حالة الفوضى التي تشهدها ليبيا، كما يشير إلى أن دعوات المجتمع الدولي لإجراء انتخابات قبل نهاية العام وهمية"، لافتة إلى أن "حكومة الوفاق غير قادرة على فرض سلطتها على أجزاء كبيرة من البلاد التي لا تزال تحت سيطرة العشرات من المليشيات".

وأضافت "لوبوان" أن "هذه المليشيات قادرة على منع إجراء أي انتخابات إذا لم تخدم مصالحها".ونقلت المجلة الفرنسية عن محللين في الشأن الليبي تأكيدهم أن "انعدام الأمن وغياب لاعبين ذوي نفوذ في مؤتمر باريس أسفر عن هشاشة الوعود خلال المؤتمر، ما يؤكد استحالة إجراء الانتخابات في الموعد المحدد لها في المؤتمر".

ومع فوضى انتشار السلاح وتضارب المصالح لدى قادة عدد من الميليشيات المسيطرة على العاصمة طرابلس،يؤكّد مراقبون أن تثبيت وقف إطلاق النار يبقى مهمة معقدة،حيث لا وجود لأية ضمانة على عدم تكرار المعارك والإشتباكات التي تأتي بحسب مراقبين استمراراً لمشهد الانفلات الامني وسيطرة الميليشيات المسلحة على طرابلس،وضعف حكومة الوفاق على الأرض في مواجهة هذا الخليط من الميليشيات.

وكتب عضو مجلس النواب المقاطع فتحي باشاغا، في تدوينة نشرها في صفحته الرسمية على فيسبوك أن "ما نراه اليوم من انهيار الوضع الأمني في العاصمة طرابلس هو حلقة من سلسلة فشل السلطات الحاكمة صوريّا والخاضعة لهيمنة الميليشيات وتقويض دور مؤسستي الجيش والشرطة". 

وحذر باشاغا من أن الوضع "مُقبل على المزيد من الفوضى في حال لم تتكاتف القوى الوطنية الصادقة بمختلف توجهاتها السياسية ووضع حد لهذا الاستهتار بمصير الوطن قبل أن يتسع الخرق".

ورغم وصول حكومة الوفاق الليبية برئاسة فايز السراج وبداية عملها تحت غطاء دعم دولي واسع، إلا أن تغول المجموعات المسلحة وضعها في موقف صعب، خاصة بعد ممارسات هذه المجموعات في المناطق المتمركزة فيها من انتهاكات لحقوق الانسان سواء بالإختطاف أو الإعتقالات الغير قانونية أو التعذيب والقتل.