تبدأ، غدا، عملية مشاركة التونسيين والتونسيات المقيمين بالخارج في الانتخابات البرلمانية التونسية التي تنظم بتونس يوم الأحد القادم، ومن خلال المناخ العام للحملة الانتخابية داخل تونس وخارجها، يتضح أن التنافس الرئيس سيكون بين تيارين رئيسين: الأول يصف نفسه بـ«الثورية»، ويضم أساسا الأحزاب، والحركات اليسارية، والإسلامية، والقومية، التي حكمت تونس منذ انهيار حكم زين العابدين بن علي قبل نحو 4 أعوام، أما التيار الثاني فيضم الأحزاب التي كانت جزءا من النظام السابق، وأغلبها خرجت من رحم حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل، ونجحت في إعادة استقطاب غالبية «الغاضبين» على الترويكا التي حكمت تونس بعد انتخابات 23 أكتوبر (تشرين الأول) 2011، لا سيما في حقبة حكومتي حمادي الجبالي وعلي العريض.
وإذ يسمح القانون الانتخابي الحالي لغالبية الأحزاب الصغيرة، ولعدد من قوائم المستقلين بدخول البرلمان الجديد، مهما كانت نتائجها ضعيفة، فإن السيناريو الوحيد يصبح تشكيل الحكومة القادمة بعد إبرام اتفاقيات «تحالف بين الأضداد»، أي بين «الثوريين» و«رموز النظام السابق».
وهذا السيناريو يبدو «شرا لا بد منه»، لأنه ليس هناك خيار أمام الأحزاب الكبرى إلا «التوافق» وتشكيل حكومة ائتلاف وطني جديدة، مهما كان تفوق الحزب الأكبر الفائز بالأغلبية النسبية.
وإذ تؤكد مؤشرات كثيرة أن رؤساء قوائم العلمانيين واليسار والمستقلين الذين لديهم إشعاع جهوي وقبلي وعائلي، يمكن أن يفوزوا بما لا يقل عن ربع المقاعد أو ثلثها، فإن خيار «تحالف الأضداد» سيفرض نفسه على الجميع، حسبما يبدو، رغم بعض تصريحات «المزايدات» التي صدرت هنا وهناك، وأوحت باستحالة «الشراكة» بين المتنافسين من مرجعيات فكرية وآيديولوجية مختلفة، وأساسا بين «اليساريين» و«العلمانيين» و«الإسلاميين» و«الليبراليين».
* تحالفات مبكرة
* مصير الحزبين «الكبيرين»؛ نداء تونس بزعامة قائد السبسي، والنهضة بزعامة الغنوشي ومورو، سيكون رهين نتائج صناديق الاقتراع، وقدرتها على تجاوز «مزايدات» الحملة الانتخابية، و«إبرام تحالفات انتخابية وسياسية مبكرة» على غرار ما فعله زعيما الحزبين في صائفة العام الماضي بعد لقائهما «المفاجئ» في العاصمة الفرنسية باريس.. الذي أدى إلى «إذابة الجليد» بين الترويكا الحاكمة وخصومها في «جبهة الإنقاذ» عامة، وفي حزب نداء تونس خصوصا.
وسيفرض على الحزبين «الكبيرين» خيار تشكيل حكومة ائتلاف حكومي وطني، إذا لم يفز أي منهما بما لا يقل عن ثلث المقاعد؛ أي بأغلبية مريحة تضمن له التحكم في خيوط اللعبة.. واخيتار غالبية الوزراء لوحده مع إسناد بقية الحقائب لحلفاء يختارهم على مقاسه، وقد بدأ «صقور» حزب نداء تونس ورموزه المحسوبين على «اليسار الراديكالي» يعدلون خطابهم، ويعلنون أنهم على استعداد للمشاركة في حكومة وطنية قد ترأسها شخصية مستقلة، على ضوء نتائج الانتخابات القادمة».
* التحالف «الثوري»؟
* لكن هذا السيناريو قد يتغير إذا فاز أحد الحزبين «الكبيرين» بأغلبية مريحة، وإذا فاز «الدستوريون» و«التجمعيون» من أنصار الرئيسين السابقين، بورقيبة وبن علي، بالأغلبية، فقد يشكلون حكومة الإتلاف الوطني أساسا من بين عناصرهم والمقربين منهم، وبعض المستقلين واليساريين الذين سوف يدعونهم إلى الانضمام إليهم.
أما إذا حصل العكس وفشل «رموز النظام السابق» من الفوز رغم إلغاء قرار «العزل السياسي» الذي أبعدهم في الانتخابات الماضية، لا يستبعد بعض المراقبين أن تدخل حركة النهضة في تحالفات سياسية مع بعض الأحزاب والقوائم الانتخابية المحسوبة على «تيار الهوية العربية والإسلامية» وعلى «الخط الثوري»، مثل حزب المؤتمر بزعامة المنصف المرزوقي، والحزب الجمهوري بزعامة أحمد نجيب الشابي وميه الجريبي، وحزب الإصلاح والتنمية بزعامة محمد القوماني، وحزب الأمان بزعامة الأزهر بالي، والأحزاب اليسارية والقومية المعتدلة التي وقفت مع النهضة والترويكا في صائفة 2013 «ضد جبهة الإنقاذ وضد المشروع الانقلابي».. حسب مدير الحملة الانتخابية للرئيس المرزوقي، عدنان منصر، الذي توقع أن تؤكد الانتخابات تفوق «جبهة ثورة 14 يناير (كانون الثاني)2011 على جبهة أنصار 7 نوفمبر (تشرين الثاني)؛ أي جبهة وزراء بن علي وأنصارهم».
* النخب.. واليسار
* إلا أن المكون الثالث للمشهد السياسي القادم بعد الانتخابات سيكون «الفائزون الذين يمثلون النخب العلمانية، واليسارية، والنقابيين، والاشتراكيين، والبعثيين، وأنصار الجبهة الشعبية» في نظر السيد أحمد بوعزي، القيادي في حزب التحالف الديمقراطي بزعامة البرلماني محمد الحامدي وثلة من القياديين السابقين في الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة المحامي الحقوقي واليساري أحمد نجيب الشابي.
ولئن برزت قيادات «الجبهة الشعبية» بقوة خلال العامين الماضيين في وسائل الإعلام الدولية ـ لا سيما بعد اغتيال القياديين شكري بلعيد ومحمد الإبراهيمي ـ فإن بريق تلك القيادات لم يبرز كثيرا خلال الحملة الانتخابية الحالية، بما في ذلك «الزعيم الكريزماتي لأقصى اليسار التونسي، حمه الهمامي، وزوجته الحقوقية البارزة، راضية النصراوي، لكن القانون الانتخابي سيمكن هذه القوائم من عدد من المقاعد إذا تجاوز عدد الأصوات التي ستفوز بها في كل دائرة 3 آلاف صوت، وهو أمر وارد بحكم الحضور القوي لليسار الاشتراكي، والقومي، والبعثي، في صفوف الطلبة والنخب وبعض نقابات العمال وفي وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني.

* فشل التكنوقراط 
* وقد تكون من بين العوامل التي ستخدم حركة النهضة والأحزاب الدستورية واليسارية في هذه الانتخابات - على حساب قوائم المستقلين - ما يعده كثير من المراقبين المسيسين، مثل الوزير السابق نور الدين البحيري، «فشل حكومة التكنوقراط في تحقيق الأهداف التي وعدت بها»، لأسباب كثيرة من بينها عدم وجود أحزاب تدعمها.
ومن بين ما يعقد الأوضاع أكثر تعاقب الاستقالات في عدد من الأحزاب، وبروز تحالفات جديدة بين أنصار النظام السابق بعد أن «تضخم» عدد المرشحين للانتخابات البرلمانية والرئاسية وتعقد المشهد السياسي والحزبي بسبب بروز تباينات واضحة بين زعيمي نداء تونس والنهضة؛ الباجي قائد السبسي، وراشد الغنوشي، وبين زعامة نقابات العمال ورجال الأعمال، وبين حزب الرئيس المرزوقي، وقياديين بارزين من حزب النهضة، مثل لطفي زيتون.. بما يفتح الباب أمام كل الفرضيات بعد «انتهاء أشهر التوافق والعسل».

* استقالة محمد الغرياني الأمين العام لحزب بن علي
* ولعل آخر مفاجأة في هذا السياق الحوار التلفزيوني الذي أجرته قناة تلفزيونية خاصة في تونس «حنبعل» مع القيادي في حزب نداء تونس، والأمين العام الأسبق لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي، محمد الغرياني، ويبدو أن الأوضاع تسير نحو إعلان استقالته رسميا من «النداء» بزعامة الباجي قائد السبسي مع عدد من أنصاره.
هذا القرار الذي جاء قبل أيام من موعد الانتخابات التشريعية وقبل أسابيع عن موعد الانتخابات الرئاسية، سيساهم في إعادة خلط الأوراق:
- أولا: سيعيد الدستوريون والتجمعيون السابقون خلط الأوراق داخل حزب نداء تونس، بحجة أن الدستوريين همشوا خلال اختيار رؤساء القوائم الانتخابية.
- ثانيا: سيعيد الدستوريون الذين انخرطوا في أحزاب وقوائم انتخابية منافسة لحزب النداء، خلط أوراقهم في وقت لا يزال فيه كثير من رموز الحزب الحاكم السابق يرشحون أنفسهم لتزعم التيار الدستوري، وخاصة السادة كمال مرجان ومحمد جغام، زعيما حزب المبادرة الوطنية، وحامد القروي والتيجاني حداد وعبد الرحيم الزواري، زعماء حزب الحركة الدستورية، وأحمد منصور، رئيس التيار البورقيبي، وتوفيق بوخود، زعيم حركة الدستوريين الأحرار (التي سبق أن أسسها السيد عمر صحابو)، والصحبي البصلي زعيم حزب المستقبل والسفير السابق.
- ثالثا: ستعيد استقالة الغرياني وأنصاره من حزب نداء تونس، توزيع الأوراق فيما يتعلق بمرشح الدستوريين والتجمعيين للرئاسة: هل يكون الباجي قائد السبسي، عضو اللجنة المركزية حتى 2003، أم كمال مرجان، عضو الديوان السياسي سابقا وآخر وزير للخارجية قبل الثورة، أم عبد الرحيم الزواري، الأمين العام للحزب سابقا، أم منذر الزنايدي، الوزير الأسبق للسياحة والتجارة والنقل والصحة وعضو اللجنة المركزية سابقا، أم يكون شخصية «وسطية» أخرى من بين من سبق أن تحملوا مسؤوليات حكومية أو حزبية ثم انسحبوا منذ مطلع الـتسعينات مثل الدكتور حمودة بن سلامة، الذي انسحب في فيفري (فبراير/شباط) 1991 من الديوان السياسي للحزب ومن الحكومة، أو مصطفى كمال النابلي الذي استقال في 1995؟
- رابعا: قد تتسبب استقالة محمد الغرياني في إعادة خلط أوراق خصوم النداء والتجمعيين، بما في ذلك الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية واليسارية، إذا تأكد أن الغرياني يخوض مع ثلة من القيادات الدستورية السابقة جهودا للمصالحة الوطنية تتضمن توحيد الدستوريين والتجمعيين حول مرشح توافقي للرئاسة.

*الشرق الاوسط اللندنية