تعيش ليبيا مرحلة صعبة جدا في تاريخها، عقب حرب أهلية طويلة ودامية في العام 2011، أعقبتها ثمان سنوات من إنتقالٍ سياسي عسير وصعب أثّر على مختلف مناحي الحياة في البلاد، وأغرقها في أزمات سياسية وإجتماعية وإقتصاديّة متناسلة.

هذه الأزمات المتأثرة في معظمها بحالة عدم الإستقرار السياسي، وسلطة الميليشيات وعجز المؤسسات الدّولة على التعافي، وانقسامها، وضعف الدّولة وانتشار الجريمة والعضابات المسلّحة، إنعكست بشكل كبير على حياة الليبيين اليوميّة.

طوابير طويلة أمام المصارف، وأخرى أمام المخابز، وتردٍّ كبير للخدمات الطبيّة والتعليميّة وضعف كبير للأجهزة الأمنيّة، عمّقتها أزمة أسعار صرف الدّولار وسيطرة تجّار الأسواق الموزاية على  السيولة النّقديّة وقيمة العملة والدينار الليبي الذي وصل الى مستويات غير مسبقة أمام الدّولار، رغم سعر الصرف الرّسمي المحدّد من قبل المصرف المركزي الذي يساوي قرابة سدس السعر المتداول في الشارع .


** أزمة السيولة وأسعار الدينار ..كيف يتدبّر الليبيون أمرهم؟

تبدو أزمة السيولة في المصارف أحد أهم المعضلات التي تواجه الليبيين في حياتهم اليوميّة، فحتى الذي يمتلك حسابًا مصرفيًا، لا يمكنه أن يسحب من أمواله نظرًا لعدم وجود سيولة نقديّة في الفروع المصرفيّة وحتى إن وجدت، بشكل نادر، فإن المصارف تفرض سقفا زهيدًا للسحب لا يتعدّى في أحسن الأحوال خمس مائة دينار ليبي، يقف المواطن الليبي طويلا، وفي طابور طويل لكي يحصل عليها.

وأمام هذه المعظلة الحقيقيّة التي تواجهها الأسر الليبية والتي تمس بشكل مباشر حياتها اليوميّة ونفقاتها الحيويّة، يلجأ الليبيين الى الصكوك، وهي تواصيل مصرفيّة تؤخذ بقيمة سعر الدّولار في المصارف مقابل الأوراق الماليّة، ويتم بيعها بعد ذلك في السّوق الموازية للعملة بثمن زهيد جدا يفقدها أكثر من خمس قيمتها، ليتولى التجّار الذي يمتلكون السيولة، بعد ذلك اعادة بيعها للمصارف بسعرها القديم وربح الفارق الهائل في السّعر، وهي تجارة مربحة جدًا وتدر مبالغ رهيبة من المال بشكل مريح.


** الفن والشّعر يؤرّخان للأزمة

هذه المرحلة الصعبة من تاريخ ليبيا، وهذه المعاناة اليوميّة التي يعيشها المواطن الليبي انعكست على المدوّنة الثقافيّة الشعبيّة للبلاد، شعراء شعبيون كتبوا القصائد ومغنو الحفلات والفنانون الشعبيون التقطوا هذه الأزمة التي تمثّل جزءًا من اليومي الليبي، وحوّلوها إلى مادة فنيّة تحفظها الأجيال.

وعلى صفحات التواصل الإجتماعي تتزاحم التدوينات الساخرة والناقدة والملتعاة من هذا الوضع الإقتصادي والإجتماعي البائس، وتتناسل النّكت و"الميمز" التي توثّق لمعاناة الليبيين مع هذه الأزمة.

ويعتبر الفن والثقافة الشّعبيّة أحد المراجع التي يعتمدها المؤرّخون والانثروبولوجيون لفهم تاريخ وطبائع الشّعوب وثقافاتهم، فالمدونة الأدبية للشعب تعتبر نصوصا مرجعيّة للباحثين في مختلف الحقول المعرفيّة، كما تعتبر النصوص الشعرية والغنائية، وكل أنواع الفنون، شواهد باقية دائما على مراحل معينة من التاريخ وتوثّقها بطبيعتها الخاصة.

أحد الشعراء الشعبيين وثّق الأزمة الدّولار وأزمة الطوابير التي يعاني منها المواطن في ليبيا بأيات تحدذث فيها عن انهيار قيمة الدّولار وعن غلاء المعيشة وعن الوقوف الطويل في الطوابير المرهقة والأزمات الاقتصاديّة والأمنية والسياسيّة المستحفلة في البلاد:

الأغنية الشّعبية بدورها لم تتخلّف عن توثيق هذه المعاناة، وعن التأريخ لأزمة سعر الصّرف غير المسبوقة وعن معاناة الليبيين في الطوابير ومشكلة النفقات اليوميّة وعدم القدرة على توفير الاحتياجات اليومية، ولكنها ركّزت في معظمها على ربط هذه الأزمة بقصص الحب والزواج.

الفنّانة الشعبية "عويشة" وهي فنانة شعبيّة واسعة الانتشار في الافراح والمناسبات الإجتماعية في ليبيا، وأغانيها منتشرة بكثرة في ليبيا، وتتناول مواضيع شعبيّة ومن "القاع الإجتماعي" تتحدّث فيها عن اليومي وعن تفاصيل الحياة للمواطن الليبي، "عويشة" أنتجت أغنية حول أزمة الدّولار حتى أنّ أحد روابط الأغنية على اليوتيوب حقّقت أكثر من 350 ألف مشاهدة ! 


أحد الشباب الليبيين، تناول أزمة سعر الصرف وغلاء أسعار الدولار بشكل ساخر حين تناول أغنية الفنان التونسي بلطي "يا ليلي يا ليلا" والتي حطّمت كل الأرقام القياسية العربية بأكثر من 485 مليون مشاهدة على اليوتيوب، وركّب عليها كلمات لأغنية تتحدّث عن أزمة الدولار والدينار والسيولة المستفحلة في ليبيا .

أمّا الفنانة الشعبيّة "سارة السوكني"، فأصدرت أغنية على إرتفاع أسعار الدولار بعنوان "تنزل يا دولار"، تقول في كلماتها: 

"تنزل يا دولار ..إنشاء الله تنزل يا دولار ..مع لولاف نديرو دار".


كما تحفل المدونة الشعريّة الشعبية كذلك بعشرات القصائد التي توثّق لهذه الأزمة الإقتصاديّة التي تمر بها البلاد.

فقد كتب أحد الشعراء الشعبيين قصيدةً حواريّة طريفة بين الدّولار والدّينار تلخّص هذه الأزمة، يقول فيها: