لطالما ظلّت صورة الرئيس الأسبق الراحل الحبيب بورقيبة راسخة في مخيلة التونسيين ونفوسهم، على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية، رغم محاولات الطمس التي تعرّضت لها من قبل نظام بن علي في مرحلة أولى وخلال فترة حكم الإسلاميين للبلاد في مرحلة لاحقة. صورة ارتبطت في أذهانهم بالمكاسب التي حقّقتها تونس زمن حكم بورقيبة على جميع المستويات، فأنتجت لديهم وفاء لصاحبها وثقة في كل من سار على هديه واتّبع فكره أفرادا وجماعات، وعداء لكل من اختار الجحود لزعيمهم وباني دولتهم الحديثة.

مع نجاح الانتفاضة التونسية عام 2011 في الإطاحة بنظام حكم بن علي، قطع التونسيون مع الرهبة والخوف من هذا النظام، وأعادوا إلى “البورقيبية” إشعاعها من خلال تبني عدد من الجمعيات لـ”الـفكر البورقيبي”، لتتبناه بعد ذلك عدة أحزاب سياسية أغلبها لها مرجعية دستورية، أبرزها على الإطلاق حزب نداء تونس العلماني الذي فاز بأغلبية المقاعد البرلمانية في الانتخابات التشريعية الأخيرة.

هذا الفكر الذي لعب دورا مهما في تأسيس تونس الحديثة ورسم الملامح العامة للمجتمع والهوية التونسية، ظلّ حاضرا في نفوس التونسيين وكان عاملا مؤثرا في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وظلّ كما كان في كلّ الأزمنة والنكسات ضمانة للمحافظة على النمط المجتمعي الحداثي المتجذّر لدى عموم التونسيّين.

كيف عادت البورقيبية إلى الظهور؟

الجديد في المشهد اليوم، أنّ صور الرئيس الراحل عادت لتغزو مختلف مناطق الجمهورية التونسية، لتزدان بها جدران محلات بيع الخضار والفواكه واللحوم والأسماك والتوابل، كما تدلت في عدد من الفضاءات التجارية الكبرى والأسواق المركزية صور عملاقة رسمية لـ”الزعيم”، كما يحلو للتونسيين تسميته، وهو يُقبّل العلم التونسي وأخرى يحيي فيها الشعب التونسي من على صهوة جواد.

صور ظلت غائبة طيلة فترة من حكم بن علي، الذي منع عرضها ومارست أجهزته الأمنية وسائل الترهيب على المواطنين لإزالة كل ما يتعلق بتاريخ بورقيبة، الشخصية التي تركت بصمتها في نحت جزء مفصلي من تاريخ تونس الحديث.

وبوفاة بورقيبة سنة 2000 بدأت تزول تدريجيا مخاوف الرئيس السابق بن علي، وعادت صور بورقيبة إلى الظهور من جديد جنبا إلى جنب مع صور بن علي، ليعود فكره ونهجه السياسي إلى الظهور بقوّة غداة الإطاحة بنظام بن علي.

والحبيب بورقيبة هو أول رئيس للجمهورية التونسية، تولى الحكم من يوليو 1957 إلى 7 نوفمبر 1987 تاريخ عزله عن الرئاسة من قبل وزيره الأول حينها زين العابدين بن علي، الذي أطاحت به بدوره انتفاضة الـ 14 من يناير 2011. وفُرضت على بورقيبة من ثمّة إقامة جبرية إلى حين وفاته في 6 أبريل سنة 2000.

كيف جنت النهضة على نفسها؟

لا شكّ أنّ العداء الذي أظهره إسلاميو تونس ممثلين في حركة النهضة المحسوبة على الإخوان، تجاه “الزعيم” بورقيبة غداة الثورة، وخاصّة بعد صعودهم إلى الحكم سنة 2011، كان، وفق مراقبين، أحد أهمّ الأسباب التي أسهمت في سقوطهم وهزيمتهم في الاستحقاق الانتخابي الأخير، بعد أن لفظتهم إرادة التونسيين وأبعدتهم عن حكم أثبتوا فشلهم في إدارته.

فقد تعمّد زعماء التيار الإسلامي عدم الترحّم على روح بورقيبة في العديد من المقابلات الإعلامية، بل ومضوا في الإساءة إليه من خلال اتهامه جزافا بأنه المسؤول الأول عن “تفسخ المجتمع التونسي وجنوحه نحو الغرب وابتعاده عن الدين الإسلامي”، وقد فاتهم أنّ خطوات التحديث التي قام بها بورقيبة في طريق نحت شخصية المجتمع التونسي، كانت بالفعل لبنات بناء متينة ولم تكن مسقطة بل على العكس من ذلك، إذ لطالما كانت متجذرة في الهوية التونسية التي نهلت من جل الحضارات التي مرت على البلاد، وكانت عامل تميّز للتونسيين وسط محيطهم الإقليمي.

قِصر النّظر الذي اتسمت به الحركة الإسلامية، وعدم وعيها بطبيعة الشعب التونسي، الذي لم يفكر يوما في نكران الجميل لـ”زعيمه” الذي وفّر له أفضل تعليم وحرّر نصفه من خلال منحه حقوق المرأة، واجتهد في تعميم الصحة وإرساء مؤسسات دولة حديثة بقيت صامدة حتى في أحلك الفترات وحالت دون انجرار البلاد إلى الفوضى مؤخرا، جعلاها تغرّد خارج السرب وتبدو “جاحدة” في نظر أغلب التونسيين، بل وغريبة عنهم وعن نمط حياتهم.

وبناء على ما سبق فقد جنت النهضة على نفسها بمعاداتها للحبيب بورقيبة، وحصّلت الهزيمة والتقهقر مقابل “جحودها للزعيم” وللمكاسب التي حققتها تونس على مدى خمسين سنة منذ الاستقلال.

كيف استفاد النداء من البورقيبية؟

الفعل النفسي الذي خلّفته كاريزما “الزعيم” بورقيبة في نفوس التونسيين على اختلاف مللهم ونحلهم وتوجهاتهم الفكرية والسياسية والعاطفية (ما عدا الإخوان) لم ينتف مع الزمن رغم محاولات طمسه من قبل الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. بورقيبة الذي يقول عنه القيادي اليساري محمد الكيلاني، الّذي كان يُعارض نظام حكمه (الذي كان يتّسم بالتفرّد) “لقد كان له الفضل في تعليمنا كيفية غسل أسناننا بالفرشاة”، في إشارة منه إلى النمط الحداثي الذي عمل بورقيبة على تطبيقه وتجذيره في تونس التي كانت تعاني حينها آثار التخلّف الذي تسببت فيها سنوات الاستعمار الفرنسي.

هذا الاعتراف بفضائل “الزعيم” وغيره من الاعترافات المسجلة الأخرى من قبل قادة وسياسيين تونسيين كانوا يعارضون نمط الحكم المبني على أساس الرجل الواحد والحزب الواحد الذي رسّخه بورقيبة، كان هو الآخر بمثابة اعتراف لهم بالوفاء لمؤسس تونس الحديثة حفظه لهم الشعب التونسي، الذي لا يقبل لومة لائم في الوفاء لـ”زعيمه”.

وفي هذا السياق، يرى مراقبون أنّ فوز حزب النداء في التشريعية، كان عائدا في بعد من أبعاده إلى مُضيّ هذا الحزب على الهدي الحداثي الذي رسمه بورقيبة، والّذي أحسّ التونسيون في السنوات الثلاث الأخيرة (فترة حكم الإسلاميين للبلاد) أنّه أضحى مهدّدا بمشروع مسقط يسعى أصحابه إلى طمس هويّتهم من خلال أخونة الدولة.

ولذلك فقد لعب امتداد الفكر البورقيبي الحداثي، دورا محددا في الانتخابات الماضية، وكان مريدوه الفائزون دون سواهم ممّن غاضهم استحضار فكر الزّعيم الذي يؤمن بـ”دولة وطنية وهوية تونسية حداثية” تتناقض مع مشاريعهم الوافدة التي تهدف بالأساس إلى تقويض مؤسسات تلك الدولة وذاك النمط وإعادة صياغته وفق أهواء تنظيمهم الإخواني الدولي، وفق تعبيرهم.

هل ستؤثر البورقيبية في الرئاسية؟

الحلّة التي تميّز بها زعيم حزب نداء تونس الباجي قائد السبسي فكرا وممارسة وحتى على مستوى الكاريزما والصورة، بدت شبيهة إلى حدّ كبير لدى التونسيين بحلة “الزعيم” بورقيبة، الذي عاشره السبسي وشغل مناصب حكومية هامة في فترة حكمه وكان أحد المتتلمذين المتميزين على يده.

هذا الوفاء لفكر “الزعيم”، الذي طالما أكّده السبسي متى تسنّت له الفرصة، لم يبدُ للتّونسيين “ركوبا على إرث بورقيبة أو استحضارا لروحه لغايات انتخابية ضيّقة”، كما أراد بعض معارضيه أن يصوروه، بقدر ما نقل لهم صورة عن مدى تأثر السبسي وتشبّعه بمبادئ تجربة التأسيس التي رافق فيها بورقيبة منذ الاستقلال.

تلك التجربة التي يقول عنها رئيس نداء تونس “إنّها نجحت في تأسيس دولة وطنية حديثة منفتحة على العالم دون أن تتنصل من محيطها أو تقطع مع تاريخها الزاخر بالتنوع والثراء”.

من جهة أخرى، فقد رأى المراقبون أنّ السبسي كان أكثر الفاعلين السياسيين الواعين بمكانة البورقيبية ومؤسسها في نفوس التونسيين، ولذلك فقد عمل وفق ذاك الوعي على إعادة إحيائها في خطاباته وحركاته وسكناته، ومن هو الأقدر منه على فعل ذلك، خاصة أنّه ابن تلك المدرسة وأحد المنخرطين الأوائل في ذاك النهج الوطني، على حدّ قولهم.

وبالنظر إلى ذلك الوعي كذلك، وبالإضافة إلى حنكة الباجي قائد السبسي السياسية، لم يفته أن يبدأ حملته الانتخابية الرئاسية من “روضة آل بورقيبة” (مكان المثوى الذي يرقد فيه الزعيم الراحل)، حيث قرأ الفاتحة على روح “الزعيم”، في خطوة استحسنها قطاع واسع من التونسيين الذين يعون أشدّ الوعي بأنّ علاقة السبسي بالبورقيبية وبرئيسها تتجاوز تلك التشكيكات الفارغة من المحتوى التي يعمد البعض إلى ترويجها، والتي يتهمونه فيها بالركوب على إرث بورقيبة، وكأنّ الرجل لم يكن أحد المساهمين في نحت تلك المسيرة وذاك الإرث !!

الأكيد وفق ما سبق أنّ البورقيبية ستلعب دورا هاما في تحديد هوية الرئيس التونسي الذي سينتخبه التونسيون غدا الأحد، مثلما لعبت دورا مزدوجا في الانتخابات التشريعية السابقة، بعد أن أعادت الثقة إلى حاملي مشروع الزعيم الحداثي التونسي المتأصّل، وحالت دون مرور مشاريع الظلام التي يهدف أصحابها إلى النيل من المكاسب التي حققتها تونس على مدى عقود من الزمن.

*نقلا عن العرب اللندنية