منذ صدوره، وكتاب "الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر" للأستاذ الباحث سعيد جاب الخير يثير جدلا واسعا في الجزائر، سيما وأنه يقدم طرحا مغايرا للمنظومة الدينية وقراءة جريئة للتاريخ الإسلامي ودور ما أطلق عليه "الإسلام الرسمي" فيه.في هذا الحوار الحصري الذي خص به البوابة، يتحدث جاب الخير عن نظام الخلافة، عارضا قراءة جديدة بخصوصها، وهي قراءة تستجلب الكثير من الوقوف والتأمل...

البوابة:  تقدم في كتابك "الزوايا والمرجعية الدينية في الجزائر"، قراءة أخرى عن نظام الخلافة الذي يعد واحدا من المفاهيم السياسية المقدّسة لدى العامة وبالخصوص الداعين إلى إعادة إحيائها؟. هل يمكن أن تلخص لقراء "البوابة" قراءتك بخصوصها؟

سعيد جاب الخير: الخلافة ليست نظاما دينيا، لأن النبي (ص) لم يأت ليؤسس دولة ولا سلطة زمنية، بل جاء فقط لتبليغ رسالة وقد بلغها على أتم وجه. أما الدولة أو الإمبراطورية التي أطلق عليها اسم "الخلافة" فقد أسسها المسلمون بعد وفاة النبي (ص). والمشكلة ليست في أن المسلمين أسسوا دولة بعد وفاة نبيهم لأن ذلك من حقهم. لكن المشكلة تكمن أساسا في أنهم نسبوا تلك الدولة إلى النبي (ص) ومنحوها مشروعية دينية مزيفة وملفقة لكي يبرروا لأنفسهم كل الأخطاء والفظائع التي ارتكبوها بحق الشعوب "المفتوحة" من قتل وسبي ونهب تحت عنوان "الغنائم" ونشر الدين الى غير ذلك. لأنه لا يوجد ما يبرر ذلك من الناحية الدينية على مستوى النصوص المرجعية، ولأنه ليس من المعقول أن الديانة الخاتمة (الإسلام) تمعن في تجذير الاستعباد والسبي بدلا من القضاء عليهما. لكن ما لاحظناه تاريخيا هو أن تحالف الفقيه والخليفة (التحالف المقدس) منح الشرعية الدينية للدولة التي تأسست بعد وفاة الرسول محمد (ص) وحولها الى "مؤسسة خلافة" وهي ليست في الواقع سوى إمبراطورية توسعية تحميها منظومة الفقيه. ولهذا وجدما أن الاستعباد استمر عبر التاريخ في العالم العربي والإسلامي حتى أواخر القرن العشرين، بل إنه ما يزال مستمرا في بعض المناطق مثل اليمن وغيره

البوابة:  كيف لا تكون الخلافة نظاما دينيا، ونحن نقرأ في آثارنا أن من مات بغير بيعة مات ميتة الجاهلية، ثم ألا تعد المواثيق والمعاهدات وحتى الحروب التي قامت في عهد الرسول عليه السلام أكبر دليل أن الإسلام ينادى بمفهوم الدولة حتى في بداياته؟

سعيد جاب الخير: الأحاديث كتبت بعد الرسول (ص) بأكثر من قرن أو قرنين حسب الأقوال، لهذا هي نفسها محل تهمة لأنها داخلة عندي ضمن منظومة الفقيه التي شرعنت للدولة الدينية أو "مؤسسة الخلافة". من هنا فهي ليست مصدرا للمشروعية الدينية في المطلق، يعني لا بد أن نقرأها من زاوية نقدية حادة وصارمة. وفي هذا السياق نجد من الطبيعي جدا أن تأمر المنظومة الحديثية بطاعة الأمراء وبيعتهم والوفاء ببيعتهم الأول فالأول، بل إنها تأمر أيضا بقتلهم في حال بويع لاثنين منهم في وقت واحد. ومن المعروف أن كتب الحديث والسيرة كانت الدولة تتدخل في كتابة الكثير منها، كما روي عن أحد الخلفاء الأمويين الذي أمر بكتابة السيرة النبوية، فلما لم يجد في الكتاب ذكرا لفضل بني أمية، أمر بتحريقه. والحادثة مثبتة في الكتاب بتفاصيلها. أما الحروب التي خاضها النبي (ص) والمعاهدات التي عقدها، فهي لا تدل على وجود دولة لأننا نطرح الأسئلة الآتية : إذا كان الرسول أسس دولة، فما هي حدود هذه الدولة ؟ أين تبدأ وأين تنتهي ؟ ولماذا لم يؤسس الرسول جيشا نظاميا ؟ لماذا كان جيشه عبارة عن ميليشيا من المدنيين الذين يحاربون بأسلحتهم الشخصية ويتركون مشاغلهم وأعمالهم اليومية ليذهبوا الى ساحة المعركة ؟ ولماذا لم يترك الرسول نصوصا واضحة تبين طبيعة النظام الذي تسير عليه دولته ؟ وإذا كان محمد (ص) قائد دولة فلماذا لا نجد القرآن يخاطبه بألفاظ الإمارة التي كانت تستعملها العرب للحديث عن السياسيين، مثل "الأمير" و"السلطان" و"الملك" ؟ مع أن القرآن استعمل هذه الألفاظ في أكثر من مناسبة لكنه لم ينسبها أبدا الى النبي بل كان يخاطبه فقط بألفاظ "الرسول" و"النبي" و"الهادي" و"السراج المنير" و"رحمة للعالمين" و"البشير" و"النذير" الى غير ذلك. من هنا أرفض تماما أن يقال أن محمدا (ص) أسس دولة لأنه لا دليل على ذلك في النصوص. ولأن كل التنظيمات التي أنشأها لم تكن تنظيمات دولة، بل كانت مجرد وسائل لحماية الرسالة وتأمين تبليغها ليس أكثر. وعلى هذا الأساس أسس جيشا (غير نظامي) وحارب من وقفوا في طريقه واعتدوا على حريته ومنعوه من إتمام مهمة التبلي

البوابة: بالعودة إلى كتابك، نجدك تلمح أو ربما تصرح على أن المنظومة الصوفية لم توجد إلا كردة فعل لمنظومة الفقيه. هل يقدم التصوف إسلام آخر غير الذي شرعنته المذاهب المعترف بها أو حتى تلك المختلف فيها؟

سعيد جاب الخير: بالفعل لأن منظومة الفقيه بشكل عام كانت دوما تمثل الإسلام الرسمي أو الخطاب الديني الرسمي. صحيح أن دولة "الخلافة" أو "مؤسسة الخلافة" سقطت، لكن منظومة الفقيه التي كانت تدعمها استمرت عبر التاريخ، بل إنها دخلت في خطاب الدولة الوطنية بعد مرحلة التحرر من الاستعمار الغربي. من جانب آخر نجد أن الإسلام الصوفي كان عبر التاريخ كله وما يزال يمثل الإسلام الشعبي، ولهذا نجده يختلف كثيرا في طرحه ووهيلليته وخطابه عن منظومة الفقيه (الإسلام الرسمي) بل إنه يختلف عنها حتى في نتائجه، لأننا وجدنا كثيرا من الذين يمارسون الإرهاب ينطلقون من منظومة الفقيه أو الإسلام الرسمي الأورثوذوكسي، يعني من أقوال ابن تيمية وابن القيم  وغيرهم من القدماء والمعاصرين، لكننا لم نجد أبدا ولن نجد أحدا يمارس الإرهاب انطلاقا من الإسلام الصوفي، لأنه يختلف جذريا عن منظومة الفقيه. ولهذا أيضا نجد أن إسلام أجدادنا وجداتنا هو أقرب بكثير إلى الإسلام الصوفي الشعبي منه إلى الإسلام الرسمي أو منظومة الفقيه.

البوابة:  إلى وقت متأخر، كنا نملك مفهوما مغايرا للمتصوفة: دراويش وفي أفضل الاحتمالات نساكا مسالمين إلى درجة الخنوع. في الجزائر ارتبطوا بالطرقية، ونزر إليهم على أنهم مهادنين جدا حتى نسبت إليهم أقواويل على شاكلة" فرنسا قدر ولا يجوز رفع القدر أو الاعتراض عليه"...

سعيد جاب الخير: هذه الصورة السلبية الشائعة مع الأسف عن الصوفية لها عدة أسباب، منها التحولات التي طرأت على الحالة الصوفية بفعل الاستعمار وسياسة التجهيل المنهجي التي اعتمدها، ومنها الاضطهاد والتهميش المتعمد اللذين مارستهما الدولة الوطنية ضد الطرق الصوفية وشيوخها في الجزائر بعد الاستقلال، وقد وصل الحد في هذه الممارسات الى سجن ونفي بعض الشيوخ وغلق بعض الزوايا وهدم بعضها ومصادرة الكثير من الأراضي والعقارات والأملاك الوقفية التابعة لها، الأمر الذي لم تفعله حتى الإدارة الفرنسية. ومن الطبيعي عندما تترك القاعدة الطرقية معزولة عن شيوخها ويمنع نشاطها وتعطل الزوايا، من الطبيعي جدا في هكذا أوضاع أن تنغلق الحالة الصوفية علىى نفسها وتشيع عنها تلك الصورة السلبية. أما في الجانب التاريخي، فإننا نجد وبإجماع المؤرخين (إلا المكابرين منهم) أن الطرق الصوفية هي التي قادت المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الفرنسي بل إنها قاومت الظلم حتى في العهد العثماني في الجزائر، ويكفيني دليلا على ذلك أن أحد أكبر قادة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال ومؤسس الدولة الجزائرية الحديثة هو الأمير عبد القادر الصوفي الذي ينتمي الى الطريقة القادرية، وان الثورة التي انطلقت ضد الظلم العثماني في الجزائر والتي كان مركزها الشرق الجزائري والشهيرة بثورة بن لحرش، كانت منطلقة من عمق الطريقة الدرقاوية الشاذلية والطريقة الحنصالية الشاذلية، وقد كانت هاتان الطريقتان مشهورتين بشدة رفضهما ومقاومتهما للظلم حيث كان. لكن التحولات التي طرأت على الحالة الصوفية بعد انتهاء مرحلة المقاومة الشعبية، كرست مفاهيم ومقولات القدرية والجبر بين بعض الطرقيين ولا أقول كلهم، لأسباب معروفة وواضحة للجميع، وهي عموما تخدم بقاء الاحتلال.

البوابة: هل يعني ذلك أن الطرقية لم يكونوا متصوفة؟

سعيد جاب الخير: التصوف هو الآخر طرأت عليه تحولات تاريخية، حيث انتقل من مرحلة جيل الزهاد الأوائل من أمثال أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وتلاميذهم من التابعين أمثال الفضيل بن عياض وعبد الله بن المبارك، الى مرحلة جيل الصوفية من أمثال السري السقطي والحارث المحاسبي وعبد القادر الجيلاني ومعروف الكرخي والشبلي والحلاج وذي النون المصري ورابعة العدوية وغيرهم. بعد هؤلاء وبداية من القرن الخامس الهجري تحول التصوف من حالة فردية متمركزة في الرباطات الى حالة جماعية مؤسسة ومنظمة، وذلك من خلال ظهور الطرق الصوفية التي تمركزت في الزوايا والخلوات، حيث ظهرت القادرية كأقدم طريقة صوفية بهذا المعنى المؤسس في التاريخ الإسلامي. ثم ظهرت الطرق الأخرى كالمدينية والشاذلية بفروعها المتعددة وغيرها. من هنا فالطرقية صوفية بالتأكيد بل هم ثمرة المسار الصوفي التاريخي، لكن هذا لا يعني أنهم معصومون عن الخطأ، لأن الحالة الزهدية مثل الحالة الصوفية الطرقية تعرضت لانزلاقات في بعض المراحل التاريخية تحت تأثير القمع والاضطهاد السلطوي والذي أدى كما نعرف جميعا الى قتل وإعدام الكثير من الصوفية بفتاوى الفقهاء كما حدث مع الحلاج والسهروردي والنسيمي وجامي وسيدي الحلوي وسيدي بن قندوز على سبيل المثال لا الحصر. لهذا مثلا وجدنا أن الصوفية بعد أن كانت نصوصهم مفتوحة في مرحلة الزهد، أغلقوها وجعلوا لها مفاتيح لا يعرفها إلا تلاميذهم ومريدوهم والمقربون منهم. وهذا يعني أن الصوفية يمارسون تصوفهم ويكونونه بقدر ما تسمح به الظروف التاريخية والسياسية المحيطة بهم في كل مرحلة.

البوابة: بصراحة، كيف ترى التحول الذي عرفته الجزائر منذ 99، حين قامت مؤسسة الرئاسة بإعادة الاعتبار للزوايا والطرق الصوفية.؟ أقصد هل احتاجت الممظومة الصوفية لتدخل السياسي، أم أن هذا أثر سلبا في أدائها؟

سعيد جاب الخير: شخصيا لا أؤيد دخول الطرق الصوفية في اصطفافات وتجاذبات الحالة السياسية، وقد قلت هذا الكلام وعبرت عنه في عدة مناسبات رسمية وغير رسمية. لكن الواقع غير ذلك، حيث نجد فعلا أن بعض شيوخ الزوايا دخلوا في هذا المجال وهو في رأيي لا يخدم التصوف ولا الطرق الصوفية ولا الزوايا على المدى البعيد. صحيح أن الرئاسة دعمت التصوف في الجزائر بشكل عام وأعادت له الاعتبار الى حد ما، لكني أتصور أن الحالة الصوفية كانت بحاجة فقط الى إطلاق حريتها في النشاط وعدم التضييق عليها كما فعل نظام الرئيس الراحل هواري بومدين. أتصور أن الاعتراف بالرسمي بالحالة الصوفية الطرقية وحريتها في النشاط، هذا وحده يكفي ليجعلها تؤدي الدور الديني والاجتماعي المنوط بها. أما دخلول الطرق الصوفية على خطوط السياسة، فلا أتصور أنه يخدمها أو يخدم أداءها ومستقبلها، مع العلم أنها اليوم بحاجة ماسة الى مراجعة خطابها واستراتيجياتها ووسائلها الميدانية، بما يجعلها في مستوى مخاطبة الجيل الجديد، وأتصور أن الطريقة العلاوية رائدة في هذا المجال بالمقارنة مع الطرق الأخرى.

* سعيد جاب الخير في سطور

كاتب صحفي وباحث في التصوف والطرق الصوفية، متحصل على شهادة الليسانس في الفلسفة والشريعة وأصول الدين من جامعة الجزائر. اشتغل 10 سنوات في قطاع التعليم التكميلي والثانوي ابتداء من سنة 1984 في مادتي الفلسفة واللغة العربية. كما اشتغل في عديد الصحف الجزائرية والعربية ، وله برامج إذاعية شهيرة في الجزائر باللغتين العربية. صدر له عن دار المحروسة في القاهرة : "التصوف والإبداع" العام 2007. وصدر له عن دار الفيروز في الجزائر: "الطرق الصوفية وإشكالية المرجعية الدينية في الجزائر".  شارك في العديد من الملتقيات الوطنية والدولية في مجال التصوف والطرق الصوفية والفن الصوفي والأدب الشعبي.