محمد الباجي بن حسونة قائد السبسي، إسم ملأ الدنيا وشغل الناس في تونس وخارجها. وسياسي من الوزن الكبير والحارق بالنسبة للتونسيين، كيف لا؟ والرجل قادم من عبق التاريخ ومن ثنايا الإرث البورقيبي الخالد، نسبة إلى الزعيم الحبيب بورقيبة الأب الروحي للتونسيين وقائد استقلالهم وباني دولتهم الحديثة. كما أن الرجل يمثل صورة من بورقيبة، المحنك في مقالب ودواليب الحكم والداهية السياسية، وبفضلها، تمكن حزبه الوليد "حركة نداء تونس" وبسرعة قياسية من هزم تنظيم الإخوان المسلمين فرع تونس أي حركة النهضة الإسلامية في انتخابات 26 أكتوبر 2014.

الباجي قايد السبسي أو "بجبوج" كما يحلو للتونسيين مناداته، تعبيرا منهم عن عمق مودتهم له وعن انبهارهم الكبير بشخصيته الاستثنائية. وكذلك عن صدمتهم الجميلة في هذا الشيخ التسعيني الخارق للعادة الذي تمكن بحكمته و بدهائه السياسي وبخبرته الطويلة على رأس الدولة التونسية من قلب جميع المعادلات السياسية في تونس وترجيح الكفة بين العلمانيين والإسلاميين، ثم التفوق عليهم بعد ذلك عبر صناديق الاقتراع في انتخابات تشريعية اعترف العالم بنزاهتها.

ولد الباجي قايد السبسي، و هو محام وسياسي تونسي، في 26 نوفمبر1926. وتولى منصب رئيس الحكومة في 2011 على إثر استقالة محمد الغنوشي. وتمكن على إثر ذلك وفور وصوله إلى قصر الحكومة من فك اعتصام القصبة المطالب باستقالة كامل أعضاء حكومة محمد الغنوشي على خلفية انتماء البعض منهم إلى النظام السابق. وكذلك بحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي وتشكيل مجلس تأسيسي وغيرها من المطالب الشعبية والسياسية التي كانت سيدة الموقف وقتئذ. ولكن، وفي مفاجأة أبهرت التونسيين والعالم آنذاك، تمكن قايد السبسي القادم لتوه لتولي مهامه كرئيس حكومة من فض اعتصام القصبة الشهير الذي أسقط سلفه محمد الغنونشي وتهدئة نفوس المواطنين الغاضبين والمحتجين الذين جاؤوا من كل جهات البلاد تقريبا للمرابطة في ساحة القصبة حتى تحقيق مطالبهم. لينهي هؤلاء إراديا وبطريقة سلمية ودون تدخل أمني اعتصامهم المذكور فور استماعهم إلى خطاب السبسي، الأمر الذي اعتبر خارقا وبمثابة المعجزة آنذاك بالنظر إلى حدة المطالب الشعبية وتوتر الوضع العام بتونس بعد سقوط نظام بن علي.

قبل 14 جانفي 2014 تولى السبسي المنحدر من عائلة قريبة من البايات الحسينيين عدة مسؤوليات سياسية عليا صلب الدولة التونسية في الفترة الممتدة من 1963 إلى 1991. حيث عمل بعد الاستقلال كمستشار للزعيم بورقيبة، ثم كمدير إدارة جهوية في وزارة الداخلية. ليتم تعيينه فيما بعد على رأس الأمن الوطني بعد إقالة وزير الداخلية وقتها إدريس قيقة على خلفية المحاولة الانقلابية ضد نظام بورقيبة التي أميط اللثام عنها في شهر ديسمبر 1962، ثم وقع تعيينه كوزير للداخلية عام 1965 بعد وفاة الطيب المهيري. كم تم تعيينه أيضا وزيرا للدفاع بتاريخ 7 نوفمبر 1969 بعد إقالة أحمد بن صالح. وبقي في هذا المنصب حتى بداية السبعينات، ليتقلد على إثر ذلك منصب سفير تونس بباريس.

ناضل قايد السبسي الذي درس الحقوق بفرنسا، أين تخرج سنة 1950 ليمتهن على إثر ذلك مهنة المحاماة سنة 1952 في الحزب الحر الدستوري الجديد. في عام 1971 جمد نشاطه في الحزب الاشتراكي الدستوري على خلفية تأييده إصلاح النظام السياسي. وقع رفته من الحزب في عام 1974 فانضم إلى المجموعة التي ستشكل عام 1978 حركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري. وقد تولى في تلك الفترة إدارة مجلة "ديمكراسي" المعارضة. رجع إلى الحكومة في 3 ديسمبر 1980 كوزير معتمد لدى الوزير الأول محمد مزالي الذي سعى إلى الانفتاح السياسي مع الإسلاميين. وفي 15 أفريل 1981 عين وزيرا للخارجية خلفا لحسان بلخوجة.

لعب الباجي قايد السبسي دورا هاما أثناء توليه منصب وزير الخارجية في قرار إدانة مجلس الأمن للغارة الجوية الإسرائيلية على مقر منظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط سنة 1985. ىفي 15 سبتمبر 1986 عوض الهادي بن مبروك على رأس الديبلوماسية التونسية ليعين بعدها سفيرا لدى ألمانيا الغربية. بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987 ووصول الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي إلى السلطة، انتخب السبسي في مجلس النواب عام 1989 وتولى رئاسته بين 1990 و 1991.

في 16 جوان 2012، وانطلاقا من هذه التجربة الممتدة في التاريخ وفي المناصب العليا بالدولة التي قلما أن تتوفر في شخصية سياسية تونسية أخرى في هذه المرحلة، قرر قايد السبسي السياسي المخضرم إعادة التموقع في المشهد السياسي بالبلاد بعد هيمنة حكم الإسلاميين تحت راية حكومة الترويكا وما شهدته تونس خلال تلك الفترة من انهيار للاقتصاد والأمن العام وانتشار الإرهاب والاغتيالات التي فتكت بجنود الجيش والأمن والسياسيين، ىإعادة التوازن السياسي بتأسيس حركة سياسية تحت اسم "نداء تونس" التي تدل تسميتها على معناها وهدفها الأساسي والمحوري هو التصدي لحركة النهضة و إنقاذ البلاد وافتكاكها من قبضة الإسلاميين التي أصبحت تهدد كيان الدولة ووحدة التونسيين وقيم جمهورية استقلالهم ومكاسبها.

بجبوج الذي سلم مقاليد الحكم إلى الإسلاميين احتراما لنتائج صناديق الاقتراع بعد نجاحهم في انتخابات أكتوبر 2011 ، اعتذر بعد ذلك بمرارة للتونسيين معترفا بخطئه في الدفاع عن حركة النهضة أمام المجتمع الدولي بقوله: " أعترف أنني ارتكبت خطأ فادحا وأعتذر". وأضاف السبسي أنه أقنع المجتمع الدولي بأن النهضة تمثل مثالا للحزب الإسلامي المعتدل ولكنه كان واهما. وفي فترة وجيزة تمكن حزب الباجي الوليد الذي ولد كبيرا في الحقيقة نظرا لحجم وثقل مؤسسه السياسي والاجتماعي والوجداني لدى التونسيين باعتباره وريثا شرعيا للزعيم بورقيبة، يتبنى نفس الأفكار التي تبناها المجاهد الأكبر و يتحدث أسلوبه ولغته ويتفكه فكاهة شبيهة بفكاهته ويلوح بنفس حركة يديه معبرا عن وعده ووعيده و حبه لتونس ودفاعه الشرس عن كيان الدولة ومدنيتها. وكذلك نظرا لثقل من التحق به من شخصيات سياسية وأكاديمية وثقافية ووطنية وغيرها من اكتساح الساحة السياسية بطريقة مهولة ومزلزلة في فترة زمنية قياسية، ليتصدر طليعة كل استطلاعات الرأي ومراكز سبر الآراء في نسبة سيطرته على المشهد السياسي بالبلاد.

دخل بجبوج أو "ثعلب" السياسة التونسية كما يراه أغلب التونسيين، نظرا لدهائه السياسي وحنكته التي لاتضاهى في إدارة الدولة معترك الصراع السياسي وجها لوجه مع حركة النهضة الإسلامية وحليفها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وتمكن حزبه "نداء تونس" المتصدر لكتلة المعارضة الديمقراطية إلى جانب الجبهة الشعبية من اقتلاع أظافر الإسلاميين والتصدي لمخططات تدميرية ممنهجة كانت تستهدف كيان الدولة و الوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي في تونس أثناء فترة حكمهم لا سيما بعد أحداث الاغتيالات التي طالت رموز سياسية . فتم تبعا لذلك إسقاط حكومة حمادي الجبالي على إثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد و حكومة علي العريض على إثر اغتيال الشهيد محمد البراهمي والجنود والأمنيين مما أدى إلى اندلاع أزمة سياسية عاصفة واحتجاجات شعبية من الشمال إلى الجنوب كادت أن تدخل البلاد في ما لا يحمد عقباه. وفي هذه المرحلة الصعبة من تاريخ البلاد برز دور السبسي في صورة المنقذ لتونس وأهلها من غول الإرهاب ومخطط تدمير كيان الدولة التي آمن بها التونسيون منذ الحركة الوطنية إلى جيل الاستقلال وبناء الجمهورية وحتى آخر رمق على شاكلة زعيمهم وقائدهم المجاهد الأكبر وكل من عمل مع بورقيبة من وزراء وغيرهم باستثناء قلة قليلة اختارت طريقا مخالفا، ربما.

قايد السبسي الذي يتميز بقوة الشخصية والجرأة ومقارعة خصومه بالحجة العلمية والتاريخية والسياسية و الدينية وبابتسامته الساخرة وكلماته المتهكمة التي يزلزل وقعها خصومه أسقط كذلك مشروع العزل والإقصاء الذي نادى به وسعى إليه الفاتحون الجدد بعد 14 جانفي 2011 مشددا على أن هذا المشروع سيدمر الوحدة الوطنية لأنه سيقصي فئة واسعة من التونسيين داعيا إلى تطبيق القانون على كل من أجرم في حق البلاد وأهلها دون تشف وبعيدا عن تصفية الحسابات السياسية الضيقة.

فاز حزب "البجبوج" أو "رائحة بورقيبة" كما يحلو للتونسيين مناداته بأغلبية المقاعد في البرلمان المقبل في الانتخابات التشريعية التي شهدتها تونس بتاريخ 26 أكتوبر 2014 متقدما على حركة النهضة، مما يخول له تشكيل الحكومة المقبلة ورئاسة البرلمان. في الأثناء أعلن قايد السبسي ترشحه للانتخابات الرئاسية التي تنتظم في الثالث والعشرين من نوفمبر 2014 وتبدو حظوظه وافرة جدا للفوز بمنصب رئيس الجمهورية المقبل منذ الدور الأول أو الدور الثاني، حيث يتوقع أن ينتصر الباجي قايد السبسي صاحب المقولة الشهيرة: "بحيث تحيا تونس" وهي مقتبسة عن الزعيم بورقيبة وتم اعتمادها كشعار رسمي لحملته الانتخابية، على صاحب شعار" ننتصر أو ننتصر" الرئيس المؤقت المنتهية ولايته منصف المرزوقي. ويؤكد متابعون أن البجبوج هو رجل المرحلة بلا منازع على خلفية كل ماتم ذكره آنفا وعلى خلفية أنه يمثل الزعيم المنقذ لتونس في الفترة الحالية والمقبلة نظرا لكل المخاطر التي تتهدد كيان الدولة في حد ذاتها. وتعتبر الأغلبية الساحقة من التونسيين أن قايد السبسي هو الوحيد القادر على التصدي لمخططات تدمير الدولة والذي بإمكانه الحسم في مكافحة الإرهاب لأنه من سلالة بورقيبة محرر البلاد وباني دولتها وعزتها وعاشقها الذي لا ينازع. وكذلك نظرا لخبرة السبسي الطويلة وحنكته في إدارة الدولة المستمدة بدورها من بورقيبة. ونظرا كذلك لما يمثله السبسي لدى التونسيين في غالبيتهم الكبرى من صورة مختزلة من شخصية زعيمهم.

في المقابل، يواجه قايد السبسي اتهامات بالتغول والهيمنة على كل مفاصل الدولة في حال فاز أيضا بكرسي قرطاج، مما من شأنه إعادة الدكتاتورية والقمع. وهي اتهامات موجهة له أساسا من الإسلاميين والقوى التي تسير تحت جبتهم. كما يواجه البجبوج اتهامات حول ممارسته لأساليب القمع عندما كان في السلطة وتحيط بتاريخه بعض الشبهات حول تعذيب المعارضين وغيرها من التهم الأخرى المتعلقة بحريات الرأي والتعبير والإعلام و المتاجرة بالبورقيبية وغيرها. هذه الاتهامات نفاها السبسي جملة وتفصيلا موضحا أكثر من مرة أنه لن يتغول ولن يكون الغول بالنسبة للإسلاميين مشددا على أنه لن يمارس الاستبداد أو الإقصاء وأن تونس في حاجة إلى التعايش بين العلمانيين والإسلامين حفاظا على الوحدة الوطنية.

قايد السبسي تعرض كذلك إلى تهديدات بالتصفية الجسدية وآخرها حادثة سيدي بوزيد. كما يواجه عراقيل بيولوجية وطبيعية بحتة بسبب تقدمه في السن، حتى أن بعض الجهات تشكك في مقدرته الصحية لإدارة شؤون الدولة وهو مانفاه السبسي أكثر من مرة مؤكدا أن الشباب ليس شباب الجسد والعمر بل شباب القلب والعقل. ومع ذلك يسير وريث بورقيبة بخطوات واثقة جدا وحثيثة نحو كرسي قرطاج مسنودا برصيد سياسي كبير وبإرث المجاهد الأكبر وما يمثله هذا الإرث من مكانة عالية وعاتية لدى التونسيين ومن رمزية وطنية وتاريخية وفكرية ووجدانية تبلغ حد القداسة أحيانا بالنسبة لتونس وشعبها عبر جميع مراحل تاريخها وهويتها و مؤسساتها وذاكرتها الوطنية وحتى في أبسط تفاصيل واقعهم اليومي الذي ظل متمسكا حد النخاع بالقيم والمكاسب البورقيبية ويعض عليها بالنواجد. ومن الطبيعي أن يظل متمسكا بهذه القيم التي تماهت حد التوحد مع شخصيته ومع تاريخه ومع كل حيثيات ذاكرته حتى استحال التفريق بينهما.