بالأمس كانت تلتقي الشعوب المغاربية على قواسم اجتماعية مشتركة، وكلما توسعت دائرة هذه القواسم، تجذرت العلاقة بين الناس، وانتشرت عادات وتقاليد وطقوس جديدة، تعمق الصلات، وتعطي للحياة ألقها، وعندها نقول عن الشعب المغاربي إنه شعب حي، لكن اليوم تغيرت سمات المجتمعات المغاربية، وأصبح المجتمع الاستهلاكي ألد أعداء القواسم الاجتماعية المشتركة، لأنه مجتمع يكاد يكون آلياً في كل سلوكياته، وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نجد فيه عادات وتقاليد مشتركة. لقد دخلت شبكة الإنترنت إلى حياتنا، ودخلت معها طقوس من نوع مختلف، طقوس تكاد تكون أقرب إلى نموذج المجتمع الاستهلاكي، بسبب انعزال مستخدمي الإنترنت عن العالم الفيزيائي، حيث يتحول عالم كل شخص، إلى حالة افتراضية، تمثل صورة الواقع (وليس الواقع) لكنها لا تنتمي إليه. 


**الانغماس في المجتمع الافتراضي:

في الماضي، كان الواجب الاجتماعي المغاربي، الذي يستند إلى طقوس وعادات معتمدة، يتطلب أن يشارك كل منا الآخرين في الأفراح والأحزان، في الأعياد والمناسبات، في السهرات والأعمال. كل ذلك ينتهي اليوم في زحمة الطقوس الافتراضية، التي جعلتنا نعيش طقوسنا الطبيعية تمثلاً، أي إننا نستنسخها، ونعيشها بطريقة مزيفة، فنحول التهاني والمشاركة بالأفراح إلى رسالة قصيرة عبر جهاز الخلوي، أو عبر صفحات شبكات التواصل الاجتماعي، وكذا بالنسبة للمناسبات الحزينة، ومناسبات النجاح والوصول بالسلامة والولادات والطاعة وغيرها. صار للشبكة العنكبوتية طقوسها وعاداتها، باقات الورد الإلكترونية، بطاقات التهنئة والمعايدة الإلكترونية، عباراتها الخاصة، ومن ثم أعراف التعامل مع هذه العادات. نكاد هنا أن نصل إلى مستوى الانسلاخ عن الواقع، لنبني واقعاً آخر يبعدنا كثيراً عن شرائح من بيئتنا المغاربية، ويجعل حياتنا بالنسبة لهم أقرب إلى الخيال، وصولاً إلى مجتمع افتراضي يعيش في عزلة تامة عن الواقع. 


**أعيادنا على الشبكة:

تبدأ احتفالاتنا وبخاصة الدينية، في طقوسنا الاجتماعية المغاربية بتبادل التهاني وتوزيع الحلويات، ويترافق هذا الطقس مع زيارات ومباركات تشغل الناس في الشارع والعمل والأماكن العامة، ويضاف إليها طقوس الختام وحلويات العيد، التي تقام عادة بالتعاون بين الأسر والعائلات والجيران. على شبكة الإنترنت أعيادنا الدينية تمر بطريقة مختلفة، حيث المواقع الإلكترونية التخصصية، وصفحات الفيسبوك وشبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، التي تقدم التوعية الصحية، وتجيب عن الأسئلة المرتبطة بالأعياد، وتنشر الأدعية، وتبدع في تصميم بطاقات المعايدة، التي تتيح لزوارها اختيار ما يناسبهم منها، وإرساله عبر البريد الإلكتروني، أو بطرق أخرى متعددة، إلى الأهل والأصدقاء. 


**غياب العادات التقليدية:

استطاع الإنترنت استحواذ اهتمام شريحة واسعة من المجتمع المغاربي، يشغل الشباب الجزء الأكبر فيها، فتحولت من مجرد مواقع مشتته هنا وهناك، إلى بيئة عمل وبيئة حياة، وبالتالي إلى مجتمع قائم على منظومة خاصة، قد تتلاقى في بعض مكوناتها مع الحياة العامة من حيث الشكل، وقد لا تتلاقى أبداً. إذا توجه أحدنا إلى نفسه بسؤال عن الطريقة التي سيمارس فيها طقوس المعايدة في الأعياد، سيكتشف أنه سيكون بعيداً عن طقوس الآباء والأجداد، وأنه أقرب لكتابة رسالة قصيرة على جهاز الهاتف النقال، أو نشر معايدة جماعية على حائطه في شبكة التواصل الاجتماعي، ليرد عليه أصدقاؤه في سطر التعليقات، ويقولون: كل عام وأنتم بخير. 


** نموذج مختلف:

دخل الإنترنت إلى حياتنا المغاربية بهدوء، ومن دون استئذان، وفعل فينا ما فعل، في واقع لم يجد فيه من يرفضه أو يؤطره أو يضعه في مكانه الصحيح. تحمل المهندسون والتقانيون مسؤولية الإنترنت وحدهم، حاولوا أن يقدموا التقانة الجديدة للمجتمع المغاربي، لكن أصحاب الشأن تخلوا عن مسؤوليتهم، فلم نرَ علماء الاجتماع ولا علماء النفس ولا الأكاديميين عموماً، يدرسون تأثيرات الإنترنت على المجتمعات المغاربية، سواء كسلوك أم كطريقة تفكير أم كنموذج تنموي، ولم يحرك المثقفون والكتاب وأهل الفكر أي ساكن في هذا المجال، بل اكتفوا بالنظر من بعيد، ومراقبة ما يحدث، من دون أن يفكروا ـ مجرد تفكير ـ بأهمية هذا التطور وانعكاساته على المجتمع المغاربي، السلبية منها والإيجابية، وصولاً إلى الحوادث الكثيرة التي نتجت عنها عادات جديدة في مجال الزواج عن طريق الإنترنت. 


**خطر الانفصام الاجتماعي:

نعيش في هذه المرحلة حالة تجمع نموذجين من الطقوس والعادات والتقاليد، ويتمثل الخطر الكامن في ذلك بحالة التعصب التي تقود كلا النموذجين إلى عدم التفكير بالوصول إلى توافق جامع أو إلى قواسم اجتماعية مشتركة في هذا الاتجاه. ها نحن ننفصل، من دون مؤامرة عالمية، ونبدأ انفصالنا بانفصام الشخصية الاجتماعية، التي تعني أننا ارتضينا العيش كل في شخصيته، وبعد مدة ليست طويلة، سنجد شريحة واسعة من شرائح المجتمع المغاربي، تعلن استقلالاً عن العادات والتقاليد الاجتماعية، وشريحة أخرى لا تستطيع التواصل معها، فقط... لأن علماء الاجتماع أحبوا النوم فناموا طويلاً. 


كاتب صحفي من المغرب.