على الرغم من الملاءة المالية الكبيرة التي يتمتع بها البنك المركزي الليبي، فقد خسر سعر الدينار خلال الشهرين الماضيين (ابريل ومايو) نحو 23 قرشا" مقابل الدولار الاميركي الذي ارتفع سعره من 1.27 إلى 1.50 دينار ليبي في السوق الموازية، وأصبح سعر صرف العملة الليبية يتحدد هبوطا" وصعودا" على وقع تطور التفجيرات الأمنية والقتال الدائر والتراشق بالصواريخ وقصف الطيران، فضلا "عن التهديدات المتبادلة بين الأطراف المتنازعة، الأمر الذي أدخل ليبيا في مرحلة مالية واقتصادية حرجة وخطيرة جدا" ، كما اعترف بذلك رئيس إدارة الأسوق المالية في البنك المركزي مصباح العكاري الذي توقع " انكماشا" كبيرا" في الاقتصاد ، واستنزافا لمزيد من الأموال، وتأخيرا في جميع المجالات لسنوات قادمة، رغم مدخرات ومصادر دخل بلاده الكبيرة.

وإذا كان محافظ البنك المركزي الصديق عمر الكبير، قد استطاع تأمين المركز الرئيسي للبنك من خلال علاقاته الشخصية، فقد أشار صراحة إلى أن وثيقة تأمين نقل الأموال من مطار معيتيقة بطرابلس إلى البنك تتطلب مبلغ 2.5 مليون دولار.

ومن هنا تبرز صعوبة العمل المصرفي في ظروف أمنية خطيرة، بعدما تعرضت سيارات نقل العملة وفروع المصارف إلى عمليات سرقة وسطو مسلح، مما أدى إلى إرباك كبير في عملية تزويدها بالأموال، خصوصا "بالنسبة للفروع التي تقع في مناطق نائية أو مناطق تعاني من اوضاع أمنية غير مستقرة، حتى أن العديد من موظفي المصارف قد تعرض إلى اعتداءات بالخطف والقتل والتهديد، مع العلم أنه يعمل في ليبيا حاليا "42 مصرفا تجاريا" ولديهم شبكة فروع تشمل المناطق الليبية كافة.

وحيال هذه التطورات وخطورتها اضطر البنك المركزي إلى العزوف عن امداد المصارف بحاجتها من السيولة ولا سيما من العملة الصعبة، ما أدى إلى أزمة مالية ونقص بالدولار في بعض قطاعات الاقتصاد، وساهم ذلك بالتالي بإضعاف سعر الدينار.  

     

سحب ودائع

مع موجة الخوف والهلع ، لوحظ اقبال عدد من الليبيين على سحب ودائعهم بالعملات المحلية والأجنبية من المصارف، وذلك خشية اندلاع المزيد من الاقتتال بين الأطراف المتنازعة، حتى إن بعض رجال الأعمال حذر من تكرار سيناريوهات بداية الثورة عام 2011، حين سحبت ودائع بقيمة عشرين مليار دينار ، مما اضطرت ليبيا في ذلك الوقت إلى بيع ما قيمته خمسة مليارات دولار من الذهب للحفاظ على الاستقرار المالي .

ولكن على الرغم من خسارة ليبيا 30 مليار دولار خلال العشرة أشهر الماضية، جراء تراجع انتاج النفط الخام من 1.4 مليون برميل يوميا" في يوليو/ تموز 2013 إلى أقل من 200 ألف برميل حاليا"، فإن لدى ليبيا احتياطي من النقد الاجنبي ما يكفي لتلبية احتياجاتها، مع الإشارة إلى أن هذا الاحتياطي قد تراجع من 130 مليار دولار حين اندلعت الاحتجاجات في العام الماضي إلى 110 مليارات دولار حاليا" ، وذلك نتيجة اضطرار البنك المركزي للاستعانة باحتياطاته لتمويل ميزانية العام 2014 التي تبلغ قيمتها 50 مليار دولار .

وفي اطار ارتياحه لملاءته المالية، يفخر البنك المركزي الليبي بتنوع احتياطاته النقدية ويطمئن بذلك الليبيين، وهي موزعة بين أموال نقدية، وودائع قصيرة الأجل، وسندات أجنبية، ومنها سندات سيادية وسندات تتمتع بتصنيفات عالية من دول أوروبية، ومساهمات بحصص في بنوك بينها بنك "اوني كريديت" وبنك خليجي ، وشركات تأمين ، وما يزال البنك المركزي يشتري أصولا "في الخارج ولكن بوتيرة أقل من السابق ، بسبب تراجع حجم أمواله واستمرار الخلل بين موارده ومدفوعاته، فهو يتلقى شهريا مليار دولار ، ولكنه يدفع 3.6 مليار دولار .

 

تجميد الاستثمارات

بعد ثورة الشعب ضد النظام القذافي، احتلت ليبيا في العام 2011 مرتبة متقدمة كبيئة جاذبه للاستثمار الاجنبي وواعدة للمستثمرين في السنوات المقبلة، لا سيما بعد تجاوبهم الكبير في دخول ورشة اعادة الاعمار وفي مختلف المجالات، لكن التحدي الأكبر كان ولا يزال يكمن في قدرتها على الاستمرار في المحافظة على الاستثمارات القائمة، بل وزيادتها .

سبق أن قُدر حجم الاستثمارات الأجنبية في ليبيا في عام 2010 أي قبل الثورة بــ 3.8 مليارات دولار، وقد تعرضت إلى نزوح واسع في العام 2011، قبل أن تعود بقوة بعد نجاح الثورة وعودة البعثات الاجنبية التي جددت الأمل في ضخ الدماء في شرايين الاقتصاد الليبي، ولوحظ أن الصين بدأت إعادة تشغيل نحو 26 شركة في 50 مشروعا" قيمتها 19 مليار دولار، في قطاعات مختلفة تشمل العقار والنفط والاتصالات، وعادت 13 شركة نمساوية من بين 25 شركة، كانت تعمل في ليبيا قبل الثورة، منها اثنتان تعملان في قطاع النفط، و11 شركة اكتفت بوجود متواضع لمراقبة الأوضاع، كما زارت ليبيا بعثات فرنسية وبريطانية وكندية، تركزت اهتماماتها في قطاعات النفط والصحة والانشاءات، ولتلبية الحاجة في تنفيذ المشاريع، شهد سوق العمل طلبا "كبيرا" للعمالة التي دخلت ليبيا من مختلف البلدان وخصوصا" العربية منها.

وكانت الآمال معلقة على نجاح النشاط الاقتصادي في العام 2012 ، ولكن جاء عام 2013 مخيبا" للآمال حيث بدأت الاضطرابات الأمنية في يوليو/ تموز ولا تزال مستمرة، مما أدى إلى تجميد معظم الاستثمارات ولا سيما التي تعود إلى إنفاق الدولة لتمويل المشاريع بعد أن تراجع حجم هذا الانفاق نتيجة تراجع ايرادات النفط.

 

انهيار الاقتصاد

بما أن النفط هو القوة الدافعة للاقتصاد الليبي، حيث يمثل 65% من الناتج المحلي الاجمالي و 96% من الصادرات، و 98% من إيرادات خزينة الدولة، فان تقليص انتاجه من 1.4 مليون برميل يوميا" في يوليو 2013 إلى أقل من 200 ألف برميل حاليا، بسبب الاضطرابات الأمنية ومنع التصدير، تكفي للتسبب بانهيار اقتصادي، ولكن يبقى الرهان على محاولات التوصل إلى اتفاق سياسي بين الحكومة وزعماء الميليشيات لتجنب تداعيات هذا الانهيار، وقد أبدي صندوق النقد الدولي تفاؤلا، بتعافي النشاط الاقتصادي الليبي مع عودة انتاج النفط والغاز إلى طاقتهما السابقة، والبالغة نحو 1.7 مليون برميل يوميا"، وبما يؤمن السيولة الكافية لانفاق الدولة وتمويل المشاريع الاستثمارية واعادة الاعمار، مع العلم أن قطاع الطاقة وحده بحاجة إلى 30 مليار دولار لكي يحقق قدرته القصوى ، كما ان المطارات والقطاع الصحي والبنية التحتية والاتصالات والسياحة بحاجة لعشرات المليارات من الدولارات .