هناك منطق سائد اليوم يقول إن حرية الشعوب وتطورها يقاسان حتما بواقع الإعلام فيها. إذا أخذ الإعلام مجالا كبيرا من الحرية فالمجتمعات آليا ستكون مجتمعات متطوّرة والعكس صحيح. فالإعلام هو سلطة وأداة ضغط عبرهما يمكن تعديل المسارات السياسية والاقتصادية للدول، كما هو أيضا أداة دعاية في المجتمعات المتخلفة لأصحاب المال أو السلطة، ويكفي الاطلاع على مؤشرات حرية الصحافة لنعرف واقع الدول، ومن بينها مؤشرات دولنا العربية التي تعتبر في أغلبها منارات في "تدجين" الإعلام وتطويعه لغايات بعيدة كل البعد عن رسالته التوجيهية الحقيقية.

وبالحديث عن المنطقة العربية لا يمكن فصل المغرب العربي باعتباره كيانا مركزيا وله ثقل سياسي وديمغرافي هام، وباعتباره أيضا جزءا من إقليم مازالت مسألة الحريات فيه متعثرة، رغم بعض الاجتهادات والتحولات التي فرضتها الظروف العالمية وضغوطات المنظمات الحقوقية الدولية، التي يبقى لها، رغم المؤاخذات الكثيرة عليها، دور في منح هوامش عمل تعود بالنفع على حالة الإعلام في المنطقة.

بالنسبة إلى المغرب العربي، لا يمكن واقعا أن نضع تقييما شاملا لحالة الإعلام فيه لاعتبارات مختلفة. والصورة فيه مازالت قاتمة؛ الظروف السياسة لكل بلد تجعل التقييم منفردا غير منطقي، لأن تصنيفات المنظمات الدولية لا تعترف بالمنطقة المغاربية ككيان موحد وتفصل كل دولة على حدة. لكن في العموم تحولات العام 2011، في المنطقة العربية ومنها الدول المغاربية قربت الوضعية حتى في الدول التي لم تعرف تغييرا سياسيا لكنها وجدت نفسها أمام حتمية التعديل الداخلي في علاقة بالإعلام عبر إعطائه هامشا من الحرية لم يكن موجودا، لكن رغم ذلك مازلت بعض التصنيفات تضعه في مراتب متأخرة سواء في مسألة الحريات أو في المحتوى الذي يبقى ضعيفا وربما حتى مبتذلا لا يرقى لكونه رسالة توجيهية مؤثرة في المجتمعات.

بالعودة إلى مؤشر حرية الصحافة   للعام 2020، سنحتاج وقتا لنصل إلى دولة مغاربية في سلم ترتيب الدول، حيث نجد تونس في المرتبة 73 خلف عدد كبير من الدول الإفريقية والآسيوية ذات التجارب المماثلة. وعلى الرغم من أن تونس تتصدّر الترتيب عربيا ومغاربيا، إلا أن وجودها في تلك المرتبة يؤكّد أن الوضعية ليست مثالية، رغم أن الحريات فيها بلغت درجات محترمة جدا، بفضل الكم الكبير من القوانين الممنوحة للإعلام. فالعمل الصحفي في البلاد مازالت أمامه مطبات كثيرة سواء في تعامل السلطة من خلال التضييقات الأمنية في العمل، أو حتى في تضييقات الشارع والاعتداءات المتكررة التي يتعرّض لها الصحفيون، لأن بعض المواطنين متقبلون لفكرة أن الإعلام يستهدف أطرفا مقربة له اجتماعيا أو سياسيا، بغض النظر عن هوية تلك الأطراف.

هناك إشكال آخر في واقع الإعلام في تونس، هو تقليدية الإعلام العمومي الذي مازال يعمل بشكل تقليدي أشبه بالإدارة وهذا جعله متأخرا حتى في مستوى المتابعة مقارنة بالإعلام الخاص الذي لا يبحث على الالتزام بقدر البحث عن الإثارة واستقطاب الجمهور بأي شكل من الأشكال. وبالحديث عن الإعلام الخاص تطرح مشكلة كبيرة تتعلق بسيطرة المال على أغلب المؤسسات، ما يجعلها رهينة لكل ابتزاز سياسي أو أن خطوطها التحريرية تخرج عن رسالتها الإعلامية نحو الابتذال والفضائحية بهدف كسب أكبر عدد من المشاهدين الذي يمنحها امتيزات الاستشهار، وهذا الأمر تنبه له دائما الهيئات الرقابية في البلاد.

بعد تونس، تأتي موريتانيا في المرتبة 94، والصحافة فيها ليست في وضعية جيّدة، حيث يعيش الصحفيون تضييقات مستمرّة تصل حد الاعتقالات عندما يتطرقون إلى الوضع السياسي أو ينتقدون الأداء الحكومي. ففي تقرير لـ"مراسلين بلا حدود" ضمن مؤشر 2020 لحرية الصحافة، ذكر أن العديد من الصحفيين يعملون دون عقود ولا يتقاضون رواتبهم بانتظام، مما يجعلهم عرضة لما يُصطلح عليه بـ "صحافة اليومي"، أي كتابة مقالات أو إنجاز تقارير صحفية مقابل تقاضي مبلغ مالي معين. كما أن الصحفيون يعيشون دائما تحت الرقابة الذاتية التي تكبّل أي إمكانية لتطوير قدراتهم، حيث غالبا ما يتم تهديد أي صحفي أو كاتب يتحدّث عن مواضيع المرأة والدين والفساد والجيش والعبودية.

في المغرب هناك أيضا إشكاليات في واقع الصحافة، حيث تنتقد أغلب التقارير الدولية تعامل السلطات مع الإعلاميين، وهو تعامل في الكثير من الأحيان ينتهي بالمحاكم والسجون وهذا فيها تعارض كبير مع مبدأ أساسي وهو الحرية، خاصة أن المغرب من الدول التي تعتبر أفضل في مستوى الممارسة أو النشاط السياسييْن، وفيها الكثير من الكفاءات في مستوى الصحافة المكتوبة تجعلها رائدة في المجال الإعلامي.

الجزائر أيضا مازالت تتحسس طريق التحرر في الإعلام، عبر سن قوانين جديدة صيغت بعد الحراك الشعبي الذي غيّب الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة عن الواجهة، لكن هذه القوانين غالبا ما تسقط أمام اختبار الشارع، حيث تمارس الكثير من التضييقات من خلال المنع من العمل في الشوارع أو إغلاق بعض المؤسسات الإعلامية، بشكل ارتجالي غير منضبط لأي قوانين، وهذا ما جعل الجزائر تحتل المرتبة 146 في مؤشر حرية الصحافة العالمي للعم 2020.

أما بالنسبة إلى ليبيا فالأمر مختلف تماما. ما وقع بعد 2011، أشبه بساحة منفلتة تحكمها الأمزجة والرغبات والأموال الجاهزة لتأسيس منابر إعلامية، لكن في جوهرها بعيدة كل البعد عن الإعلام. فالمؤسسات الكثيرة التي انتصبت كان عبارة عن شركات دعاية لأطراف سياسية، بل هناك قنوات تأسست لفائدة جماعات إسلامية متطرفة تحرّض على العنف والانتقام ونصبت نفسها محاكم شعبية لبعض الأطراف، وهي بالأساس قنوات تلفزيونية مدعومة من أطراف إقليمية أهدافها ليست خفية على الليبيين وتخوض صراعا بشتى الطرق من أجل فرض أجنداتها.

خلاصة ما ذكر إذن أن الإعلام المغاربي مازال بعيدا عن كونه سلطة تعديلية موجهة وناقدة لما هو سائد، وخاضع دائما لخيارات إما سياسية ممثلة أساسا في الأنظمة السائدة الباحثة عادة عن الدعاية، أو مالية يمكن عبرها شراء الكثير من الأصوات لغايات خاصة، وهذا ما يجعله إعلام تقليدي متأخر كثيرا عمّا هو موجود في الأنظمة والدول المتقدّمة. وإذا استثنينا تونس وإن بشكل نسبي، كونها تقدّمت خطوات بعد 2011 في مجال الحريات، ومنح الإعلام مجالات للعمل الحر، فإن الإعلام في بقية الدول المغاربية مازال مكبّلا وتحكمه الأهواء الخاصة والإمكانيات المالية.