مغامرة الهروب من جحيم المعارك الدائرة في ليبيا، بين الإخوة الفرقاء، والتي لا أحد يعلم أسبابها أو أهدافها تتواصل بالنسبة إلى من تبقى من الجزائريين، في هذا البلد الجار، الذي تحوّلت الحياة فيه إلى جحيم..

"الشروق اليومي" التقت بإحدى العائلات الفارّة من بنغازي، حيث يباع السلاح مثل المواد الغذائية والألبسة، ولكن بأثمان بخسة، ونقلت شهادات أفراد مضى على بلوغهم الجزائر، يومان من الحيرة بعد أشهر من العذاب. 

يقول السيد حمودي بوقنسوس وهو جزائري، من الذين عانوا من العشرية السوداء في الجزائر فاختار الاستقرار، رفقة عائلته ببنغازي، حيث استأجر مقهى وفتح بيتا لعائلته، وبالرغم من الزلزال الأمني الذي ضرب ليبيا وبعد فشل عودته إلى الجزائر، قرر البقاء في ليبيا، عاملا هناك مع الجزائريين والليبيين، ولكن الوضع ازداد تعقيدا في الفترة الأخيرة وأصبحت رائحة الجثث وحالات الاغتصاب والاختطاف والتقتيل من دون سؤال أو جواب، تؤرقه وتطرح عليه السؤال عن جدوى البقاء في هذه الحالة، فقرر أن يعود إلى الجزائر بكل الطرق الممكنة وحتى غير الممكنة. 

رائحة الجثث في كل مكان

شيء جديد صار يعرفه السيد حمودي بعد أن أصبح الموت عنوان حياة في ليبيا، وهو رائحة الجثث. فقد بذلت السلطات الليبية الكثير من أجل ذرّ مواد كيميائية، لدحر هاته الرائحة ولكنها عجزت، خاصة أن الكثير من الجثث المرمية في الشوارع لا أحد يعرف أصحابها ولا حتى من تسبب في قتلها أو سبب قتلها، وصار الناس يقولون كلمة واحدة شائعة عن الإرهاب الأعمى في ليبيا، على أنه لا يشبه بقية الجماعات المسلحة فهو يقتل مباشرة أي شيء يتحرك أمامه ثم يسأل عن هويته، بينما بقية الجماعات المسلحة، تسأل قبل أن تقتل، كان قرار الهروب من بنغازي بالنسبة إلى عائلة بوقنسوس صعبا، فالصغيرة سالي دخلت الروضة وصارت تتكلم اللهجة الليبية، ولكنه حل لا مفر منه، لا يمكن أن تعيش العائلة في بيت تتهاطل من حوله الصواريخ، ولا صوت يعلو فيه سوى طلقات الرصاص. الكهرباء يغيب أحيانا عن أحياء بنغازي لمدة 76 ساعة والماء أيضا. العائلات الجزائرية والتي لا يزيد عددها عن 30 عائلة في منطقة بنغازي صارت معرضة لأن لا تأكل لمدة زمنية طويلة، المستقبل صار أكثر سوادا وتوجد حاليا في بنغازي عائلة من عنابة عجزت عن توفير وسيلة للخروج من ليبيا بعد أن توفي رب الأسرة وترك الأم وبناتها الثلاث اللائي يعشن ما يشبه الضياع في بلد افتقد أهم وسيلة حياة وهي الأمن. السيدة العنابية وبناتها محاطة بحرس من أبناء ليبيا، وهي تنتظر فرجا لم يأت من السلطات الجزائرية منذ أن أغلقت القنصلية الجزائرية في بنغازي أبوابها.

كان لا بد لعائلة بوقنسوس أن تستعين برفاق من ليبيا، لأجل بلوغ مطار لبرق وهو المطار الوحيد الذي مازال يشتغل في ليبيا ويبعد عن مدينة بنغازي بحوالي 250 كلم، بعد أن أغلقت المطارات الكبيرة في بنغازي وطرابلس، ومنه إلى مطار قرطاج بالعاصمة التونسية حيث تم إجلاء الآلاف من التونسيين والجزائريين والمصريين وحتى السوريين الذين هربوا إلى بنغازي بعد تدهور الوضع الأمني في سوريا فوجدوا ما هو أشد، وحالة المطار لا تختلف عن أماكن الأشباح وذات الطائرة تتعطل عن موعد إقلاعها لمدة قد تصل إلى يوم كامل، وقد تحمل من كل الجنسيات.

كانت السفرية من بنغازي إلى مطار لبرق محفوفة بالمخاطر، القافلة التي ضمت عائلة بوقنسوس المنحدرة من قسنطينة وسيدة أخرى من نفس المدينة، تفادت الطرقات الرئيسية لأنها مغروسة بعشرات الحواجز المزيفة، ومع ذلك لم تنقطع رائحة الجثث ولا صوت الرصاص عن حواس العائلة المرعوبة، التي عبرت عبر قرى ومناطق ساحلية أصبحت مستعمرات بالكامل لأنصار الشريعة.

هذا حال الجزائريين.. فكيف حال الجزائريات؟

أصعب ما في ليبيا، في هذا الوضع الأمني المعقد، هو أن تكون امرأة، فما بالك أن تكون هاته المرأة أجنبية.. تروي السيدة نرجس الهاربة من ليبيا، عن معاناة الجزائريات.. كنا مثل الماجدات نعيش في هناء مع أخواتنا الليبيات وبقية الجنسيات العربية، ولكن الوضع الأمني جعل الحياة مستحيلة.. تنفجر باكية وبصعوبة تسترجع أنفاسها.. لقد بلغ السيل الزبى.. صارت القذائف تتهاطل على منزلنا.. منذ أسبوع فقط قصفت مجموعة من المسلحين بنكا مجاورا لمنزلنا فتفتت الزجاج على رأسي وعلى رأس ابنتي، عندما يخرج زوجي بحثا عن لقمة العيش، يبدأ خوفي من أن لا يعود، ومن هجوم المجهولين على البيت، كل النساء يخشين من الاغتصاب ومن السرقة.

وتركز السيد نرجس على أن حكايات الاغتصاب الجماعي والفردي صارت مثل أحاديث الرعب التي تؤرق كل النسوة، سيكون من سوء الطباع عدم تذكر أيام ما قبل أحداث ليبيا، يمكن أن تذرف الدموع على ليبيا بمجرد أن تلقي بنظرة من نافذة البيت، عربات مجرورة مليئة بالأسلحة، ثمن المسدس المستقدم من تركيا بمبلغ 150 دينار ليبي، والكلاشنكوف القادم من كل بلاد العالم بمبلغ 1500 دينار ليبي، وهي في متناول كل من يدفع، وبإمكانه استعمالها في كل مكان وزمان، بل إن البيع يتم بأعلى صوت من دون أن يجد بائع السلاح أي حرج، ويبقى السلاح بأيدي الليبيين فقط لأنه ممنوع عن أي أجنبي، تقول السيدة نرجس إن التوجه إلى المستشفى خطر وركوب سيارة الأجرة خطر، الاغتصاب يتهدد النسوة في كل مكان، بل إن النهوض من النوم في سلام صار مبتغى كل جزائري وليبي كما قالت السيدة نرجس.

يعود السيد حمودي إلى أربعة أيام قضاها في السجن لأنه خرج ليلا يبحث عن لقمة العيش، ووصف السجون بالجحيم لأنها مليئة بالأفارقة المصابين بمختلف الأمراض الخطيرة، ويتذكر أياما لا تنسى، في نوفمبر 2009 عندما حقق الخضر انتصارهم الشهير في أم درمان على حساب المنتخب المصري.. الليبيون ارتدوا قمصان زياني وعنتر يحيى وبلحاج، أقاموا الأفراح حتى خيل لزائر ليبيا أنه في المدن الجزائرية، وتكرر نفس الشعور والأحداث خلال كأس العالم الأخيرة في البرازيل، حيث أقام الليبيون مواكب فرح بعد الفوز أمام كوريا الجنوبية، وتحول التعادل أمام روسيا الذي مكّن المنتخب الجزائري من تحقيق التأهل للدور الثاني إلى حدث وطني في ليبيا، وتابع الليبيون بحماس منقطع النظير المباراة البطولية أمام منتخب ألمانيا ومنهم من ذرف الدموع بسبب الهزيمة القاسية.. وكلها صور رسمت حقيقة العلاقات بين الجزائريين والليبيين التي لم تتزعزع أبدا.

بقيت المشكلة المؤرقة هي ما بعد العودة إلى الجزائر، المسكن والشغل، بعض العائدين من الذين رفضوا الحديث عن معاناتهم في ليبيا قالوا لـ "الشروق اليومي" بأنهم يشعرون بأن حالهم لا تختلف عن اللاجئين الماليين والسوريين الذين ملؤوا الشوارع.. بينما وصفت عائلة السيد حمودي حالتهم بالعودة من الضياع في ليبيا.. إلى الضياع الوطن.

 

- الشروق الجزائرية