أجساد مفتولة تتحرّك بخفّة، فوق إحدى حلبات الملاكمة في غوما شرقي الكونغو الديمقراطية، وتتبادل اللكمات بقبضات قوية لا توحي بأنّ أصحابها مجرّد هواة أرادوا استثمار  قدراتهم القتالية التي تعلّمها الكثير منهم أثناء القتال ضمن المجموعات المسلحة الناشطة شمال وجنوب كيفو وفي رواندا المجاورة. 

 وتحتضن مدينة غوما، أكبر مدن إقليم شمال كيفو التي تشكّل مسرحا للصراعات المسلحة، مسابقة "الكونغو بوكسينغ" بتنظيم من رابطة الملاكمة بإقليم شمال كيفو، والتي انطلقت منذ الثلاثاء، وتتواصل حتى السبت المقبل. وقد شهد اليوم الافتتاحي للمسابقة انتظام 9 مباريات بين ملاكمين دون الـ 30 عاما، معظمهم يصعدون على الحلبة لأول مرة، بما أنّهم غالبا ما يجرون تدريباتهم في فضاءات غير مخصصة لممارسة مثل هذا النوع من الرياضات القتالية، من ذلك المساحات المفتوحة أو البناءات المهجورة أو في أيّ ركن من بعض الأحياء الشعبية.

ملاكمون من طراز خاص جدا، واختيارهم للملاكمة يتناغم، بشكل أو بآخر، مع ما يحملونه في جرابهم من ماضي غير مألوف بالنسبة للكثيرين، بما أنّ البعض منهم كان ينتمي للمجموعات المسلحة الناشطة في أقاليم مختلفة من البلاد، على غرار ميليشيا الـ "الماي ماي"، والتي تشكلت منذ 15 عاما في  منطقة كاتانغا (جنوب) كرد على غزو القوات البوروندية والأوغندية والرواندية للمنطقة في إطار حرب الكونغو الثانية (حرب العدوان كما يسميها الكونغوليون) عام 1998. وفي واقع الأمر، فإنّ معظم هذه الميليشيات تشكّلت، في البداية، كمجموعات للدفاع الذاتي، قبل أن تفرض نفسهم كحاكم وصاحب نفوذ على المناطق الناشطة فيها، وترتكب انتهاكات جسيمة بحقّ سكانها.

شيتو موك باكيو، كان في يوم من الأيام أحد الأطفال الناشطين ضمن تلك المجموعات، واليوم، يبلغ من العمر 25 عاما، ويزن 51 كيلوغراما، كما أنّه خاض، حتى الآن، 5 مباريات محترفة، وذلك إثر انتدابه في سن الـ 13 من قبل إحدى الميليشيات في بونيا (شرقي الكونغو الديمقراطية)، حيث أمضى 4 سنوات من طفولته قبل أن يقرر الانضمام إلى نادي الملاكمة في حي بيرير الشعبي بغوما.

باكيو قال للأناضول: "للهروب مما عشته في السابق، آتي إلى هنا لأفجّر طاقتي في كيس الرمل المخصص للتمارين"، مضيفا إن ذلك يمكنه من مشاركة تجربته مع بعض الشباب  الذين خبروا نفس تجربته، حتى "لا يرتكبوا نفس الأخطاء" التي ارتبكها".

وبأسف ترجمته ملامحه المنقبضة، يذكر باكيو الوقت الذي أمضاه صلب المجموعة المسلحة، والذي شكّل بالنسبة له كابوسا قد لا يفارقه حتى الممات، على حدّ قوله. فانضمامه لهذه الميليشيا ظل نقطة سوداء في حياته، وأثر على صورته بين أبناء الحي، وما يفعله في الوقت الراهن، هو محاولة لطمس معالم ماضيه، وبثّ انطباع مغاير عنه.

باكيو هو اليوم أب لطفلين، وقد مكنته الملاكمة ومهنة الميكانيك التي يمارسها في بعض الأحيان من إعالتهما، حيث يقول بشأن ذلك: "لقد كنت محظوظا لأني التقيت بشخص طيب،  طموحاته تتطابق مع طموحاتي، هو مدربي الذي كان بدوره من الأطفال الجنود وقد جمعتنا تجارب الماضي".

أما بالنسبة لمنظمي دورة "الكونغو بوكسينغ"، فوحدها الروح الرياضية من تحقّق النصر في النهاية. جون، الناطق الرسمي باسم الجهة المنظمة قال في حديث مع الأناضول، مكتفيا بتقديم اسمه الأول: "نرغب في دعم السلام بين شباب شرقي الكونغو الديمقراطية والشباب الرواندي.. لا يهم من الفائز، لكن المهم هو أن تقدّم كل ما لديك، لأننا نعشق رياضة الملاكمة، كما أنه لا ينبغي أن ننسى أن البلد الذي احتضن مباراة القرن بين محمد علي كلاي وجورج فورمان (مباراة دارت في 1974 بكنشاسا بين فورمان الذي لم ينهزم حينها منذ 40 عاما وكلاي، وانتهت بفوز الأخير بالضربة القاضية في الجولة الثامنة).

وبغية تحفيز الملاكمين الهواة، يتحصل كل منهم على مبلغ 10 دولارات، لتسديد مصاريف النقل، إلى جانب حقه في الاحتفاظ بالملابس الرياضية التي خاض بها المباراة.

ومن المنتظر أن تجري المبارايات النهائية لهذه الدورة يوم السبت المقبل، وستجمع بين أفضل ملاكمين من الكونغو الديمقراطية وأفضلهم من رواندا، في مسابقة رمزيتها كبيرة،  تبرهن لساسة البلدين المتجاورين واللذين اتّسمت علاقتهما بالتوتر طيلة العشرية الأخيرة، على أن التعايش والسلام، أمر ممكن للغاية.