على بعد آلاف الأميال من "موطنها"، احترقت 700 قطعة أثرية مصرية في متحف مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية.. وكأن الغربة وحدها لا تكفى.


لا نعرف على وجه الدقة كيف وصلت الآثار المصرية إلى المتحف البرازيلي، لكن البيانات الرسمية تقول إن بعضها كان ضمن مقتنيات الإمبراطور بيدروم الأول، اشتراها في القرن التاسع عشر من تجار الآثار، بالإضافة إلى 5 مومياوات، إحداها موجودة داخل تابوت وأهداها الخديوي إسماعيل إلى الإمبراطور بيدروم الثاني أثناء زيارته لمصر خلال القرن التاسع عشر، وكانت تجارة الآثار وإهداؤها وحتى العبث بها أمراً شائعاً وطبيعيا في تلك الفترة.

لكن التلف الكامل خبر مؤكد، بحسب مصطفى وزيري، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار: "في ما يتصل بالمعلومات المتوافرة بملابسات الحادث والخسائر الخاصة بالآثار المصرية، أفادت وزارة الخارجية أنه طبقًا للتقرير المبدئي فإن النيران امتدت لكافة أقسام المتحف ودمرت كافة محتوياته، ودمرت قاعة المقتنيات الفرعونية، والتي كانت تحتوي على 700 قطعة".

تصريحات وزيري جاء بها أيضاً تأكيد على أن وزارة الآثار في تواصل مستمر ودائم مع وزارة الخارجية، والتي بدورها تتابع مع السفارة المصرية في البرازيل والقنصلية المصرية في ريو دي جانيرو حالة الآثار المصرية من أجل الحصول على كافة المعلومات الصحيحة واللازمة عنها.

وأكد وزيري أن القنصلية المصرية تبذل جهوداً مكثفة للتواصل مع رئيس قسم المصريات في المتحف لمعرفة توصيف دقيق وكامل للأضرار التي طالت القطع المصرية، مشيراً إلى أن السفارة والقنصلية المصرية تتابعان الموقف عن كثب لمعرفة نتائج الدراسات ومعرفة ملابسات الحادث.

بيانات عديدة خرجت من الخارجية والآثار، منذ الإعلان عن الحادث، الحضور الرسمي لافت جدا، ربما لأن الكارثة خارجية، لأن أحداً آخر هو المتهم بالتقصير والإهمال هذه المرة.

الحماس الرسمي وصل إلى حد مطالبة زاهي حواس، أحد أبرز الوجوه الرسمية في مجال الآثار، بإشراف مصري على القطع الأثرية المصرية في متاحف العالم!

يحتاج حواس لمن يزيح الغبار عن ذاكرته بالتأكيد، خصوصاً أأن الحادث يأتي في الوقت الذي يحيى فيه الوسط الثقافي المصري ذكرى رحيل 50 من خيرة أبناء المسرح المصري، بينهم كتّاب ونقاد ومخرجون وأساتذة متميزون، غيبهم الحريق جميعاً في مسرح بني سويف في أيلول/سبتمبر 2005. الذكرى المؤلمة بعيدة، لكنها ما زالت حاضرة بكل تفاصيلها؛ مسرح متهالك لم يكن مجهزاً لاستقبال كل هذا العدد -أكثر من 150 فرد- ولم يكن مجهزاً بالطبع بأي وسائل وقاية أو حماية لتدارك الأثر الذي أحدثه سقوط شمعة على ديكور المسرحية امتد للستائر ثم أتى على المكان وكل ما فيه.

التغطية الصحافية، وحتى التعامل الرسمي في بدايته تعامل مع الأمر كأي حريق عادي، لكن بمرور الوقت انتبه الجميع إلى هول المأساة وبدأوا يعرفون قيمة من التهمتهم نيران الإهمال: "محسن مصيلحي أستاذ الدراما في المعهد العالي للمسرح التابع لأكاديمية الفنون، والممثل والمخرج، الناشط بهاء الميرغني، كما غيبت النيران أسماء لامعة في عالم الكتابة والنقد المسرحي منها حازم شحادة أستاذ النقد بأكاديمية الفنون، وزميله مدحت أبو بكر، إضافة إلى نزار سمك، أحد مطلقي مهرجان نوادي المسرح، إضافة إلى أستاذ المسرح صالح سعد".. كارثة ستظل الحركة المسرحية تعانيها مدة طويلة.

ورغم فداحة الخسارة، إلا أن المسؤول الأول عنها لم يحاسَب، بل خرج بمسرحية استقالة سخيفة. لكنه أضاف إلى سجل الثقافة في عصره جريمة جديدة دانته فيها كل الجماعات الثقافية في مصر. حركة "أدباء وفنانون من أجل التغيير" كانت الأبرز والأوضح في موقفها من المحرقة وفي إدانتها للوزير والجهات الرسمية، من خلال بلاغها المقدم للنائب العام وقتها والذي ذكروا فيه الدمار الذي لحق بالثقافة المصرية على يد فاروق حسني، في المسرح والسينما والآثار ومجالات الكتابة والنشر و"العبث بالضمير الثقافي". وجاء في البيان: "لم تكن محرقة قصر ثقافة بني سويف التي أودت بحياة سبعين من المواطنين وخيرة شباب المسرح المصري، أولى الجرائم، وإن كانت الذروة في مسيرة بددت إمكانات مصر الثقافية خلال تولى فاروق حسني وزير ثقافة مصر المزمن. ولم يكن توجه المثقفين المستقلين إلى النائب العام للمطالبة بمحاكمته مع وزيري الداخلية والصحة بشأن هذه الكارثة، المرة الأولى التي يطرق فيها المثقفون باب النائب العام للشكوى من ممارسات وزير الثقافة ضد مستقبل الثقافة وتاريخها". وأضاف البيان بعد سرد مجموعة من ممارسات الوزير: "لذا يتمسك الموقعون على هذا البيان بمحاكمة هذا الوزير على كارثة ثقافة بنى سويف، ومصادرة ثروته الحالية، ويتمسكون باعتبار هذه المحاكمة مقياساً لمصداقية الحديث عن الشفافية واحترام القانون في هذا البلد"، وبالطبع لم يحدث شيء من هذا كله!

13 عاماً، رقم كبير، ربما لا يتذكر حواس فعلاً هذه التفاصيل كلها. لكن، وإن كان قد نسي هؤلاء أو ربما لا يعرفهم، فهل نسي وهو يطلب المراقبة المصرية على متاحف العالم أن واجهة المتحف المصري الجديد ما زالت تحتفظ بآثار الحريق الذي كاد أن ينهي حلم "المتحف الأكبر في الشرق الأوسط" قبل أن يبدأ؟! الحريق الذي كان في آخر أيام نيسان/إبريل الماضي وبدأ في "السقالات" الخشبية المثبتة لتجهيز الواجهة الخارجية لمبنى المتحف المصري الكبير في ميدان الرماية، حوالى الساعة 12.30 ظهرًا وقت الراحة الرسمية للعمال، وامتدت النيران إلى كامل الواجهة واحترقت الجهة الخارجية الغربية بالكامل، وأدى الحريق إلى تلف الطبقة العازلة المثبتة على الخرسانة ومجاري التكييف المعدنية، وخراطيم الوصلات الكهربائية وتهشم زجاج الواجهة، وكاد أن يمتد ليأتي على تجهيزات القاعات التي ما زالت قيد الإنشاء.

وعلى امتداد التاريخ المصري الحديث، كانت الحرائق الحدث الأبرز في سجل الثقافة المصرية، غيبت البشر والأثر، وقُيِّدت دائماً ضد مجهول. ففي 22 تشرين الأول/أكتوبر 1998، احترقت "المسافر خانة"، وراحت واحدة من أجمل وأندر الوحدات المعمارية الإسلامية من دون حساب. وفى 2002، شب حريق في منطقة باب العزب الأثرية، وفى 2008 تكرر السيناريو نفسه، واحترق مبنى مجلس الشورى التاريخي. وبعدها التهمت النيران طابقاً كاملاً من "دار الكتب" بعد إعادة افتتاحها بأيام، واحترق المجمع العلمي عقب ثورة يناير، وكالعادة أيضاً لم يحدث شيء.