انطلقت في العاصمة التونسية، وتحديدا داخل مقرّ المجلس التأسيسي، الاحتفالات الرسمية بمناسبة إصدار الدستور التونسي، حضرها زعماء دول عربية وغربية بينهم الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والرئيس اللبناني ميشال سليمان بدعوة من الرئيس التونسي المؤقت المنصف المرزوقي. كما حضر الاحتفال زعماء دول إفريقية مثل غينيا وتشاد والسنغال ومالي، إلى جانب مسؤولين رسميين وممثلي هيئات دولية وإقليمية.وشكر الرئيس التونسي المنصف المرزوقي في كلمته التونسيين على ما تحقق من نصر، حسب تعبيره من خلال القضاء على الدكتاتورية. أما مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي، فقد اعتبر الدستور الجديد نتيجة توافق بين الفرقاء السياسيين وتوفّق في إنهاء الحوار الوطني بنجاح، معلنا بذلك إعطاء الإذن بنشره، بصفة رسمية ونهائية، يوم الاثنين الموافق للعاشر من فيفري الجاري.

في المقابل، وعلى عكس هذه الصّورة التي تزعم أنّ تونس حققت انجازا تاريخيا، ونقلة ديمقراطية نوعية، وجدت مواقف أخرى متباينة ومناقضة تماما لما تمّ التسويق له. وأصحاب هذه الآراء، هم من أبناء الشعب التونسي، الذين اختلفت قراءاتهم بين مؤيّد ومعارض وربّما حتّى غير مكترث بما حدث. وهم أيضا من شرائح اجتماعية مختلفة، فنانون وسياسيون وعمّالا وطلبة.

الموقف الأوّل، مثلته عامّة النّاس، من طلبة وعمال وفقراء ومهمشين وعاطلين عن العمل وغيرهم، الذين حاولنا استطلاع آرائهم من خلال حوارات متعددة، ومتابعة كتاباتهم وتصريحاتهم في المواقع الالكترونية والصفحات الاجتماعية، حيث غلب على معظمهم عدم الاهتمام بهذا الحدث، في حين عبّر آخرون عن امتعاضهم ليقولوا بأنّ الدستور لا يمكن أن يوفّر لهم لقمة العيش، والاحتفالات مجرّد مسرحية تقوم بها الوجوه السياسية كي تنسيهم مطالبهم الحقيقية. أمّا البعض من الشباب فقد عمدوا إلى اتّهام المجلس التأسيسي والرئيس منصف المرزوقي والسياسيين المشرفين على الاحتفالات، فوصفوهم بالخونة الذين سخروا من الانتفاضة وسرقوا شعاراتها.أخبرنا عبد السلام العرقي، وهو طالب يدرس السينماء، عن تجاهل هذا الدستور مطالب الفنانين، ووصف هذا التجاهل بالأمر المتعمّد، الذي يدخل في إطار تهميش دور المثقفين، وتصحير الحياة الثقافية، من خلال عدم سنّ قوانين تساهم في خلق دور للنشر وتوفير فضاءات سيتمائية ومسرحية، كما أشار إلى الجانب المالي الذي يمثّل عائقا قويّا أمام معظم الفنانين الذين لم يتمكنوا من انجاز مشاريعهم الفنية والإبداعية.

من جانب آخر، التقينا بأحد أصحاب الشهادات العليا، وهو عاطل عن العمل منذ حصوله على شهادته الجامعية في سنة 2005، واسمه جميل رابحي، جاء إلى العاصمة التونسية بحثا عن شغل، فوجد نفسه مجرّد عامل في حضيرة بناء. وحين حاولنا أن نأخذ رأيه في الدستور الجديد، انفجر ضحكا كعلامة للسخرية والتهكّم الأسود، وقال بأنّه حتّى وان كتبته الملائكة، فإنّه سيظل رهين السلطة التي تستعمل قوانينه، ومادام لا ينصّ على حق الشغل بشكل صريح وواضح وقاطع، فإنه لا يمكن أن يمثل حلم الباحثين عن شغل وخاصّة من أصحاب حاملي الشهادات العليا.من جهته، عبّر لنا محمد علي النّوري، وهو رجل كهل يعمل كنادل في إحدى المقاهي، ليقول بأنّ هذا الدستور ليس دوستورنا، ويقصد بنون الجمع هذه، كافّة أبناء الشعب الفقراء، وأضاف بأنه دستورهم وحدهم، في إشارة منه إلى السياسيين وأصحاب المناصب الكبرى في الحكومة التونسية.

وحين التقينا بطالبة جامعية تدرس اللغة العربية في جامعة منوبة، انفجرت غضبا وهي تتساءل: " ماذا يفعل هؤلاء في المجلس التأسيسي الآن؟ هل حقّا يمكننا الاحتفال ونحن لم نكشف بعد عن الجهات السياسية التي تسببت في اغتيال الشهيدين محمد البراهمي وشكري بلعيد؟ كيف يمكن أن نستقبل التهاني من أردوغان ونستضيف رؤساء دول نحن نعرف أنّهم ينهبون ثروات بلادنا؟ هؤلاء جميعا خونة ولا همّ لهم إلا مصالحهم، هذا الدستور لا يمكن أبدا أن يمثلنا، ولا فرق بينه وبين الدستور الذي كان يسبقه، لماذا كلّ هذا التعب؟ هل من أجل هذه الأوراق التي جعلتنا نخسر الكثير؟".

وعلى عكس موقف هذه الطالبة الجامعية، صرّح لنا عبد المجيد عبدولي، وهو يشتغل كموظّف إداري بأحد البنوك، ليقول بأن الدستور الجديد انجاز عظيم من حقّ الشعب التونسي أن يفتخر به، وعبّر عن تفاؤله بمستقبل أفضل.وبالإضافة إلى هذه التصريحات، فوجئنا أثناء حديثنا مع العديد من التونسيين، أنّهم غير مكترثين، أبدا، بما يحدث، كما أنّ البعض منهم صرّح بأنّه لم يعرف أنّ هناك احتفالات بالدستور تقام هذا اليوم في المجلس التأسيسي، وحين حاولنا الاستفسار عن ذلك، أخبرنا وليد اليازيدي، وهو أحد المناضلين الذين واجهوا نظام الرئيس السابق، بن علي، بأنّه لم يعد يهتمّ أبدا بالشأن السياسي، لأنّ الانتفاضة تمّت سرقتها وأصبح يتكلّم باسمها من كانوا بالأمس أبواق دعاية للسلطة، كما وصفهم. وأخبرتنا أيضا حليمة المسعودي وهو امرأة في الخمسين من العمر تعمل كمنظّفة في إحدى نزل العاصمة، بأنّها لا تستطيع أن تواكب ما يحدث، نتيجة إرهاقها وتعبها في الشغل من أجل أبنائها.

أمّا الموقف الثاني فقد مثّله جملة من السياسيين، وهم بدورهم أعلنوا آراء مختلفة، فتيّار  المحبّة الذي ينتسب إلى الهاشمي حامدي، والذي عرف سابقا باسم العريضة الشعبية، كان قد عبّر عن سخطه وغضبه ورفضه لهذا الدستور، وحجّته في ذلك أنّه لم يستمدّ قوانينه من الشريعة الإسلامية. إضافة  إلى ذلك، ذهب العديد من الثوريين المتمسكين بانتفاضة 17 ديسمبر إلى توجيه نقد لاذع لهذا الدستور، ووصفوه بالمهزلة نظرا لأنّه مثّل وجها آخر غير وجه الانتفاضة التي طالبت بالشغل والكرامة والمواطنة. أمّا الوجه الآخر  للسياسيين، فهناك من بارك هذا الانجاز وفاخر به، وهناك من اعتبره الخطوة الأولى في التأسيس لدولة مدنية وديمقراطية، حتّى وان تضمن البعض من النقائص.

نكتشف من خلال ذلك، أنّ الشعب التونسي غير مقتنع بما يسمّى بالدستور، كما أنّه لم يحفل إطلاقا بالمواقف الدولية التي سعت الى وصف ذلك بالانجاز التاريخي، فقد قال الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، على غرار معظم الرؤساء الأجانب الحاضرين، إنّ الدستور التونسي هو الدستور الوحيد الذي يعتمد على الشباب كقوة لدعم البلاد، مشيدا به عبر الإشارة إلى أنّه ينص على التعددية وفصل السلطات وحرية المعتقدات، وكل ما يؤدي للديمقراطية.وتجدر الإشارة إلى أنه حتى قبل عقد مراسم الاحتفال المنعقدة بتاريخ اليوم، كانت معظم الآراء الدولية، قد أشادت بهذا الدستور واعتبرته نموذجا فريدا ومرجعا لجميع الشعوب العربية التي تشهد مسارات ثورية طيلة السنوات الأخيرة، وتمثلت هذه المواقف من خلال تصريحات بان كي مون الأمين العام الثامن والحالي للأمم المتحدة، وأردوغان رئيس الحكومة التركية، وأوباما الرئيس الأمريكي، وهو ما يعكس إجماع مختلف الآراء الدولية على هذا الدستور.

غلب  على هذا الاحتفال الطابع البروتوكولي والسياسي، والذي يبدو  أشبه بالمحافل الدولية الخاضعة للعبة عقد تحالفات جديدة، من شأنها التتويج بعلاقات جديدة بين الدول، أو تحويل لعبة التحالفات الاقتصادية والسياسية فيما بينها، خاصّة وأنّه منذ الإعلان عن انجاز هذا الدستور، عبّر صندوق النقد الدولي، عن استعداد منح تونس قروضا جديدة،ويالرغم من ذلك، وكما ذكرنا سابقا، استنادا إلى تصريحات عديدة، نصل إلى استنتاج يقول بأنّه لا وصاية على  الشعب التونسي، الذي كان في صورة مغايرة تماما لما حاولت جلّ الأجهزة السياسية، المحلّية والعربية والدّولية، أن تسوّقها، فهو إلى حدّ الآن ما زال ينتظر الأفضل من ذلك، لأنّ مساره الثوري جاء وفق شعارات اجتماعية قبل أن تكون سياسية.