لم يكن نهائي كأس الأمم الأوروبية الأخير مجرد مباراة في كرة القدم بين إنجلترا وإيطاليا، رغم أهميتها، فحسب. المباراة كانت أشبه بالحرب الخفية، بين منتخبين، الأول يشعر دائما أنه أصل كرة القدم عبر التاريخ ومتسلح بنرجسية ترى في الانجليز حالة متفردة ومتعالية على بقية الأمم الأوروبية، والثاني حامل لإرث القتال والإصرار وجمالية كرة القدم وحب الانتصار، بل كانت صورة قاتمة عن تعامل الإنسان الأوروبي الأبيض تجاه السود حتى الذين أصبحوا جزءا من تلك الثقافة، بعد أن كانت ردّة فعل الجماهير الانجليزية تجاه لاعبي منتخبها السود، مهينة وفاضحة لعقلية مازالت راسخة في اللاوعي الأوروبي أمام أول امتحان أخلاقي.

بالعودة إلى المباراة التي دارت على ملعب "ويمبلي" الشهير في لندن أمام 60 ألف متفرج، كان منتخب انجلترا أمام فرصة تاريخية للتتويج لأول مرة باللقب الأوروبي. المبارة بدأت منذ صباحات النهائي حيث امتلأت الشوارع القريبة من الملعب بعشرات الألاف وشهدت بعض المدن حتى مظاهر فوضى بسبب الحماسة المفرطة من جماهير معروفة بعنفها. وقد أسعفت ظروف المباراة الانجليز بأن يسجلوا منذ بدايتها ويشعلوا شوارع المملكة ويجعلوا حلم التتويج قريبا، خاصة أمام منتخب إيطالي يُعتبر ثقافة كاملة في كرة القدم.

https://highres.indexforce.com/2021/07/07-13/20210713141005appp--314875.h.jpg

وإلى حدود منتصف شوط المباراة الثاني لم يكن هناك ما يدل على نهاية سوداوية في شوارع لندن، إلى لحظة تعديل الإيطاليين للنتيجة وتوجه المباراة نحو ضربات الجزاء. لحظات قليلة قبل صافرة النهاية، قام المدرب الانجليزي بثلاثة تغييرات للاعبين يفترض أنهم متخصصون في ركلات الترجيح؛ اللاعبيون هم نجم مانشستر يونايتد "ماركوس راشفود" ذو الأصول الكاراييبية، زبوكايو ساكا ذو الأصول النيجيرية، وجودان سانشو ذو الأصول التريندادية، ومن سوء حظ اللاعبين الانجليز السود أنهم فشلوا في التسديد ثلاثتهم، لتكون هزيمة الانجليز على يدهم ويتوج الإيطاليون على أرض لندن، وتتحول الحماسة الأولى إلى مشهد بشع واجِهته الأساسية العنصرية التي لا طالما سوّق الأوروبيون أنهم بلغوا أشواطا كبيرة في تجاوزها..

بعد المباراة مباشرة خرجت الجماهير الانجليزية من الملعب في قمة الغضب، ووجهت شتائمها للاعبين السود، وبعبارات مهينة عن أصولهم وعدم انتمائهم لأنجلترا ولون بشرتهم وضرورة عدم التعويل عليهم باعتبارهم بشر "من درجات دنيا"، وتحولت الإهانات من الجماهير المغادرة للملعب إلى منصات التواصل الاجتماعي، التي كانت فضاء قبيحا للتوصيفات العنصرية بحق السود، الأمر الذي غير مسار المباراة من كرة القدم، إلى بنية المجتمع الانجليزي الذي لطالما كان يوصف بالانفتاح وتقبل الاختلافات الثقافية وتكونه من ثقافات مختلفة أصبحت مع الزمن جزءا من المجتمع البريطاني.

تصرف الجماهير الانجليزية مع لاعبي منتخبها خلف ردود فعل غاضبة، أولها من رئيس الوزراء البريطاني بويس جونسون الذي استنكر  ا لإساءة العنصرية، معتبرا أنها أمر فظيع ومن تجرأوا عليها أن يخجلوا من أنفسهم، ثم من الاتحاد الانجليزي لكرة القدم الذي قال "نشعر بالاشمئزاز لأن بعض لاعبي فريقنا الذين بذلوا كل جهد مستطاع في هذا الصيف تعرضوا لإساءة عنصرية عبر الانترنت بعد مباراة الليلة"، مطالبا بأقصى العقوبات ضد ممارسي هذه التجاوزات العنصرية.

من جانبة عبر مستشار حكومي من أصل أفريقي عن رغبته في الاستقالة من من منصبه، غداة نشر تقرير حكومي عن دور العرق في الفوارق الاجتماعية في المملكة المتحدة أثار مضمونه انتقادات، على الرغم من أن مصادر تؤكد أن نية الاستقالة سابقة للإهانات التي تعرّض لها اللاعبون السود غداة نهائي "اليورو".

موقع تويتر بدوره أغلق مئات الحسابات المسيئة وقال متحدث باسم الموقع، إنهم قرروا "حذف ألف تغريدة مسيئة لـ3 من لاعبيإنجلترا، بعد تعرضهم لتعليقات عنصرية إثر إخفاقهم في تسجيل ركلات ترجيح ضد إيطاليا، في نهائي بطولة أوروبا، الأحد"، مضيفا "لقد شاركنا بشكل استباقي ونستمر في التعاون مع شركائنا عبر مجتمع كرة القدم لتحديد طرق معالجة هذه المشكلة بشكل جماعي، وسنواصل لعب دورنا في كبح هذا السلوك غير المقبول".

ووسط تلك الانتقادات حاول الدولي الانجليزي ماركوس راشفورد، التعامل مع المسألة بالكثير من العقلانية نتفهما الغضب الجماهيري، معبرا عن اعتذاره عن إضاعة ضربة الجزاء، مرجعا ذلك إلى الظروف التي مرّ بها العام الماضي من تراجع مستواه وفقدانه لبعض التركيز.

تصرفات الجماهير الانجليزية وردود الفعل الداخلية والخارجية حولها، مازالت تطرح إشكالية العنصرية في الملاعب الأوروبية والتعامل مع اللاعبين ذوي الأصول غير الأوروبية، وكيفية تجاوزها خارج العقوبات التقليدية على الاتحادات أو الفرق على اعتبار أن العنصرية لم تعد ساسة أوروبية أو "بيضاء" إنما تعبر عن خلل مجتمعي مازالت تضربه بعض الإخلالات التي تؤثر بشكل كبير على وحدة تلك المجتمعات الأوروبية وتشكك في البناء الحضاري الذي مازالت تفتخر به الحضارية الغربية في التعامل مع الاختلافات العرقية والدينية.