د. وليد محمود عبد الناصر،دبلوماسي مصري

في ضوء ديناميكيات العملية الجارية والمتسارعة للعولمة، تواجه القارة السمراء تحديات عديدة، يجب العمل على مواجهتها مع الأخذ في الاعتبار الدروس المستفادة من تجارب الماضي والخبرات المتراكمة التي تولدت عن تلك التجارب. وفي هذا الإطار، يجب التوافق على الإقرار المسبق للطابع الشامل وعبر القطاعي لتأثيرات العولمة، مع تعدد جوانبها، وتنوع صورها، وتباين أشكالها، على القارة الإفريقية، وعلى كافة مناحي الحياة بها. يتضمن ذلك التأثير على منهج تسوية الصراعات والنزاعات وما يرتبط بها من مساعي تحقيق وبناء والحفاظ على السلم والأمن بالقارة، وعلى بروز قضية التنمية المستدامة بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبشرية والثقافية، وتصاعد الاهتمام بضمان احترام حقوق الإنسان وحرياته الأساسية الفردية والجماعية، بالإضافة إلى الأهمية الخاصة التي تتمتع بها قضايا جديدة، مثل: تمكين المرأة، والشباب، والفئات الأكثر ضعفًا أو عوزًا في المجتمعات الإفريقية.

تبرز في هذا الإطار أيضًا ملاحظة ذات طبيعة منهجية وموضوعية في آن واحد، ألا وهي ضرورة الحرص على مقاومة منطق تجزئة القارة إلى إقليمين منفصلين: شمال إفريقيا، وإفريقيا جنوب الصحراء، والذي يتسق مع التوجه العام إلى تقسيم العالم إلى "أقاليم" في السنوات الأخيرة. لكن علينا أن نتنبه إلى أن هذا التقسيم ليس إلا استحضارًا لمفردات لغة خطاب استعماري تجزيئي وتقسيمي كان من المفترض أن ينتهي بزوال الاستعمار التقليدي والاستيطاني والعنصري عن القارة السمراء. لكن ذلك لم يحدث، بل استمر استخدام هذا الخطاب، أحيانًا على لسان بعض أبناء القارة أنفسهم، ويتم ترسيخ ذلك من خلال بعض الأفعال غير المسئولة من جانب بعض الساسة، سواء من شمال القارة أو من جنوبها. بل ومع الأسف تسللت هذه اللغة إلى بعض الوثائق والدراسات والبحوث، الصادرة عن هيئات ولجان وجهات الأمم المتحدة والوكالات الدولية المتخصصة المرتبطة بها.

التعليم وفرص الاستفادة من مميزات العولمة:

يحتل قطاع التعليم والعلوم والبحث العلمي وأنشطة التطوير التكنولوجي أهمية محورية في تحديد تأثير العولمة على القارة الإفريقية، وقد شهد التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث في البلدان الإفريقية ونظيراتها في الدول المتقدمة طفرة لا شك فيها في السنوات الأخيرة. يشمل ذلك تعزيز برامج التبادل بين الطلاب وأعضاء هيئة التدريس، وفي مجال تنظيم الندوات والمؤتمرات وورش العمل العلمية المشتركة حول موضوعات تكون محل اهتمام مشترك للدول الإفريقية والدول المتقدمة في آن واحد، وأيضًا الاشتراك في مشاريع بحثية مشتركة على مدى عددٍ من السنوات، ما يفتح الباب واسعًا أمام بناء القدرات وتطوير الموارد البشرية في القارة السمراء. وقد شهدت مصرُ تجربة ناجحة في هذا الإطار، ممثلة في عام التعاون العلمي والتكنولوجي بين مصر واليابان (2008)، وذلك في سياق عقد التعاون العلمي والتكنولوجي بين مصر والعالم الخارجي، والذي بحلول نهايته وصل عدد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم الخاصة بالتعاون والتبادل بين الجامعات ومراكز الأبحاث المصرية ونظيراتها اليابانية إلى أكثر من سبعين اتفاقية ومذكرة تفاهم.

يأخذ التعاون بين الجامعات ومراكز الأبحاث في الدول الإفريقية ونظيراتها في الدول المتقدمة -عادةً- أحد صور ثلاث: فهو إما يكون عبر مبادرات من مفوضية الاتحاد الإفريقي، خاصةً مبادرة إنشاء جامعات نوعية متخصصة موزعة بشكل متوازن جغرافيًّا على أقاليم القارة الإفريقية الفرعية الخمسة، أو من الدول الإفريقية فرادى، أو بمبادرات من جانب أطراف خارجية لإنشاء جامعات تابعة لها، أو فروع لجامعاتها في الدول الإفريقية، أو كنتيجة لجهد مشتركٍ بين دولة بالقارة ودولة خارجية متقدمة في منظومة التعليم والعلوم والبحث العلمي وأنشطة التطوير التكنولوجي. وفي إطار نفس المسعى، حاولت بعض الدول الإفريقية على مدار السنوات القليلة الماضية الاستفادة من تجارب الدول المتقدمة في مجال بناء علاقة تفاعلية ثلاثية الأبعاد بين دوائر صنع القرار من جهة، ودوائر رجال الأعمال من جهة ثانية، ودوائر الجامعات ومراكز الأبحاث من جهة ثالثة، بما يضمن بناء علاقة عضوية بين ما ينتج عن عمل الجامعات ومراكز الأبحاث، وما يحتاجه الاقتصاد والمجتمع من مدخلات حتى لا يتحول الأول إلى مجرد الاقتصار على إصدارات نظرية منقطعة الصلة بالواقع المعاش.

يتصل بذلك إشكالية هامة، وهي كيفية مواجهة بلدان القارة الإفريقية لتحدي ما يُعرف بـ"هجرة العقول" في بعض الأدبيات و"نزيف الأدمغة" في أدبيات أخرى. والواقع أن النظر إلى هذا التحدي يختلف من منظور إلى آخر، بين من يراها ظاهرةً يغلب عليها الانعكاس السلبي على فرص وآفاق وأولويات التنمية في دول القارة، وبين من يُعظِّم من مردودها الإيجابي على تلك البلدان. وقد كان هناك، في نهاية عقد الثمانينيات وبداية عقد التسعينيات من القرن العشرين، مجموعة عمل أُنشئت خصيصًا لتناول هذا الموضوع في إطار مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأنكتاد) بجنيف تحت عنوان "النقل العكسي للتكنولوجيا"، وهو عنوان في حد ذاته له دلالته بالنسبة لرؤية الأنكتاد للموضوع آنذاك. كما كانت هناك تجربة برنامج "توكتين" التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي خلال نفس الفترة تقريبًا، والذي سعى إلى توظيف العقول المهاجرة من دول الجنوب إلى دول الشمال المتقدم، في دعم عملية التنمية في بلدانها الأصلية، علمًا أنه في الحالتين كان التركيز على الدول الإفريقية باعتبارها الأكثر تضررًا من عملية هجرة العقول. هذه الظاهرة يمكن أن تمثل استثمارًا للدول الإفريقية من جهة ثرواتها البشرية الوفيرة، أو أن تمثل استنزافًا مستمرًّا للموارد البشرية لتلك البلدان، وذلك بحسب الاستراتيجية المتبعة، ومنهج الاقتراب، وكيفية التعامل مع هذه الظاهرة وإدارتها، سواء من جانب الدول الإفريقية ذاتها، أو من جهة المجتمع الدولي ككل.

دور العالم في تعزيز التكامل الإفريقي:

يعظم الاعتماد المتبادل والتشابك الكثيف بين اقتصادات العالم اليوم من أهمية التعاون والتكامل على مستوى القارة الإفريقية ككل، خاصةً فيما يتصل بالترتيبات الاقتصادية والتجارية والنقدية والتمويلية، وما يتصل بها من ترتيبات التعاون والتكامل من جهة مشروعات البنية التحتية المادية من طرق وكباري وجسور ووسائل نقل بالسكك الحديدية ونقل بحري وموانئ ونقل جوي ومطارات وغيرها. وبالرغم من وجود قصص نجاح عديدة في هذا الصدد من بينها "السادك" لدول الجنوب الإفريقي و"النيباد" التي تضم مصر ودولا مختارة من مختلف أقاليم القارة الفرعية الخمسة في عضويتها و"الكوميسا" لدول جنوب وشرق إفريقيا - فإن هذه التجمعات، وغيرها، لم تنجح في تحقيق الآمال التي كانت معقودة عليها، بل إنها لم ترتقِ إلى مستوى أقل الرؤى المطروحة عند إنشائها طموحًا. ويعني ذلك من الناحية العملية أمرين: الأول أن على الحكومات والتجمعات الإقليمية القيام بالمزيد من الجهد، وإظهار المزيد من الإرادة السياسية والجدية التنفيذية للتقدم في مسيرة تلك الترتيبات التعاونية والتكاملية على الصعيدين الإقليمي ودون الإقليمي، والثاني أن على المجتمع الدولي واجب مد يد العون: أولا بالإقرار بمكانة ودور هذه الترتيبات، وثانيًا بالتعاون المؤسسي والمنهجي والمنتظم معها، بما يشمل تمكينها من الارتقاء إلى توقعات النخب والشعوب الإفريقية، وتلبية متطلبات التنمية والتعاون والتكامل فيما بين الدول الإفريقية على الصعيدين الإقليمي أو دون الإقليمي.

يتصل بذلك التداعيات السلبية لغياب التمثيل المنصف للقارة الإفريقية في عضوية التجمعات الدولية المؤثرة، مثل مجموعة العشرين. فبالرغم من معدلات النمو الاقتصادي المتزايدة لدول القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة، فإن القارة السمراء بأسرها ليست ممثلة في عضوية المجموعة إلا عبر دولة واحدة فقط هي جنوب إفريقيا، وهو أمر لا يعكس الواقع من حيث الثقل والوزن والدور الاقتصادي والتجاري، سواء للقارة الإفريقية ككل، أو للعديد من دولها بشكل فردي. فقد أُنشئت مجموعة العشرين أصلا إبان الأزمة المالية الآسيوية لعامي 1997/1998، إلا أنه منذ هذا التاريخ "جرت في النهر مياه كثيرة"، أي حدثت تغيرات جذرية وتحولات على المشهدين العالميين الاقتصادي والمالي، وهو الأمر الذي يبرر الدعوة إلى ضرورة مراجعة وإعادة النظر في تشكيل المجموعة، ودورها، وولايتها، ووظيفتها، بما في ذلك ضم دول إفريقية أخرى لعضويتها مثل مصر ونيجيريا. ومن جهة أخرى، فإن مجموعة الدول الثمانية لا تتضمن أي دولة إفريقية على الإطلاق، وذلك بالرغم من أفكار إيطالية وفرنسية، خاصة تلك التي طرحت خلال قمة مجموعة الدول الثماني السنوية الدورية لعام 2009 والتي عقدت في إيطاليا، والتي هدفت إلى توسيع المجموعة، وتحويلها إلى ما يسمى بـ"مجموعة الدول الـ14"، وبما يتضمن تحديدًا ضم دولتين إفريقيتين هما مصر وجنوب إفريقيا، إلا أن هذه المبادرات لم تراوح مكانها، ولم تترجم بشكل عملي، وهو أمر كان من شأنه ضمان تمثيلٍ منصف للقارة الإفريقية في صفوف المجموعة. وغني عن البيان أن القارة الإفريقية لا تتمتع بأي مقعد دائم في مجلس الأمن، وهو مطلب إفريقي، خاصةً منذ ما يعرف بـ"توافق أويزوليني" فيما بين دول الاتحاد الإفريقي في قمة سرت في مطلع الألفية الثالثة.

الحاجة إلى مقاربة متوازنة لقضايا حقوق الإنسان:

باتت الموضوعات المتعلقة بما يسمى في الأدبيات الدولية بـ"الحكم الرشيد" ومجمل موضوعات احترام حقوق الإنسان، تثار بشكل متزايد على الصعيد الدولي على مدار السنوات الماضية، ما دفع الحكومات الإفريقية لأن تتعامل مع هذه المسائل بجدية متصاعدة، وإن تفاوتت بطبيعة الحال بين دولة إفريقية وأخرى. ولكن هذه الدول أصبحت أكثر وعيًا بما تذهب إليه العديد من الدول والتكتلات على الساحة الدولية من "توظيف سياسي" للقضايا المتعلقة بحقوق الإنسان لخدمة أجنداتها ومصالحها الاستراتيجية، واتخاذها ذريعة للتدخل في شئون الدول النامية بشكل عام. ونظرًا لما يتضمنه ذلك من ازدواجية في المعايير في كثير من الأحيان، تدفع الدول الإفريقية في المحافل الدولية بالحاجة لتبني مقاربة أكثر توازنًا لهذه القضية، تأخذ في الاعتبار فئات حقوق الإنسان المختلفة: مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، وبدون منح أولوية لأي منها على الفئات الأخرى. كما تحرص الدول الإفريقية في المحافل الدولية ذات الصلة على التأكيد بأن قيم الديمقراطية و"الحكم الرشيد" لا يجب أن يقتصر استخدامها على القضايا المتعلقة بشئون بلدان العالم الثالث، بل إنها يجب أن تطبق أيضًا على عملية صنع القرار في المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية بالموضوعات السياسية والاقتصادية والتجارية والنقدية والتمويلية العالمية.

مخاطر التدخل الخارجي:

تسعى بعض الأطراف الدولية، وبشكل أكثر تحديدًا الغربية، على مدار العقدين الماضيين، ومنذ نهاية الحرب الباردة، لتمرير صيغ وتعبيرات على الصعيدين القانوني والسياسي الدوليين توفر غطاء أو تبريرًا أو تقنينًا للتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى، بما في ذلك التدخل العسكري تحت مظلة اعتبارات إنسانية أو مرتبطة باحترام حقوق الإنسان. كانت القارة الإفريقية محل هذه الأشكال من التدخل بصفة خاصة، نظرًا لما تعانيه من صراعات أهلية، وصراعات بين الدول في السنوات الأخيرة، والنتائج الكارثية على المستوى الإنساني التي ترتبت عليها. وقد بدأت هذه المحاولات عبر بوابة مبدأ "حق التدخل الإنساني" خلال حرب تحرير الكويت في مطلع عام 1991، ثم تطور المفهوم ليظهر مبدأ "مسئولية الحماية"، ثم ظهر منذ سنوات مفهوم أشمل وأقل تحديدًا كمظلة للتدخل، وهو مفهوم "الأمن الإنساني". وقد تعددت التعريفات لهذا المفهوم، منها ما حاول إحداث التوازن بين تحقيق الأمن الإنساني من جهة واحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شئونها الداخلية من جهة أخرى احترامًا لما ورد في ميثاق الأمم المتحدة (الديباجة). كما ظهرت تعريفات أخرى تسعى لإرساء الأبعاد الإنسانية، والقضايا المتعلقة باحترام حقوق الإنسان كمبرر شرعي لأي تدخل، ولو كان عسكريًّا، في الشئون الداخلية لدول مستقلة ذات سيادة، بدون الموافقة المسبقة لهذه الدولة، وذلك بخلاف ما نص عليه ميثاق الأمم المتحدة. وقد ازداد وعي البلدان الإفريقية في السنوات الأخيرة بمخاطر السماح بإضفاء أي صبغة قانونية على هذه الجهود في ضوء تعاظم إدراك هذه الدول وقادتها ونخبها السياسية والثقافية بأن بعض الدول الغربية تسعى لتوظيف ذلك سياسيًّا. كما أن التجربة العملية أثبتت أن النتائج الفعلية على الأرض لحالات ما سمي بـ"التدخل الإنساني" مثلت كوارث ليست أقل إيلامًا من الأوضاع السابقة على التدخل، إن لم تفوقها في ذلك.

خاتمة:

تواجه الدول الإفريقية تحديات متعددة في تفادي الآثار السلبية من مجمل التفاعلات والتطورات المسماة بعملية العولمة، ولذا فهناك حاجة لدراسة التجربة الإفريقية في التعامل والتفاعل معها، مع محاولة جادة لاستشراف الآفاق المستقبلية لهذه العلاقة المركبة والمعقدة، التي تترابط أبعادها. والواضح أن هناك تنوعًا في الرؤى لدى قيادات ومفكري وأبناء القارة الإفريقية بشأن العلاقة بين إفريقيا والعولمة في طورها الراهن، حيث تنقسم هذه الرؤى بشكل عام إلى ثلاث مجموعات عريضة، نشأت وتطورت من داخل القارة: الأولى تسعى للتوصل إلى حالة حل وسط بين إفريقيا والعولمة، والثانية تطالب بتضامن إفريقي جاد وعلى أسس صلبة وموضوعية كوسيلة تهدف إلى بلورة مواقف وبرامج عمل من شأنها تحقيق أقصى استفادة ممكنة للقارة الإفريقية من العولمة من جهة، وتحجيم واحتواء أي أضرار محتمل أن تنتج عن التحديات التي تطرحها على دولها من جهة ثانية، والثالثة مجموعة تبرز بشكل نقدي المخاطر التي تمثل جزءًا لا يتجزأ عن العولمة في طورها الراهن وتدعو إفريقيا للاستعداد الجيد والمسبق للتعامل مع هذه المخاطر على أرضية الندية وعلى خلفية منطق المواجهة والمجابهة. وفي النهاية، يجب أن نشير إلى أن نتاج التفاعل بين إفريقيا والعولمة يرتبط في جزء منه بدور وموقف ومدخلات المجتمع الدولي، وليس مجرد الإرادات السياسية للدول الإفريقية، منفردة أو حتى مجتمعة، وذلك في ضوء عدم التوازن الذي يميز ضد الثقل الإفريقي العام في المحافل الدولية.

*المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية