إنه منزل كبير بحي سوكوجيم وسط نواكشوط ، يقيم به جزء ضخم من تاريخ القارة. يسكن المنزل مستأجرون توافدوا عليه من كل حدب وصوب، ففيه موريتاني وشابان ماليان يعملان على عربات المياه، وسينغاليون يعملون في البناء، وأزوادي ونيجري قادمان للدراسة في المعهد العالي، وغيني وغاني وبركنابي وعاجي وآخرون أتت بهم لاعبات الأيام في شطرنج الحياة.
بهذا المنزل، تستقر كل الحكايات الإفريقية، يتسقر الرئيس السابق "جيري رولينغس" وهو جالس كبائع الرصيد، متذكرا أياما وليالي مضت في "الجمهورية الغانية الرابعة"، والأحلام تذهب به لوطنه الأصلي اسكوتلندا متجاوزا "العقود الغانية الضائعة" حسب تعبير زميله "دراماني ماهاما".
تستقر بنفس المنزل، حكايات الشاب الثوري مانديلا، ذلك السجين الهادئ المشاغب الذي يجلس في زاوية من زنزانته في سجن "بولسمور"، ويغني بصوت عذب أغنية تفخر بأمجاد قبيلته، في ألحان تشبه إلى حد كبير ألحان "اجَّانْـبه الكحله" حين يعرج الفنان الموريتاني على شور اتْـبـيْـبِ، في "ابياظ فاغُ" منشدا قول الأول:
إن الرواة بلا فهم لما حفظوا -- مثل الجمال عليها يُحمل الودع

لك أن تتخيل في نفس المنزل، الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه رحمه الله، وهو يقف فوق "لعصابه" تلك الجبال التي تستعصي على الانغماس في حوض تاودنّي الكبير، يقف المختار فوقها مستوعبا تاريخها الطويل، وناظرا ناحية الجنوب الغربي، منتظرا أن يمر "الوادْ لخظر" على القرى الفقيرة ويسقيها، ويلتقي في "لكصيْبه" برفيق دربه "الوادْ لبيظ" القادم من "آكْررايْ"، فيأخذ كل من الواديين بيد أخيه عابريْن فوق سهل كوركول كطفلين عائدين من المدرسة، ثم يندسّان بطمأنينة في نهر السينغال أثناء قصة لن تُكتب نهايتها إلا في "دلتا" النهر، حيث العناق غير الحميم بين النهر والمحيط.
حكايات إفريقيا مسطرة في هذا المنزل العجيب، من هدوء قبائل جبال ليسوتو جنوبا، إلى صخب قبائل كثبان النيجر شمالا، ومن صمت القشرة الأرضية عند المانديكا غربا، إلى تشويشها في الحوض الرسوبي عند حضارة الأكسوم بالقرن الإفريقي شرقا.