لم يفاجأ الحراك الليبي الذي اندلع عشية السابع عشر من فبراير 2011 العقيد القذافي وحده بل فاجأ خصومه الإسلاميين فيما بعد فقد كانوا قد فرغوا لتوهم من إنهاء الترتيبات السياسية و القانونية و الفكرية حتى ،للعودة إلى صف الولاء لسلطته بعد قطيعة دامت لسنوات بين السجن و المنفى فقد كان العام 2010 حافلا بالتصريحات و النوايا الاخوانية و الجهادية المادحة للنظام ،ومن جانبه كان النظام قد أنهى إطلاق سراح أخر دفعات المعتقلين الإسلاميين في سجون البلاد.

حسابات الحقل لم تنطبق على حسابات البيدر ،فطوفان "الربيع العربي" ،كما سمي فيما بعد ، قد سبق الجميع ومهما اختلفت التحليلات حول دوافع هذا "الربيع" و من يحركه فان النتيجة واحدة ،هي المفاجأة التي صعقت جميع مكونات الطيف السياسي الليبي وخاصة القوى الإسلامية التي ما فتأت تضمد جراحات الماضي مع نظام العقيد حتى هبت رياح الثورة فتقرحت الجروح من جديد ،فالإخوان المسلمون وزعيمهم "علي الصلابي" قد سارعوا إلى مباركة "الثورة" من شاشة الجزيرة في العاصمة القطرية الدوحة أما الجهاديين فقد صمتوا حتى تبنى مجلس الأمن قرار الحظر الجوي وترافقت ثورتهم مع  انطلاقة غارات حلف الناتو على المدن  الليبية لتنتهي "أيام الوصال "القصيرة مع النظام.

 

إخوان ليبيا من محاربة "الطاغوت" إلى التنعم به

 

بعد صدور القانون رقم 71 لعام 1972  و الذي يجرم الحزبية في ليبيا في أعقاب إعلان سلطة الشعب أصبحت جماعة الإخوان المسلمين تنظيما محظورا في البلاد و أضحى أعضائها و قياداتها عرضة للاعتقال و المنافي بل و حتى الإعدام.لم تتخذ الجماعة سلاح النضال السياسي سبيلا في وجه النظام بل عمدت إلى خلفيتها الدينية ككل الجماعات الإسلامية و أطلقت حملات التكفير ضد النظام والمنتسبين اليه و حتى للعاملين في الدولة كـــ"طواغيت" ثم خرجت من عباءتها بقية الجماعات الإسلامية الراديكالية،غير أن الأحكام الشرعية التي يطلقها الإخوان ضد الحكام –و هذه عادة اخوانية متواترة لدى كل فروع الجماعة في الوطن العربي – ليست أحكاما ثابتة تحكمها نصوص واضحة بل أحكام مزاجية تحكمها ظروف سياسية في خلط واضح بين الديني المقدس الثابت الجوهري و السياسي المتحول العرضي،ففجأة سيتحول القذافي من ذلك "الطاغوت الكافر الزنديق" إلى "قائد الثورة و الأخ الكبير" .

 تواصلت القطيعة السياسية و الفكرية مع النظام حتى أواخر العام 1999 حين بدأت أولى إرهاصات الحوار  مع مندوب ليبيا في الأمم المتحدة و ذلك من خلال برنامج الذي كان يلتقي بالجالية الليبية ،وهنالك حدث اللقاء ابتداءً،ثم و بعد تعثر دام لسنوات توطدت العلاقة بين نجل العقيد القذافي سيف الإسلام و الزعيم الاخواني علي الصلابي الذي تم تعينه  عضوا بمجلس أمانة مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية  عام 2003 ،لتنطلق مرحلة جديدة من العلاقات بين الإخوان و النظام بطريقة غير مباشرة من خلال "نجل الزعيم" و مشروعه "الليبرالي الجديد" في البلاد و الذي كان محل معارضة من "الحرس القديم" في صفوف قادة ثورة سبتمبر.

استطاع الصلابي إقناع قادة الجماعة الاخوانية بجدوى العمل مع سيف الإسلام ودعم مشروعه في مواجهة مراكز القوة داخل النظام معتبرا أن المستقبل لسيف الإسلام قائدا للدولة في القادمات من الأيام ليعلن قادة الإخوان في أواخر العام 2009 بينهم قادة الإخوان المسلمين السابقين داخل ليبيا، وقيادات الجماعة الليبية المقاتلة، "تأييدهم لمشروع سيف الإسلام القذافي، المعروف بمشروع "ليبيا الغد"، ودعمهم له، مشددين في الوقت نفسه على أن الإصلاح الذي يقوده نجل قائد الثورة الليبية معمر القذافي، من أجل بناء دولة القانون والمؤسسات، مهمة شاقة لا يمكن تحقيقها إلا بتضافر جميع القوى الإصلاحية الوطنية المخلصة".(1)

وأكد الصلابي في تصريحات صحفية نشرت أنذاك، "أن جميع قادة الإخوان السابقين داخل البلاد، ممن قابلهم، وعلى رأسهم المراقب العام السابق للإخوان الدكتور عبد الله عز الدين، والذي كان محكوما عليه بالإعدام، والدكتور عبد الله شامية (محكوما بالمؤبد)، والدكتور عبد اللطيف كرموس (مؤبد) وغيرهم، يؤيدون مشروع "ليبيا الغد"، ويدعمونه بقوة، ويعلنون استعدادهم للمشاركة في إنجاحه مع بقية أبناء وطنهم. وذكر الصلابي أن قادة الإخوان أبلغوه بأنهم ممتنون لجهود الدكتور سيف الإسلام، التي بذلها لطي ملفهم، بدءا من إخراجهم من المعتقلات رغم الأحكام العالية التي تراوحت بين الإعدام والسجن المؤبد في حق أغلبهم، وانتهاء بجهوده في إرجاعهم للجامعات ووظائفهم وتعويضهم، كما قال".(2)

 

الجهاديون على خطى الإخوان :حين يتحول القذافي إلى "ولي أمر شرعي"

 

بعد أن فرغ علي الصلابي من رفاقه الإخوان انبرى محاولا استمالة القيادات الجهادية من اجل "دعم مشروع سيف الإسلام القذافي" و قد وجد في قادة الجماعة الليبية المقاتلة ضالته ،فهؤلاء كانوا في سجون النظام متهمين بالإرهاب و بتشكيل جماعة مسلحة بل بعضهم قد قبضت عليه المخابرات الأمريكية خارج البلاد مقاتلا في صفوف القاعدة و غيرها من المجاميع الجهادية الدولية لتنطلق المفاوضات السرية مع قادة الجماعة في السجون برعاية مؤسسة القذافي للتنمية و تنتهي بمراجعات فكرية على الطريقة "المصرية" كما كان الحال بالنسبة لجماعة "الجهاد" و "الجماعة الإسلامية" في مصر في "مبادرة وقف العنف" و "وثيقة ترشيد العمل الجهادي".

(http://bit.ly/1f6YkOT)

فبعد أن خاضت الجماعة الليبية المقاتلة أكثر من خمسة عشر سنة من الجهاد المسلح ضد نظام العقيد القذافي وحاولت اغتياله في أكثر مرة معتبرة إياه "حاكما طاغوتيا لا يحكم بما أنزل الله" انقلبت الجماعة فجأة و أصدرت مراجعاتها الشرعية ليصبح القذافي "الأخ قائد الثورة'' ( ثورة الفاتح من سبتمبر و ليس 17 فبراير ). 

لتطوي الدولة الليبية والجماعة المقاتلة صفحة الماضي بظهور "الدراسات التصحيحية" صفحة الصراع بين الجماعة و النظام ،و قد شارك في صياغة هذه المراجعات القيادي السابق في الجماعة نعمان بن عثمان رئيس مؤسسة كوليام لمكافحة التطرف في بريطانيا و قيادات الجماعة في السجون بينهم مفتيها سامي الساعدي و أميرها عبد الحكيم بالحاج المكني بأبي عيد الله الصادق ،ليخرج قادة الجماعة عي الشاشات الفضائية في مؤتمر صحافي رفقة المفتي الحالي الصادق الغرياني و علي الصلابي و بمباركة بالشيخ الاخواني يوسف القرضاوي معلنين بأن "معر القذافي ولي أمر شرعي لا يجوز الخروج عليه ،و أن الخروج على ولاة الأمر بالسلاح أمر محرم شرعا"،و انطلقت بعدها السلطات الليبية في إخلاء السجون من معتقلي التيار الإسلامي بطيفيه "الاخواني" و "الجهادي".

(http://bit.ly/1hfFeb3)

 

17 فبراير و "الانقلاب الإسلامي"

 

مع بداية اندلاع الشرارة الأولى للحراك في الشارع الليبي في 17 فبراير 2011 خرج القيادي الاخواني علي الصلابي ،عضو مؤسسة القذافي العالمية للجمعيات الخيرية والتنمية من شاشة قناة الجزيرة في الدوحة معلنا أن "الشعب الليبي هو من بات يحكم ليبيا و ليس القذافي و أبنائه داعيا الجيش و الأمن الليبي إلى الانشقاق على النظام و اتخاذ "صفقة مع الله " بدل من صفقة مع "سيف الإسلام" معتبرا حكما القذافي الذي كان في السابق "الأخ قائد الثورة" بــ"الغزو". (http://bit.ly/1bZkjBq)

أما الجهاديين و قيادات "الجماعة المقاتلة" فقد لزموا الصمت ولم تنخرطوا منذ اللحظة الأولى في الحراك بل ان الجماعة قد دعت أنصارها و إلى حدود أواخر شهر مارس 2011 إلى التزام الحياد تجاه ما سمى آنذاك بالثورة ،و لكن مع انطلاق الضربات الأولى لحلف الناتو على ليبيا بعد تبني قرار المجلس الأمن القاضي بالحظر الجوي بدواعي حماية المدنين تغير خطاب الجماعة المقاتلة و انخرطت رسميا في النزاع المسلح ضد النظام و بذلك خرج عبد الحكيم بالحاج أمير الجماعة إلى الخارج ،ليعود في أواخر أغسطس 2011 إلى "باب العزيزية" تلاحقه كاميرا قناة الجزيرة و خلفه عدد من ضباط القوات الخاصة القطرية،ليعود القذافي إلى ما كان عليه قبل العام 2010 في نظر الجماعة المقاتلة و قياداتها :"حاكما طاغوتا يجوز الخروج عليه بقوة السلاح " و لتتبخر مائتا الصفحات التي خطتها أيادي قادة الجماعة و "علمائها " في السجون و التي نظرت لفكرة واحدة "الأخ قائد الثورة ،حاكم شرعي لا يجوز الخروج عليه" لتنكشف الأحكام الشرعية "الهلامية و الزئبقية" التي تصدر عن الجماعة السياسية المتدثرة بالدين و العودة إلى القاعدة السالفة :خطورة الخلط بين "الديني المقدس الثابت الجوهري" و" السياسي المتحول العرضي".

تداعيات هذا الانقلاب و ما ألت إليه الأوضاع في ليبيا اليوم جعلت هذه القوى "الاسلاموية" في حرج كبير أمام الرأي العام الليبي الذي أصبح لديه من الوعي الكثير كي يكتشف "زئبقية " مواقف قيادات الإسلاميين في ظل ما يطرحونه من "شعارات ثورية "كالقطع مع النظام السابق و قانون العزل السياسي الموجه ضد خصومهم الليبراليين و قانون التعويض للمساجين الإسلاميين ،فكيف تقبل تعويضا ماليا عن أمر كنت قد ندمت عن فعله سابقا و أصدرت مراجعات وصفت فيها فعلك بالإرهاب و غير الجائز شرعا ؟؟؟ و كيف تقصي اشخصا عملوا في أجهزة الدولة سابقا بدعوى التعامل مع النظام السابق في حين انك كنت أعمق علاقة منهم برموز النظام ؟؟

كل هذه التساؤلات يطرحها الشارع الليبي اليوم بحرقة في ظل وضع متأزمة شاركت في صناعته ذات القوى ولعل مقطع فيديو قصير ظهر فيه القيادي الاخواني علي الصلابي و أمير الجماعة المقاتلة عبد الحكيم بالحاج و مفتيها سامي الساعدي رفقة عددا من ضباط المخابرات الليبية قد أثار جدلا واسعا في الآونة الأخيرة،حيث يظهر إلى جانبهم ممثلا عن سيف الإسلام القذافي و القيادي السابق في الجماعة نعمان بن عثمان رئيس مؤسسة كوليام لمكافحة و في ذات المقطع يظهر الصلابي متآمرا على بالحاج وجماعته ومنافحا قويا على "مشروع سيف الإسلام".

 (http://on.fb.me/1m2wdkn)

و كان ثوار "الزنتان قد اعتبروا ان " الحملات المتتالية على الزنتان بخصوص سيف الإسلام نجل العقيد الراحل معمر القذافي، تستهدف نقله من محبسه الحالي في مدينة الزنتان الجبلية إلى العاصمة طرابلس، تحت تصرف الجماعة الليبية المقاتلة وجماعة الإخوان المسلمين.وأفاد تقرير إخباري لجريدة "الشرق الأوسط" نقلا عن قناة "الزنتان" قولها في تعليق على محاكمة سيف الإسلام أول من أمس: "من يقف خلف هذه الحملة ليسوا شرفاء العاصمة بل مجموعة متورطة في فضائح مع سيف القذافي من قصة مشروع ليبيا الغد وعمليات الإصلاح مع الجماعات الإسلامية التي كان يرعاها الصلابي والساعدي وبلحاج وغيرهم".وأضافت: "هم لا يريدون لتفاصيل هذا الأمر أن تخرج للعامة لأن المعلومات بهذا الخصوص خطيرة جدا"، مشيرة إلى أن سيف تم "تفريغه من محتواه وتسجيل كافة اعترافاته بخصوصكم بالإضافة إلى أرشيف برنامج الإصلاح مع الإسلاميين في السجون والذي يوجد موثقا بالفيديو".(3)

_______________

(1)- إخوان ليبيا يعلنون دعمهم لمشروع سيف الإسلام القذافي ،الرابط ( http://bit.ly/1kOZ9hC)

(2)- المصدر السابق

(3)- تسجيلات مع سيف الإسلام القذافي حول علاقته بإخوان ليبيا ،الرابط (http://bit.ly/1fu2MCm)