مازالت ليبيا عالقة في أزمة بلا حل قابل للاستمرار في المدى المنظور، المساعي السابقة التي أدت في كانون الأول 2015، إلى توقيع اتفاق سياسي بمنتجع الصخيرات المغربي بإشراف الأمم المتحدة، أفضى إلى تشكيل حكومة وفاق وطني أنعشت الآمال بعودة تدريجية إلى الاستقرار وإنهاء الفوضى والانقسامات العميقة بين أطراف النزاع.

لكن حكومة الوفاق الوطني المنبثقة عن الاتفاق، لم تلق إجماعاً منذ دخولها طرابلس في 30 آذار 2016، وعجزت عن فرض سلطتها في أنحاء واسعة في البلاد،وما زالت خاضعة لعشرات المليشيات المسلحة، كما أن أنها تولّت مهامها بدون الحصول على ثقة البرلمان المنتخب في 2014، والذي يتخذ من طبرق شرق البلاد مقراً، وفق ما ينصّ عليه اتفاق الصخيرات.

ويبدو عجز حكومة الوفاق الوطني في طرابلس واضحا، ليس فقط في إدارة أمور سلطتها التي تشمل مساحات محدودة من ليبيا، وإنما أيضا في التوصل إلى تفاهم بين الأطراف الليبية المختلفة لإطلاق عملية بناء سياسي حقيقية، وتعتمد حكومة طرابلس في بقائها على ميليشيات إسلامية ومرتبطة بقوى الإسلام السياسي في المنطقة، وتظل الورقة الرئيسية في يد هذه الحكومة هي الشرعية الدولية التي حصلت عليها عند تشكيلها، حيث تتمسك الأسرة الدولية باعترافها بهذه الحكومة فيما تشهد معارضة داخلية واسعة.

ومؤخرا،عاد الزخم مجددا لمجلس النواب عبر اجتماعات النواب الليبيين الذين يمثلون كافة التيارات السياسية داخل ليبيا، كما يمثلون جغرافيا الشرق والجنوب والغرب الليبى،التي تواصلت على مدى ثلاثة أيام،برعاية اللجنة الوطنية المعنية بليبيا،في القاهرة وذلك في إطار الجهود المصرية لتوحيد رؤى النواب الليبين تجاه حل سياسي يقوده البرلمان الليبي.

وجاءت اجتماعات القاهرة في في لحظة دقيقة من تطور الأحداث على الساحة الليبية،حيث تشهد العاصمة الليبية طرابلس معارك عنيفة منذ الرابع من أبريل/نيسان الماضي،بعد أن أطلق الجيش الوطني الليبي عملية "طوفان الكرامة" بهدف تحرير المدينة من سطوة المليشيات المسلحة التي تعبث بأمن واقتصاد البلاد منذ سنوات والتي عجزت حكومة الوفاق عن تحجيمها بل صارت رهينة لها وفق المتابعين للشأن الليبي.

وبالرغم من نجاح الجيش الليبي في السيطرة على عدة مناطق استراتيجية منذ الأيام الأولى للمعركة وتمركزه على تخوم العاصمة فان تقدمه تباطئ كثيرا وذلك في ظل الدعم الكبير الذي حضيت به المليشيات من طرف تركيا التي دخلت بقوة على خط الأحداث بعد أن استشعرت قرب سقوط آخر معاقل الجماعات الموالية لها في ليبيا.

وانخرطت أنقرة بقوة في المعركة،حيث أعلن أردوغان عن توفير كل الامكانيات لحكومة الوفاق التي يهيمن عليها تيار الاسلام السياسي وعلى رأسه جماعة "الاخوان" الحليف الأبرز لتركيا وذراعها التخريبي في عدة دول عربية.وسارعت تركيا بارسال شحنات السلاح للمليشيات،والطائرات المسيرة التي تقصف المدن بل ودفعت بضباطها للاشراف على العمليات العسكرية،لكن الأخطر من ذلك كان تكثيف أنقرة من عمليات نقل الارهابيين من سوريا الى ليبيا لدعم المليشيات ضد الجيش الليبي.

وتمكن الجيش الليبي في وقت سابق من تدمير الطائرات التركية المسيرة وغرفة عملياتها،وباتت المليشيات المسلحة من دون غطاء جوي وبات انهيارهم وشيكاً، لذا سارعت أنقرة إلى تقديم مزيد من الدعم العسكري لهذه الميليشيات.وكشفت تقارير اعلامية عن عمليات نقل للارهابيين من سوريا الى ليبيا تشرف عليها تركيا التي تعتبر الحليف الأبرز للتنظيمات الارهابية في المنطقة.

يمكن القول بأن المعارك التي بلغت أشدها على تخوم طرابلس، وإن أكدت على أن الحل السياسي يبقى أفضل وسيلة لحل الأزمة الليبية، فإنها كشفت أيضا عن ضعف حكومة الوفاق الوطني، والتي تعول على الميليشيات الإرهابية لحمايتها،كما سارعت للاستنجاد بأنقرة التي أغرقت ليبيا بالسلاح والارهابيين،ليظهر جليا مدى ارتهان حكومة السراج وعدم قدرتها على ادارة البلاد أو تحقيق أي تقدم في اطار بناء الدولة الليبية من جديد.

ومن هنا كان ضروريا تحريك الجمود السياسي والبحث عن سبل لحقن دماء الليبيين.ومثلت اجتماعات النواب في القاهرة محاولة جديدة للم الشمل الليبي أملا في التوصل الى حل من شأنه تجاوز الأزمة الشائكة التي تعصف بليبيا منذ العام 2011،والتي فتحت الباب أمام التنظيمات الارهابية والعصابات المختلفة والأطماع الدولية في الثروات الهائلة التي جعلت ليبيا احدى أغنى دول المنطقة.

وأجرى أعضاء مجلس النواب المجتمعون في القاهرة وعددهم 75 نائباً يمثلون كافة التيارات السياسية داخل ليبيا، لقاءات تشاورية مغلقة.وبحسب البيان الختامي فقد اتفق المجتمعون على عدد من النقاط التوافقية أولها التأكيد على وحدة ليبيا وسيادتها على كامل أراضيها واعتبار ذلك خط احمر لا يمكن التنازل عنه بأي حال من الأحوال.

وتعتبر هذه النقطة هامة جدا خاصة في الفترة الحالية التي تشهد تدخلات سافرة من دول اقليمية على رأسها تركيا وقطر اللتين ترتبطان ارتباطا وثيقا بالمليشيات المسيطرة على العاصمة.ومنذ أيام وجه رئيس البرلمان الليبي عقيلة صالح خطابين للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وآخر لرئيس الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بشأن ما وصفه بـ"التدخل السافر" لتركيا وانتهاكها للسيادة الوطنية لليبيا، وانتهاكها لميثاق الأمم المتحدة وقرارات مجلس الأمن الدول.ي

وبحسب المتحدث الرسمي باسم البرلمان، عبدالله بليحق، فإن عقيلة "سجل شجب مجلس النواب للتدخل التركي، ودعمها للميليشيات المسلحة الإرهابية والخارجة عن القانون ضد قوات الجيش الوطني".كما أكد، في خطابيه، "اختطاف العاصمة طرابلس، ومصرف ليبيا المركزي، ومؤسسات الدولة، من قبل قادة الميليشيات الإرهابية التي تنهب أموال الشعب، وتمارس أعمال النهب والخطف، وتهرب البشر وثروات الليبيين".

أما النقطة الثانية فكانت التأكيد على أن حل الازمة الليبية يكون من خلال مجلس النواب الليبي بصفته السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة بالبلاد من قبل الشعب والممثل الشرعي له.وتشير هذه النقطة الى محاولة تفعيل عمل مجلس النواب واستعادة دوره في البلاد خاصة بعد محاولات تفكيكه التي قام بها تيار الاسلام السياسي في طرابلس.

وعقد البرلمان الليبي، ومقره طبرق في شرق البلاد، منذ انتخابه في 2014، أولى جلساته منتصف أبريل/نيسان الماضي في موقعه الجديد في بنغازي، في الشرق الليبي.وينقسم النواب بين مؤيدين للجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، منهم رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، وآخرين مناوئين يقاطعون الجلسات البرلمانية.

وانتخب البرلمان الليبي في يونيو 2014 قبل أن ينقلب الإسلاميون على نتائج الانتخابات ويعيدوا تفعيل المؤتمر الوطني العام المنتهية ولايته. وشارك البرلمان في مفاوضات الصخيرات التي جاءت بحكومة الوفاق التي يرأسها فايز السراج. وعقب دخول الحكومة إلى طرابلس انقسم المجلس بين شقين شق مؤيد للسراج وآخر رافض له، لكن تلك الخلافات لم تتضح جيدا إلا بعد إعلان الجيش عن عملية تحرير طرابلس من الميليشيات في 4 أبريل الماضي.

وحاول تيار الاسلام السياسي تشكيل مجلس مواز في طرابلس متكون من عدد من النواب المنشقين عن مجلس طبرق وعدد آخر من المقاطعين الذين لطالما اعتبروا البرلمان جسما منحلا بحكم المحكمة الدستورية، في محاولة لإضعاف برلمان طبرق الداعم للجيش الوطني الليبي، لكن المجلس الموازي لم يحظ حتى الآن بأي اعتراف دولي كما تم تجاهله بشكل مطلق من قبل البعثة الأممية.

النقطة الثالثة كانت التأكيد على مدنية الدولة الليبية والمحافظة على المسار الديمقراطي والتداول السلمي للسلطة التزاماً بالإعلان الدستوري وتعديلاته التي تنظم المرحلة الانتقالية في البلاد.والإعلان الدستوري هو القانون الأسمى الحالي لليبيا،وينبغي أن يكون ساري المفعول حتى تتم كتابة دستور البلاد الدائم، ويصادق عليه في استفتاء شعبي.

وأقر مجلس النواب في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2018 تعديلًا دستوريًا تضمن تحصين المادة السادسة من قانون الاستفتاء على الدستور الدائم للبلاد، بحيث تقسم ليبيا إلى 3 دوائر وضرورة حصول مشروع الدستور على نسبة 50+1 في كل إقليم بالإضافة إلى ثلثي الشعب على مستوى البلاد.

وتأتي هذه النقطة ردا على اتهامات يسوقها تيار الاسلام السياسي وعلى رأسه جماعة "الاخوان" بمحاولة عسكرة الدولة.وهي اتهامات تسعى الجماعة لنشرها بهدف تشويه عمليات الجيش الوطني الليبي الهادفة لانهاء فوضى المليشيات واستعادة سلطة الدولة.ويجمع المراقبون على أن أي استحقاق سياسي في البلاد لا يمكن أن يتم طالما تسيطر على العاصمة الليبية جماعات مسلحة بأجندات وولاءات مشبوهة.

وإلى النقطة الرابعة حيث أكد المجتمعون على العمل مجدداً على دعوة كافة النواب الذين لم يحضروا الاجتماع وذلك لمواصلة النقاشات المتقدمة لحل الأزمة الليبية بما يحفظ سلامة البلاد والليبيين، ويحفظ سيادة واستقلال ليبيا، ويحقق السلام والوئام المجتمعي، والعودة إلى الحوار السلمي في ظل سيادة الدولة. 

ورفض النواب المنشقون المقربون من تيار الإسلام السياسي المشاركة في اجتماعات القاهرة حيث لم يحضر سوى خمسة نواب من أصل أربعين نائبا. وبلغ عدد النواب الذين حضروا الاجتماعات 70 نائبا. وقال عضو مجلس النواب الموازي في طرابلس محمد الرعيض إن الأعضاء الخمسة الذين شاركوا في الاجتماع المنعقد في القاهرة، لا يمثلون إلا أنفسهم. وأضاف "سبق أن أعلن النواب بطرابلس رفضهم المشاركة في الاجتماع المنعقد بالقاهرة لعدم تسلمهم دعوة رسمية ولغموض أهدافه".

وتشير هذه النقطة الى مساعي النواب لتوحيد الجهود في سبيل حلحلة الأزمة التي تعصف بالبلاد،فيما تواصل جماعات تيار الاسلام السياسي محاولات عرقلة أي تقدم في سبيل تحقيق الاستقرار في البلاد وذلك خدمة لأجنداتها المشبوهة والمرتبطة أساسا بأطراف خارجية بعيدا عن مصلحة ليبيا والليبيين.

وأخيراً،أكد البيان على النقطة الخامسة والأخيرة في الاتفاق الذي جمع النواب الليبيين في القاهرة وهي أن كل ما تقدم سيُنجز في جلسة مرتقبة لمجلس النواب في أي مدينة يتم الإتفاق عليها في أقرب وقت بهدف الدعوة لمناقشة تشكيل حكومة وحدة وطنية ووضع خارطة للحل وفق جدول زمني وآليات تنفيذ واضحة.

وقال عضو مجلس النواب محمد العباني إنه ستكون هناك جلسة لمجلس النواب في أي مدينة ليبية يتم التوافق عليها لبحث بعض البنود التى تم التوصل إليها خلال لقاءات القاهرة.العباني أشار في إتصال هاتفي مع صحيفة "الوطن" المصرية، الثلاثاء إلى أنه وفي حال فشل أعضاء النواب في عقد الجلسة سيكون هناك لقاء مرة أخرى في القاهرة بين أعضاء من المجلس.

.وبدوره قال النائب علي الصول عضو مجلس النواب الليبي إن المجلس يعمل خلال الفترة المقبلة على تشكيل حكومة وحدة وطنية بديلة لحكومة الوفاق والمجلس الرئاسي. وأضاف في تصريحات خاصة لوكالة "سبوتنيك" الروسية، أن البرلمان الليبي هو الجسم الشرعي الوحيد، الذي يحق له اتخاذ أي خطوات بعيدة أيضا عن مجلس الدولة.

وتابع أن المجلس سيجتمع في أي مدينة ليبية لمناقشة تشكيل الحكومة، وأن القاهرة ترحب باستضافة أية اجتماعات أخرى، حال تعسرها في الداخل الليبي. وأوضح أن المجتمعين في القاهرة أكدوا على وحدة ليبيا، كما رحبوا بانضمام الأعضاء من المناطق الأخرى خلال بحث عملية تشكيل الحكومة الجديدة.

وبالرغم من أن حكومة الوحدة الوطنية تمثل خيارا مناسبا لتجاوز الانقسامات في ليبيا،فان تشكيلها يبقى صعبا بحسب الكثيرين في ظل تواصل وجود المليشيات المسلحة.وقال عضو مجلس النواب سعيد امغيب،أن الحديث عن تشكيل حكومة وحدة وطنية قبل دخول الجيش إلى طرابلس نوع من العبث الذي لا يجدي نفعا.معبرا عن اعتقاده بأن "الهدف من اجتماع القاهرة لم يكن واضحًا، أي أنه لم يقدم جدول أعمال واضحًا".

ونقل موقع "ام نيوز" الاخباري عن امغيب قوله إنه ليس "ضد أي مبادرة أو محاولة من أي كان، تسعى لحلحلة الأزمة الليبية، ولكن قناعتي الخاصة أن زمن المبادرات والحلول التلفيقية، ولى، لأن جماعة برلمان طرابلس المنشق مثلهم مثل فايز السراج لا يملكون أي قرار، ولا يستطيعون تنفيذ أي وعد إلا بموافقة زعماء الميليشيات المسيطرة على العاصمة".

ويشن الجيش الليبي منذ بداية الأسبوع الماضي غارات جوية مكثفة على تجمعات المليشيات ومخازن الأسلحة في ضواحي غريان و في محاور القتال القريبة من وسط العاصمة طرابلس.وتصاعد الحديث عن اقتراب ساعة الصفر حيث يستعد الجيش الوطني الليبي لشن عملية عسكرية في العاصمة طرابلس، لتحرير ميدان الشهداء.

وآخر هذه التأكيدات جاء على لسان المتحدث الرسمي باسم القيادة العامة للجيش الليبي،أحمد المسماري،الذي أعلن أن الساعات القادمة ستكون حاسمة وستحمل انتصارات في إطار عملية تحرير طرابلس.وأوضح المسماري في بيان نشره على صفحته الرسمية بموقع "فيسبوك"، مساء الثلاثاء، أنّ قوات الجيش الوطني الليبي، تمّكنت وفي كل المحاور من تطوير عمليات هجومية تعبوية على كل خطوط النار مستفيدة من دروس المعارك السابقة، واستطاعت تحقيق نجاحات كبيرة وتقدم نحو مواقع تمركزات الميليشيات الإرهابية".

وأضاف المسماري في بيانه أنّ "القوات الجوية قدمت الدعم الناري القريب في جميع مراحل الهجوم كما دكت أهدافا إرهابية في العمق الاستراتيجي المعادي"، مشيراً إلى أنّ "مرحلة الحسم التعبوية والاستراتيجية أظهرت كفاءة وقدرة عالية لقواتنا على كل المستويات من القيادة الاستراتيجية والتكتيكية وعلى مستوى الانضباط التنفيذي للخطط العسكرية على الأرض، كما هي على الخريطة".

وبدوره قال العميد صالح بوحليقة، ضابط عمليات اللواء 73 مشاة التابع للقوات المسلحة الليبية،الأحد 14 يوليو 2019، إن "الجيش سيدخل في مرحلة جديدة ونصبح على أبواب ساحة شهداء الكرامة (ميدان الشهداء وسط طرابلس)"، مضيفا وفقا لما أوردته وكالة "سبوتنيك" أن "العدو ينهزم ويتشتت ويبدأ بالهرب من المواجهة في أرض المعركة إلى طريقتهم الإرهابية المعتادة داخل المدينة".

وتؤكد تصريحات القيادات العسكرية أن ساعة الحسم باتت قريبة،على اصرار الجيش الوطني الليبي على دخول العاصمة قبل الحديث عن أي توافقات سياسية.ويعزو مراقبون هذا الى تزايد القناعة لدى الليبيين بأن وجود المليشيات المسلحة لن يسمح بناء دولة مستقرة وآمنة.فخلال السنوات الماضية أجهضت هذه المليشيات كل محاولات التوافق في ليبيا وعمقت أزمتها الأتصادية عبر نهب ثروات الليبيين ومثلت بوابة للعديد من الدول للتدخل في البلاد دعما لمصالحها.