في شهر أكتوبر 2017، أعلن وزير الصحة بالحكومة الليبية المؤقتة رضا العوكلي أن ديون الليبيين بالمصحات التونسية بلغت حوالي 300 مليون دينار تونسي بسبب التوافد الكبير للجرحى والمصابين منذ بداية الحرب الدائرة رحاها في البلاد، وأكد تعهد السلطات الليبية باستخلاص تلك الديون التي كادت أن تتسبب في أزمة بين البلدين بعد احتجاجات أبلغتها تلك المصحات إلى مسؤولي الدولة التونسية، خاصة أن بعض التعهدات لم يتم تنفيذها من الجانب الليبي العام 2016، واعتبارها أن الأرقام المسجلة من طرف المصحات المذكورة مبالغ فيها ويجب مراجعتها.

بعيدا عن الجدل حول صحة الأرقام وطرق تسديدها التي مازالت النقاشات حولها مستمرة رغم تراجع الديون بشكل واضح خلال الأشهر الأخيرة، فإن الثابت اليوم أن الليبيين يدفعون كلفة باهضة للعلاج خارج أرضهم الأمر الذي يطرح جملة من الأسئلة من بينها عدم قدرة الدولة على توفير ظروف صحية في الداخل تمنع زيادة التكاليف على المواطن والدولة في علاقة بالعلاج في الخارج وأساسا في الجارة تونس التي تعتبر الوجهة الأولى لليبيين في القطاع الصحي.

وكحل ظرفي لمعالجة أزمة الديون بالنسبة إلى العلاج في الخارج اعتمدت السلطات الليبية على فكرة الأموال المجمدة لسداد تلك الديون ومن بينها الموجودة في تونس حيث أشار العوكلي في نفس المذكورة إلى أن اتصالات تقع منذ العام 2014 مع البنك المركزي التونسي من أجل التعامل مع الأموال المجمدة لفائدة المصحات التونسية، لكن يبدو أن المسألة معقّدة وتحتاج ترتيبات خاصة فيها ما هو قانوني وما هو سياسي وعلى ذلك رفض الرد على اقترحات وزارة الصحة في الحكومة المؤقتة.

والديون الليبية في المستشفيات لا تقتصر على تونس لوحدها باعتبارها البلد الأقرب، لكن أيضا هناك ديون مازالت عالقة في كل من الأردن وتركيا اللذين استقبلا أيضا ألاف الجرحى والمرضى منذ الأزمة في 2011، وبقيت الاتصالات معهما متواصلة من أجل إيجاد حلول للمشكل، حيث تشير بعض الأرقام إلى أن ديون المستحقة للأردن على ليبيا تصل بدورها 300 مليون دينار ليبية تحاول بعض الأطراف إيجاد صيغة لخلاصها من بينها ما اقترحه رئيس مجلس النواب عقيلة صالح في مايو الماضي بأن تتولى المحفظة الاستثمارية طويلة المدى عملية الخلاص وهو قرار اعتبره بعض المحللين غير قابل للتطبيق لأن مجلس النواب ليس مخولا قانونيا في التحدّث أو إصدار قوانين عن أموال المحفظة.

الديون في المستشفيات التركية كانت أيضا محور اتصالات بين المسؤولين في الدولتين وأساسا مع الموجودين في طرابلس بهدف توفير أموال لديون تلك المستشفيات، حيث جمع في شهر يناير الماضي (2018) لقاء بين رئيس المجلس الرئاسي فائز السراج بممثلي عدد من المستشفيات التركية لبحث حل للديون الكثيرة العالقة لتجاوز أي إشكال قد يحصل أو يعكّر صفو العلاقات بين البلدين على حد تصريح السراج، الذي أشارت مصادر أنه اقترح للوفد التركي بعض الطرق لتجاوز الإشكال لكن لم يتم ذكرها تحديدا.

الإشكال في ليبيا اليوم لم يعد حتى مع الديون في حد ذاتها باعتبار أن المؤسسات الرسمية في آخر المطاف قد تجد حلولا مع الأطراف المعنية في الخارج لتوفير تلك الأموال، لكن ما أصبح يعانيه المواطن الليبي هو التكلفة العالية جدا للعلاج في الخارج، حيث تسبب التراجع الكبير للدينار الليبي في مضاعفة التكاليف إلى درجة أن أصبح البعض عاجزا عن توفير علاجه في الخارج واضطراره على المؤسسات الصحية الداخلية التي مازالت تعاني من عديد النقائص رغم الوعود المتكررة من المسؤولين بتحسينها، لكن الواقع أن الظروف الأمنية لم تترك مجالا للإصلاح حتى في صورة وجود نوايا فعلية لذلك.

ففي تونس مثلا التي كان المواطن الليبي العادي قبل العام 2011 قادرا على توفير تكاليف علاجه في مصحاتها في ظل ارتفاع قيمة الدينار في السوق العالمية، أصبح تدريجيا يعجز عن مواجهة تلك المصاريف في ظل انعدام السيولة في الداخل وتراجع العملة المحلية في الخارج إضافة إلى ارتفاع تكاليف العلاجات في الوجهات التي يتجه إليها، بل إن الأمر تعدّى إلى غياب أهم شيء كان معروفا عن الليبيين وهو الثقة وبين المصحات، ليس عدم التزام منهم، بل لأن تلك المصحات لم تعد ضامنة لتوفير مستحقاتها إلى درجة أن بعضها لم يعد يقبل مريضا أو مصابا ليبيا إلا بعد ضمان تكلفة علاجه مسبقا وهذا قد يتوفر لدى البعض في حين يغيب عن آخرين إلى درجة أن بعضهم توجه نحو المستشفيات الحكومية الي لا تتوفر على ظروف صحية ملائمة وهي بدورها تفرض أسعارا مرتفعة أحيانا لا تتوفر. وهذا الأمر لا يقاس على تونس فحسب بل على كل البلدان التي يتوجه إليها ليبيون للعلاج.

إلى وقت قريب كان الليبيون لوحدهم سوقا للبلدان التي يتجهون إليها سواء للسياحة أو العلاج باعتبارهم من أكثر المجتمعات استهلاكا نظرا للاستقرار المالي الذي يعيشونه ويجعلهم قادرين على التوجه نحو كل الوجهات وتوفير كل متطلبات الحياة المريحة، لكن في السنوات الأخيرة ومنذ الإطاحة بنظام العقيد معمّر القذافي ودخول البلاد في فوضى أمنية وتحارب داخلي، تراجع الاقتصاد بشكل كبير وأثر في كل مناحي الحياة التي تمس المواطن وأساسا العلاج في الخارج الذي أصبح الليبيون عاجزين عن توفير تكاليفه في ظل ارتفاعها وتراجع الإمكانيات المادية الفردية للناس.