أحمد النظيف

يعيد قرار الحكومة التونسية  بتصنيف أنصار الشريعة كتنظيم إرهابي و اتهامه بالوقوف وراء كل العمليات الارهابية في البلاد، الجماعة السلفية الجهادية التونسية إلى دائرة الضوء،تلك الدائرة التي لم تغادرها منذ نشأتها ربيع العام 2011 حتى اليوم،جماعة ملأت الدنيا وشغلت الناس،تتصدر أخبارها و تصريحات قادتها غالبا وسائل الإعلام المحلية و الدولية.

فقد جاءت انصار الشريعة كتعبير تنظيمي لأتباع التيار السلفي الجهادي في أول ظهور علني لهذا التيار بعد سنوات من العمل السياسي- المسلح السري ، مستفيدة من هامش الحرية العريض الذي وفرته التغيرات الطارئة بعد موجة ما يسمى بالريبع العربي حتى وصل الأمر بها إلى المجاهرة بأفكارها المنادية بالتغيير الجذري للنموذج المجتمعي وشكل الدولة نحو الوصول إلى "دولة الإسلام" المنشودة في كل أدبيات الحركة الإسلامية المعاصرة،بمنهج جهادي يحمل أفكار الحاكمية و الولاء و البراء و قتال الطائفة الممتنعة.

الجذور التاريخية

كانت بداية الفكر الجهادي في تونس و كغيرها من بلدان العالم الإسلامي اخوانية الفكر , قطبية المنهج (نسبة إلى سيد قطب) مطعمة بشيء من أفكار "أبو الأعلى المودودي" متأثرة بزخم الثورة الإسلامية الإيرانية و أسلوبها في التغيير.وكانت حركة الاتجاه الإسلامي ،فرع جماهة الاخوان المسلمين في تونس ،المحضن الطبيعي لهذه الأفكار رغم أنها أعلنت في بيانها التأسيسي "نبذ العنف و اختارت النضال السياسي كمنهج عمل" غير أنها عملت و بشكل موازي على اختراق المؤسسة العسكرية بزرع عدد من الضباط للقيام بانقلاب عسكري يطيح بالنظام البورقيبي إلا أن هذه المحاولة فشلت و كان بن علي الأسرع إلى السلطة و أفرج عن المجموعة التي قادت الانقلاب المعروفة آنذاك بالمجموعة الأمنية .

و قبل هذه العملية و تحديدا في 8 أكتوبر 1987 اعدم محرز بودقة و دخيل بولبابة اللذين ينتميان إلى مجموعة أطلقت على نفسها اسم  "الجهاد الإسلامي".فقد قامت هذه المجموعة بشن هجوم على مكتب بريد و مركز شرطة و أعلنت مسؤوليتها على تفجيرات فنادق سوسة و المنستير في أوت 1987 و على خلفية هذه الأحداث اعتقل النظام قيادات "الجهاد الإسلامي" : الملازم بالجيش التونسي كيلاني الشواشي , و العضو السابق بالاتجاه الإسلامي الحبيب الضاوي , و مفتي الجماعة الشيخ امحمد لزرق و ظهر أواخر الثمانينات تنظيم بقيادة العضو السابق في حركة النهضة الحبيب لسود و  أطلق على نفسه طلائع الفداء  و تم القضاء عليه أثناء الضربة الأمنية بداية التسعينات.

الأفغان التونسيون

كل هذه المحاولات الجهادية ذات الطابع المحلي القطري لم تمنع قطاعا أخر من الشباب التونسي المتحمس من التوجه إلى آفاق أرحب , إلى ساحات الجهاد العالمي و بؤر التوتر و الصراع و خاصة الساحة الأفغانية المزدهرة آنذاك. رحل العشرات من التونسيين إلى بيشاور الباكستانية على الحدود مع أفغانستان و التي كانت تحوي مركزا لتجميع المجاهدين العرب المعروف بمكتب الخدمات و الذي أسسه و اشرف عليه الشيخ الفلسطيني عبد الله عزام حتى اغتياله في 24 نوفمبر 1989. كانت الفئات المتجهة إلى أفغانستان من الشباب و القيادات الملاحقة داخل تونس بعضها ينتمي إلى حركة الاتجاه الإسلامي و التي تحولت بعد انقلاب 87 إلى حركة النهضة , و بعضها الآخر إلى تنظيم الجبهة الإسلامية التونسية ذات التوجهات السلفية الحركية و التي رحل اغلب أعضائها و مؤسسيها إلى بيشاور لعل أشهرهم محمد على حراث و عبد الله الحاجي السجين السابق في معتقل غوانتنامو.

و في أجواء الجهاد و المعارك الطاحنة ضد الجيش الروسي التي عاشها الشباب التونسي بين باكستان و أفغانستان خرج هؤلاء بفكر و منهج جديد خاصة بعد نصر تاريخي على ثاني قوة عالمية وهي الاتحاد السوفياتي ليولد بذلك جيل جديد من أجيال التيار الجهادي و هم الأفغان العرب.

بعد أن وضعت الحرب الأفغانية أوزارها و انفض جمع المجاهدين العرب عن ساحات القتال وجد الشباب التونسي نفسه ضائعا بين حرب أهلية أفغانية و بين العودة إلى تونس والتي كانت ضربا من المستحيل بسبب الملاحقة الأمنية و لم يجد هؤلاء غير الملاذات الأمنية . فمنهم من تمتع بفرص أللجوء السياسي ببعض دول ارويا الغربية و خاصة بريطانيا و منهم من قصد السودان و التي كانت لتوها قد فرغت من انقلاب عسكري قاد الإسلاميين إلى السلطة بزعامة حسن الترابي و الفريق عمر حسن البشير و قسم آخر توجه نحو البوسنة و شارك في القتال إلى جانب المسلمين ضد الصرب فيما عرف بحرب البلقان من 1993 إلى 1995.

ومع بداية الحملات الأمريكية لمكافحة الإرهاب سنة 1995 و التي تزامنت مع انحراف الحركة الإسلامية المسلحة بالجزائر و الفشل الذي لاقته المحاولات الجهادية في مصر و ليبيا بدأت موجات التضييق و الملاحقة تطال هؤلاء الشباب .فقد قررت حكومة البشير في السودان طرد من عندها من الجهاديين بمن فيهم التونسيون وبدأت الحكومات الأوروبية في عرقلة تحركات بعضهم خاصة بعد سلسلة التفجيرات التي هزت فرنسا آنذاك مما حدا بهم إلى التفكير في البحث عن ملاذات جديدة أكثر أمنا وأكثر حرية . تزامن كل هذا مع سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابول سنة 1996 وسيطرتها على اغلب البلاد .

في تلك الفترة بدأ "الجمع الجهادي التونسي" في العودة إلى أفغانستان مهد الجهاد الأول و كان هدفهم هذه المرة الإعداد و التدريب و جمع الشباب التونسي بغية العودة بالجهاد إلى تونس كما نقل ذلك القيادي في تنظيم القاعدة أبو مصعب السوري في سفره الكبير حول تاريخ الحركات الجهادية في العالم الإسلامي و يضيف السوري قائلا : "و ابتدؤوا محاولة جديدة لإنشاء تجمع جهادي خاص بهم و بدت بعض بوادر النجاح على تلك المحاولة رغم التعثر و التشرذم و فيروس التطرف و التكفير الذي أصاب يعض الإخوة…واستطاع بعض الناضجين منهم أن يؤسسوا لأنفسهم معسكرا مستقلا و إدارة لا بأس بمستواها" .

و يتابع السوري حديثه بالقول :"و على الرغم من تواجدهم تحت حماية طالبان إلا أن الأفغان التونسيين كان هدفهم العودة بالجهاد إلى تونس لذلك لم يعيروا كبير اهتمام بمعركة الطالبان ضد تحالف الشمال الذي كان يقوده احمد شاه مسعود و الذي اغتيل على يد خلية جهادية تونسية قادمة من بلجيكا تحت غطاء صحفي أياما قليلة قبل الحرب الأمريكية على أفغانستان سنة 2001 إلا أن أخدود سبتمبر و ما تبعه لم يمهل الشباب التونسي للعودة بالجهاد إلى تونس بل فرض عليهم القتال على قمم طورا بورا , هذه المعركة التي أتت على أكثرهم نظرا لقلة عددهم أصلا" .

ولادة أنصار الشريعة

كان أول ظهور عملي لهذا التيار بعد الثورة في شهر ماي 2011 في ملتقي أنصار الشريعة الذي ضم اغلب الطيف الجهادي التونسي و الذي انتظم تحت شعار "اسمعوا منا و لا تسمعوا عنا " و أعقبته ندوة صحفية بجهة وادي الليل بحضور القيادات الجهادية كسيف الله بن حسين(أبو عياض) ،مؤسس تجمع الجهاديين التونسيين في جلال أباد سنة 2000 و تلميذ "أبو قتادة "الفلسطيني و أبو أيوب التونسي احد القيادات الشابة إلى جانب القيادة الشرعية ممثلا في الشيخ الخطيب الإدريسي السجين السابق على خلفية أحداث الضاحية الجنوبية و قد رفض أصحاب الملتقي التقدم بطلب تأشيرة العمل القانوني معتبرين أنهم لن يطلبوا التأشيرة إلا من الله .

 

بيوغرافيا موجزة  لأبي عياض التونسي

من بين قادة التيار الجهادي في تونس ما بعد "الربيع العربي " برز  أبو عياض التونسي الى الحد الذي دفع البعض الى اعتبار ممثلا اميرا للسلفية الجهادية في تونس. وابو عياض  اسمه الحقيقي  سيف الله بن حسين ولد في تونس العاصمة  سنة 1965، انتمى إلى الحركة الإسلامية التونسية في ثمانينات القرن الماضي،خرج من تونس سنة 1991 بعد انطلاق الحملة الأمنية ضد الإسلاميين متوجها إلى المغرب الأقصى حيث درس الحقوق .

تابعته السلطات التونسية في المغرب فاضطر للخروج إلى لندن وتقدم بطلب اللجوء السياسي في 10 فيفري 1994 وبقي ينشط في السرّ هناك ولم يتلق الإجابة عن طلب اللجوء إلا في العام 2002 عندما كان متخفيا في باكستان وكان الرد بالرفض القطعي إضافة إلى عدم إمكانية الاستئناف، حيث اعتبر خطرا محدقا بالأمن القومي البريطاني.

في لندن تتلمذ  ايو عياض على يد المنظر الجهادي أبو قتادة الفلسطيني ،حيث كانت لندن يومها قاعدة إعلامية خلفية للجماعة الإسلامية المسلحة الجزائرية وتصدر فيها نشرية "الأنصار" بإشراف أبو قتادة و أبو مصعب السوري القيادي في تنظيم القاعدة .

 ويقول "بن حسين "متحدثا عن هذه الفترة "عندما كنت في لندن كانت لي علاقة وطيدة ولصيقة بالشيخ أبو قتادة -فك الله أسره- وتعلمت منه الكثير، وأتأسف لأني لم أتمكن من التفرغ لطلب العلم من الشيخ فالأشغال الدعوية كانت تصرفني عن طلب العلم من تلميذ وأستاذه، لكن هذا لا يمنع إني استفدت منه قدر الإمكان لأنه مدرسة حقيقية".

بعد الفترة اللندنية انتقل أبو عياض إلى أفغانستان إبان حكم الطالبان و استقر هناك حتى اندلاع أحداث سبتمبر 2001 و أسس تجمع الجهاديين التونسيين في جلال أباد سنة 2000،و التقى في هذه الفترة زعيم القاعدة أسامة بن لادن في مقره في قندهار في سبتمبر 2000،ليخرج  من أفغانستان في فيفري 2001 ويتنقل بين عدة دول وكانت آخر محطة هي تركيا أين وقع اعتقاله في 3 فيفري 2003 بسبب خطإ ارتكبه أحد رفاقه حين ذكره بكنيته في اتصال هاتفي .

بعد شهر من اعتقاله في تركيا تم تسليمه للسلطات التونسية ليحاكم بتهمة الانتماء إلى تنظيم القاعدة  والى تنظيمات إسلامية مختلفة، لتكون جملة الأحكام في حقه 68 سنة قضى منها 8 سنوات قبل أن يتم الإفراج عنه في  مارس 2011 بعد الثورة.

تنظيم أممي

بعد الثورة اصبح ابو عياض اميرا على تنظيم انصار الشريعة واتخذت السلفية الجهادية تسمية انصار الشريعة على نسق تنظيمات اخرى حملت نفس الاسم في  اليمن وليبيا، و مصر إلى المغرب. تبنّت الجماعات الجهادية الجديدة نفس الاسم في الأشهر الأخيرة. هل كل ذلك مجرد صدفة؟ سؤال إنكاري تبادر إلى ذهن هارون ي. زيلين الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى -أحد مراكز الأبحاث التي تعتمد عليها الإدارة الأمريكية في صياغة سياسته الخارجية تجاه العرب و المسلمين- سؤال يطرح الكثير من الريبة و يفتح أفق التأويل.هل كل ذلك مجرد صدفة؟

يحاول زيلين الإجابة عن سؤاله مؤكدا أن “اتجاها جديد يكتسح عالم الجهادية. فبدلاً من تبني أسماء متفردة، تفضل الجماعات على نحو متزايد أن تسمي نفسها "أنصار". وفي العديد من الحالات تسمي نفسها “أنصار الشريعة” الإسلامية حيث تؤكد بذلك رغبتها في إقامة دول إسلامية.

غير أنه برغم حقيقة أن تلك المجموعات تتشارك في الاسم والأيديولوجية إلا أنها تفتقر إلى هيكل قيادة موحد أو حتى قائد واحد مثل القيادة المركزية لـ تنظيم «القاعدة» (أو ما تبقى منه) والذي يُعتقد أن مقره في باكستان. وتحارب هذه التنظيمات في أراضي مختلفة باستخدامها وسائل متنوعة لكنها جميعاً تتحِد في الغاية، وهو النهج الذي يتناسب أكثر مع التقلبات التي تولدت عن الانتفاضات العربية.”

و أكد “زيلين “أن “أحد أبرز المنظرين الجهاديين العالميين وهو الشيخ أبو المنذر الشنقيطي قد وضع ختم موافقته على الموجة الجديدة لجماعات “أنصار الشريعة”.وكان الشنقيطي ذو الأصل الموريتاني قد نشر مقالة في منتصف جوان بعنوان “نحن أنصار الشريعة” داعياً فيها المسلمين إلى إقامة جماعاتهم الدعوية المسماة بـ “أنصار الشريعة” كلٌ في دولته ثم الاتحاد في كتلة واحدة”. ويضيف زيلين “أن معظم جماعات “أنصار الشريعة” قد تم إنشاؤها بالفعل مسبقاً، وأبرز هذه التنظيمات تلك التي في اليمن وتونس وليبيا إلى جانب النسخ الأحدث في مصر والمغرب على مدى أقل.”

في جدلية العلاقة بين النهضة و أنصار الشريعة

شارك "أنصار الشريعة" في العديد من التحركات “العنيفة” بما في ذلك "يوم الغضب" الذي جاء عقب قرار قناة نسمة بث فيلم “برسيبوليس”، كما هاجموا مبنى السفارة الأمريكية و المدرسة الأمريكية في منطقة البحيرة احتجاجا على بث فيلم مسيء للاسلام و أدى هذا الهجوم إلى خسائر مادية و بشرية كبيرة . كما قدم "أنصار الشريعة" أيضاً خدمات اجتماعية و خيرية في العديد من المدن التونسية من المياه إلى الملابس إلى هدايا خاصة في شهر رمضان أثناء فترات انقطاع مياه الشرب التي اجتاحت البلاد،صيف العام الماضي.

غير أن التوتر ساد  في الاشهر الأخيرة علاقة النهضة الاخوانية بالتيار السلفي الجهادي، فأنصار الشريعة في تونس لم يغير "الربيع العربي" الكثير في قناعاتهم في رفض المشاركة السياسية بشكل مباشر، بمعنى الانخراط في العمل السياسي والانتماء الحزبي والتسجيل في الانتخابات، فالحالة التونسية بطرحها الراديكالي وإصرارها على تطبيق الشريعة قد وضعت قيادات النهضة في حرج مع قواعدهم، وما كانوا ينادون به من شعارات قبل الوصول إلى سدّة الحكم.

و كانت أحداث السفارة هي الكفيلة بإيقاع السلفيين و الإخوان على حد السواء في المحظور و كانت الحادثة بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير، وهنا ستستفحل المعضلة مابين خوف النهضة من المزايدة الأيديولوجية التي يمكن أن تفقدها قطاعات من الجماهير قد تعوّل عليها في استحقاقات قادمة، حتى وصل الأمر بإصدار قرار باعتقال زعيم أنصار الشريعة أبو عياض،لينتهي اليوم بقرار حكومة علي العريض ،بتصنيف أنصار الشريعة كتنظيم إرهابي ،و الذي حذر في خطابه من أن كل مَنْ ينتمي لهذا التنظيم ويدعو إليه ويسعى إلى المحافظة عليه سيتحمّل مسؤوليته القضائية، مشيراً إلى أن "هذا القرار هو الذي سيتم على أساسه معاملة هذا التنظيم من قبل الأمن والجيش"، داعياً الإعلام إلى التعامل معه كتنظيم إرهابي.