صبية صغار لا تتجاوز أعمارهم العشر سنوات يقطعون يوميا كيلومترات لبلوغ آبار يحصلون منها على ما يروي عطشهم من المياه الراكدة في قاعها.. أشباح ضئيلة تتقلّص كلّما ابتعدت عن ناظري المرء، حاثة الخطى نحو أي مصدر للمياه، محاولة إدراك ما تبقّى لنقله في قوارير أو دلاء إلى منازلهم المنتشرة في شتى أنحاء الكاميرون .. هم أطفال صغار، إلاّ أنّ النقص الفادح الذي يعانون منه على مستوى التزوّد بالمياه الصالحة للشرب، حولهم إلى ضحايا منسيين.
“نورياتو”، صبية كاميرونية في التاسعة من عمرها، تجد نفسها مجبرة، يوميا، على قطع مسافة تتجاوز الكيلومترين، بحثا عن بئر للحصول على الماء. مخاطر عديدة يمكن أن تواجه فتاة صغيرة بعمرها، أبرزها السقوط في بئر بعمق 20 مترا، وبفتحة يتجاوز قطرها المتر، ما يعني أنّ أي انزلاق أو حركة غير محسوبة من جانبها قد يدفع بها –لا إراديا- إلى غياهب الحفرة العميقة.
يتعيّن على الصبية أن تلقي بدلو في أضعاف وزنها، معتمدة في ذلك على بنية ضعيفة تكاد تتلاشى وسط ثوب رقيق من الكتّان الملوّن. وحين يمتلئ، تنتصب واقفة، وتستنفر كامل قواها، وتمسك بحبل مال لونه نحو الصفرة جرّاء تعرّضه لنوبات الطقس على مدار العام، ثم تجذبه في حركة بدت أكبر بكثير من مقاييسها.
“أحيانا”، تقول “نورياتو”، تصاب يدي بجروح، وتنتابني آلام في رقبتي بسبب ثقل حمل الدلو مليئا بالماء على رأسي حتى بلوغ المنزل.
رحلة شاقة لصبية صغيرة تجد نفسها مجبرة على القيام بها يوميا لتأمين الماء الصالح للشراب لعائلتها.. ففي منزلها لا توجد مياه للشراب ولا حتى لغسل الأواني أو الطبخ ولا لغيره من الأعمال المنزلية الأخرى.
والدة “نورياتو” السيدة “نافي بيتيوكي” تقول لمراسلة الأناضول إنّ مهمّة البحث عن الماء غير يسيرة بالمرّة، مؤكّدة أنّ لابنتها القدرة على تحمّل مخاطرها أكثر منها، ولذلك “أقوم بارسال أطفالي بدلا عني، مصحوبين بقوارير ذات أحجام مختلفة لملئها بالماء”.
ومع انقطاع التيار الكهربائي، تقلّصت لائحة الخيارات أمام العائلات الكاميرونية، لتجد نفسها في وضع صعب للغاية.
فيما تقول “أميناتو ميدو”، وهي سيدة كاميرونية التقتها الأناضول في العاصمة ياوندي، “حاليا، نحن نتدبّر أمرنا في الحصول على المياه الصالحة للشراب، سواء كان ذلك من خلال الاستنجاد بالآبار أو صنابير المياه المدفوعة الثمن. لدينا ربط بشبكة توزيع المياه، إلاّ أنّ الانقاطاعات المتواترة للتيار الكهربائي تحرمنا من الحصول على الماء، ويحدث أن نبقى لأكثر من أسبوع دون مياه”.
وفي انتظار حلّ جذري لهذه المعضلة، توفّر “الشركة الكاميرونية للمياه”، وهي المؤسّسة الحكومية المسؤولة عن بناء وإدارة وصيانة مرافق الانتاج والتخزين والنقل لإمدادات المياه الصالحة للشراب، بتزويد السكان، من حين لآخر، ببعض المياه.
ووفقا لجدول زمني يتمّ تحديده مسبقا، تضع الشركة على ذمّة السكان خزانا يتزوّدون منه بالمياه مجانا. حلّ يحمل في باطنه حلولا وقتية لا تفي بالحاجة الدائمة والمتكرّرة إلى مورد حياتي بأهمية الماء، وهذا ما تتبنّاه بعض المنظّمات المدافعة عن المستهلك في الكاميرون.
“ديلور ماجلان كامغانغ” رئيس “الرابطة الكاميرونية للمستهلكين” (مستقلة)، واحدة من أكثر الجمعيات المدافعة عن المستهلك تأثيرا في الكاميرون، قال للأناضول “نتطلّع إلى انجازات أكبر من هذه على المدى الطويل، لتمكين مستهلكي المياه من الخروج من بوتقة العطش”.
والاثنين الماضي تم إطلاق دعوة عامة للادّخار من أجل تجميع مبلغ 150 مليار فرنك افريقي (285 مليون دولار)، لتمويل مشاريع التنمية وإنقاذ خمس شركات حكومية، بينها شركة المياه الوطنية، من الإفلاس.
إعلان أثار الكثير من السعادة في قلوب العائلات وخصوصا الأطفال .. فالحصول على المياه في المنزل من شأنه أن يرفع عنهم مسؤولية توفيرها وجلبها من الآبار البعيدة.
“أميناتو ميدو” عقّبت على هذه الجزئية قائلة “آمل أن يضع ذلك حدّا لنقص المياه الصالحة للشراب”، مع ما يحمله كلّ ذلك من أمل برؤية صغارها يتفرّغون للدراسة واستغلال أوقات فراغهم في اللعب والمرح، بدل قضائها على طريق طويلة وشاقة انتهكت طفولتهم وحرمتهم متعة الاستمتاع بها.