علق الفقيه القانوني الليبي الدكتور الكوني علي اعبوده على قرار المحكمة الدستورية في ليبيا والقاضي بعدم شرعية البرلمان الليبي المنتخب الذي يتحذ من طبرق مقرا لاعماله.
وهذا نص التعليق كما تحصلت عليه "بوابة افريقيا الاخبارية":

بتاريخ 6/11/2014 اصدرت المحكمة العليا بدوائرها مجتمعة، بقبول الطعن شكلا ( وبعدم دستورية الفقرة( 11)من المادة (30) من الاعلان الدستورى المعدلة بموجب التعديل الدستورى السابع الصادر بتاريخ11مارس2014 وكافة الاثار المترتبة عليه، والزام المطعون ضدهم بصفاتهم المصروفات ، وبنشر الحكم فى الجريدة الرسمية)
هذا الحكم الذى انتظره الليبيون، وربماالعالم،بصيغته التى صدر بهالم ولن يقود الى حسم الخلافات بين الاطراف ،وفق مايعلن هنا وهناك، ومن هنا يكون من المناسب ابداء وجهة نظر يطمح صاحبها لان تكون موضوعية، رغم ان الكتابة هذه الأيام صارت مشكلة، حيث أصبح التصنيف هو القاعدة !
بني الطعن أساسا على( ان تصويت المؤتمر الوطنى العام عليها- أي على الفقرة 11من المادة30 من الاعلان الدستورى المعدلة-تم ب (124 ) ،وهذا لايمثل ثلثي اعضاء المؤتمر الذين هم بنص الاعلان الدستورى(200)عضوا.).
قبل بيان ما لهذا الحكم من دلالات، ارى من المناسب ، لأن الخطاب موجه للجميع،التذكير ببعض الامور: ان الفقرة 11 من التعديل السابع تنص على ان (يعمل بمقترح لجنة فبراير على ان يقوم مجلس النواب المنتخب بحسم مسألة انتخاب الرئيس المؤقت بنظام انتخاب مباشر أو غير مباشر خلال مدة لا تزيد عن خمسة واربعين يوما من أول جلسة) والمقترح الذى جاء فى سبع وخمسين مادة نظم السلطتين التشريعية والتنفيذية، الاولى
يمارسها مجلس للنواب ينتخب من الشعب والثانية يباشرها رئيس الدولة والحكومة .
المحكمة العليا هي اعلى محكمة منذ 1953 ومن أختصاصهاالفصل فى الطعون والدفوع المتعلقة بعدم دستوريةالقوانين واللوائح الصادرة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية،وان احكامها باتة بمعنى انها لا تقبل الطعن،ولو بالتماس اعادة النظر،والسبيل الوحيد للتخلص من أحكامها هو مخاصمة الهيئة التى أصدرت الحكم وهو طريق صعب لأنه يتطلب اثبات ان المحكمة أنكرت العدالة بر فضهاالاجابة على دعوى او طلب قدم أليها، أوارتكابها لخطأ مهني جسيم واذا نجحت دعوى المخاصمة يبطل الحكم وفقا لما نص عليه قانون المرافعات .
واخيرا ، ان صدور حكم ولو من أعلى محكمة لايمنع الفرقاء من الاتفاق على تسوية، لان الصلح يظل سيد الاحكام، مع استثناءالامور المتعلقة بالنظام العام كماهوشأن الاحكام بعقوبات جنائية سالبة للحرية .
- الحكم ،ايا كان التقييم الذى يعطى له،شكل صفعة لادارة المؤتمر وللجنته التشريعية،لان المحكمة أسست حكمها على ما اعتبرته خرقا للمادة 36من الاعلان الدستورى التى تتطلب لألغاء أو تعديل أي حكم فيه اغلبية
ثلثي أعضاء المؤتمروالمادة 73من النظام الداخلى للمؤتمر التى تنص( يعتبر فى حكم الممتنع عن التصويت كل من يتخلف عن حضور الجلسة عند الشروع فى التصويت) . بناء على ذلك وجدت المحكمة ان الاغلبية اللازمة للتعديل لم تتوافر:( وحيث أنه بالرجوع الى مدونات محضر الاجتماع السادس والسبعين بعد المائة للمؤتمر الوطنى العام المنعقد يوم الثلاثاء 11مارس2014، يبين ان التصويت على البند المتعلق بالعمل بمقترح لجنة فبراير، نال عندالشروع فى التصويت(121) صوتا برفع الايدى، ) وأضافت( ثم انتقل أعضاء المؤتمر الى بند آخر، وبعدها ذكر رئيس المؤتمر" ان هناك ثلاثةأعضاء التحقوا بنا الآن يريدون التصويت إضافة الى121" واعلن ان نتيجة التصويت (124) صوتا ، وطلب من اللجنة التشريعيةأصدار قرار بأجراء التعديل الدستورى).
هذه الحيثية تبرهن على ما ألمحنا اليه من ضعف فى الخبرة لدى ادارة المؤتمر ولجنته التشريعية، اللهم الا ان كان وراء ماثبت فى المحضر هدفا آخر لمثل الموقف الذى قاد الى تقديم الطعن! ولكن هل استخلاص المحكمة الموقرة كان فى محله ؟ اعتمدت المحكمة على التفسير الميكانيكى( الحرفى) فى تبرير النتيجة(عدم توافر الاغلبية المطلوبة للتعديل) ً،كما يمكن لأي قاض جزئ ان يفعل بدون تأمل! ومثل هذا التفسير لا يستقيم مع المرحلة التى يصدر فيها الحكم، وهي مرحلة انتقالية ذات خصوصية واضحة . والنص المقتبس من محضر إجتماع المؤتمر كان يمكن للمحكمة العليا الموقرةان تستخلص منه أن الاغلبية المطلوبة للتعديل قد تحققت حيث تم تقرير ذلك من رئيس المؤتمر ،وتأكد بأعطاء الامر للجنة التشريعية بإصدار قرار التعديل،والتقيد بحرفية نص ورد فى النظام الداخلى للمؤتمر،فى ظرف يؤدى الى حرمان البلاد من جسم شرعى منتخب وجر البلاد الى فراغ مؤسسى أو تقسيم للبلاد ، يتعارض مع قاعدة اسمى وهي ان الوحدة الوطنية خط احمر! لذلك كنا نفضل فى هذه الظروف تبنى التفسير الذي يعتد بالغاية او الحكمة التى وضع من أجلها النص،وهي الرغبة فى الوصول الى الاغلبية الموصوفة فى ذات الجلسة وهو ما تحقق ،وليس أدل على ذلك من عدم تسجيل أي اعتراض على طلب اجراء التعديل لتحقق اغلبية 124عضوأ .أليست العبرة بالمقاصد والمعانى وليس بالالفاظ والمبانى؟، وان دفع الضرر العام مقدم على الضرر الخاص ! ولا محل للقياس هنا على حكم السيد معيتيق، لان المؤتمر حينهالم يكن محل طعن وذهاب حكومةمشكلة لن يخلق فراغا.
-فى رد المحكمة للدفع الذى قدمته ادارة القضايا والمبنى على عدم اختصاص الدائرة الدستورية تأسيسا على ان ( مناط الرقابة هو مدى التزام القانون محل الطعن احكام الدستور،ولا تمتد الى رقابة النصوص الدستورية ذاتها) ، قالت المحكمة (ولو قيل بغير ذلك ، -اي عدم الاختصاص-، لكان للسلطة التشريعية ان تتحلل من القيود الواردة فى الدستور بشأن اجراءات التعديل ، وهو اطلاق لسلطتها وفتح لباب مخالفة النصوص الدستورية، وهو ما لا يستقيم قانونا) . هذا الرد لايبدو مقنعا؛ من جهة،اختصاص الدائرة الدستورية ليس هو الاصل،لان الولاية القضائية هي للمحاكم وفقا لقانون نظام القضاء، وتكييف الدعوى محل الطعن على أنها دعوى بطلان تعديل دستورى يجعلها من أختصاص المحكمة الابتدائية ،و هي كما هو معلوم المحكمة ذات الولاية العامة فى نظامنا القضائ .ومن جهة ثانية، فإن توسيع نطاق رقابتها ليشمل القواعد الدستورية يخالف صحيح القانون، ذلك لأن المادة 23من قانون المحكمة العليا معدلة بالقانون 17/1993 تنص:( تختص المحكمة العليا دون غيرها منعقدة بدوائرها المجتمعة برئاسة رئيسهااو من يقوم مقامه بالفصل فى المسائل الاتية:
اولا الطعون التى يرفعها كل ذى مصلحة شخصية مباشرة فى أي تشريع يكون مخالفا للدستور
ثانيا أية مسألةقانونية جوهريةتتعلق بالدستورأو بتفسيره تثارفى أي قضية منظورةامام أية محكمة )
فهذا النص من الوضوح بحيث لا يحتاج الى أي تعليق والمحكمة طبقته وأكدت حكمه فى قضية الطعن رقم 42 والذى فصلت فيه بتاريخ 52/10/1998 وكان الاولى ان تلتزم الدائرة الدستورية بنطاق اختصاصها كما رسمه المشرع احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، ولعل المحكمة الدستورية العليا فى مصر كانت اكثر توفيقا عندما قررت فى قضية: الطعن رقم76/29ق، فى1/10/2007:( وحيث ان طلب الحكم بعدم دستورية التعديلات الدستورية، أو التصدى لذلك ،فى غير محله،ذلك أنه بالاضافة الى مجاوزته نطاق حكم الاحالة، فإن الدستور على ما استقر عليه قضاء هذه المحكمة- لا يندرج فى مفهوم القوانين التى تباشر المحكمة الدستوريةالعليا الرقابة عليها) .
هذا التعليل كان يكفى لقبول الطعن شكلا والحكم بعدم اختصاص الدائرة الدستورية والحفاظ على سلامة تطبيق القانون ووحدة البلاد المهددة أكثر من أي وقت مضى وسبق لنا فى بحث سابق نشر فى أول عدد من مجلة معهد القضاء ان نبهنا الى ان سلطة المحكمة فى وضع المبادئ مقيدة بأحترام نصوص القانون أيا كانت مرتبته !
- ان ما ورد فى منطوق الحكم من من إلغاءكافة الآثار المترتبة على اعتماد مقترح لجنة فبراير دون تحديد يزيد من حظوظ هذا الحكم فى عدم التوفيق، لان هناك من فهمه فى دلالته المطلقة ( الغاء مجلس النواب والحكومة التى شكلها وما صدر عنهما من قرارات وبأثر رجعى ) وهو فهم متسرع وعاطفى لتجاهله بعض الحقائق الواقعية، منها: من ناحية ان انتخابات شفافة ونزيهة قد تمت بعد اجراء ذلك التعديل ،أى ان الشعب الذى هو مصدر السلطات،ومنها السلطة القضائية ، قال كلمته فى أختيار بديل للجسم الشرعى الذى كان قائما، اى المؤتمر،والذى انتهت ولايته وفق ما ساد فى ذلك الوقت وبموافقة المؤتمر نفسه الذى اصدر قانون الانتخاب وتم اعلان نتائج الانتخاب بشكل نهائ واعتراف المجتمع الدولى بذلك! ومن ناحية أخرى، ان المألوف ان الاحكام بعدم الدستورية لا تكون بأثر رجعى، اذ لا نص يسمح بالرجعية،وعليه من غير الممكن تجاهل الآثار التى ترتبت على أعمال الجهات المشار اليها وفقآلنظرية الاعمال الظاهرة .واخيرآان تبنى التفسير المطلق للمنطوق معناه الفراغ المؤسساتى، وهي نتيجة لانعتقد ان المحكمة قصدتها وأن العقل يرفضها لانعكاساتها السلبية على الوطن الجريح!!
بناء على ذلك، وطالما ان الحكم لم يحكم بعدم دستورية قانون الا نتخابات فإن من مصلحة الجميع الجلوس الى طاولة الحوار لتفادى المحظور،أي قسمة الوطن أوالانزلاق الى حرب أهلية شاملة يفرح بها اعداء ليبيا ويدفعون نحوها، واعتقد ان مبادرة انقاذ ليبيا التى كنت طرفا فيها يمكن ان تكون الجسر الذي يعيد اللحمة الوطنية ويحقن الدماء الزكية، ولنعتبر ان الحكم هوتأكيد لمقولة ان القضايا الكبرى لا تحل الا بطريق الحوار !!

وبعد
ان القراءة السريعة للحكم الذى تحصلت عليه مساء أمس،اعادتنى الى ما يزيد على ثلا ثين سنة مضت عندما غسلت المحكمة العليا يديها من رقابة دستورية القوانين وكتبت فى ذلك الوقت تعليقا ضد ما انتهت اليه محكمتنا وهذا امر طبيعى ، ولولا الاختلاف فى الرأي وفى النظرة الى الاشياء ،لفقدت الحياة معناها والله عز وجل سمح لإبليس بأن يعبر عن سر عدم امتثاله للأمر الالهى بالسجود لآدم،فيكون من حقنا على من يمسكون بزمام الأمر فى البلاد أن نفعل، خاصة وأن الاعلان الدستورى كفل للجميع الحق فى حرية التعبير وهو ما قررته الشريعة فى نصوص كثيرة والله من وراء القصد ،عليه نتوكل وبه نستعين .