في مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان، اعتاد المواطنون علي تمضية أوقات فراغهم في مجالس الأنس النهارية عند محلات بيع الشاي تحت الأشجار، لاسيما في الأسواق الكبيرة والمناطق التجارية داخل الأحياء السكنية.
ولا يتوقف الأمر عند الرجال فقط ولكن أيضا تجد نساء يجلسن وهن محاطات بجمع غفير من مختلف الفئات والقبائل والأعمار، يرتشفون الشاي والقهوة ويتحدثون في الشأن العام بالبلاد، فجوبا تفتقر للمنتديات السياسية والثقافية الفكرية، فاتخذ الناس من محلات وأشجار بيع الشاي ملاذا لهم ينقذهم من قيظ النهارات الساخنة، ويجمعهم بأصدقائهم ومعارفهم وزملاء دراستهم السابقين.
في سوق جوبا، توجد العديد من أشجار بيع الشاي التي اكتسبت سمعة وشهرة كبيرة، منها شجرة “منقار” ، وهي كلمة مرادفة للفقر في لغة الدينكا (لغات نيلية صحراوية)، وهو تعبير احتجاجي يعني أن الذين يجلسون تحت تلك الشجرة هم من الشباب حملة الشهادات الجامعية الذين فشلوا في الحصول علي عمل أو وظيفة.
وبحسب مراسل الأناضول، فقد بدأ الشباب يجتمعون تحتها منذ عام 2005 أي بعيد توقيع اتفاقية السلام الشامل بين الحركة الشعبية في جنوب السودان وحزب المؤتمر الوطني الحاكم في جمهورية السودان، حيث تجمع الاصدقاء وزملاء الدراسة القدامي الذين فرقتهم الحرب منهم من عاد من دول المهجر في أوروبا، ومنهم من عاد من دولة السودان وهم الغالبية العظمي، جاءوا بحثا عن حياة جديدة وعمل يحقق طموحاتهم المستقبلية.
وبجانب “منقار” هناك عديد من أشجار وأماكن شرب الشاي التي تحولت إلي منتديات مفتوحة في مدينة جوبا وبقية مدن جنوب السودان.
وتحولت أشجار بيع الشاي إلي أماكن للجدل والنقاش في قضايا السياسة والاقتصاد والمجتمع، وصارت منتديات لها روادها ومتابعيها خاصة في ساعات النهار، وخلقت بذلك علاقات تواصل جديدة بين مختلف التيارات السياسية وأصبحت تساهم بصورة كبيرة في تشكيل الرأي العام وسط فئة الشباب.
ورغم اختلاف انتماءاتهم بين مؤيد ومعارض للحكومة، إلا أنهم يديرون نقاشات في شتي القضايا والمشكلات التي تواجه جنوب السودان، وفي كثير من الأحيان تتطرق خطابات القادة السياسيين، وبالأخص رئيس الجمهورية سلفاكير ميارديت الذي غالبا ما يستشهد في خطاباته الجماهيرية بما يقال تحت الاشجار في سوق جوبا، وبعبارة معتادة دائما ما يرددها قائلا :”ماتسمعوا الكلام البقولو (الذي يقال) تحت الاشجار في سوق جوبا”.
بيتر شان موظف وأحد رواد منبر الشجرة قال للأناضول “أطلقنا على مكان تجمعنا تحت شجرة الشاي اسم منبر الشجرة لأننا وبينما نقضي اليوم كله هنا، نتناقش في أهم الاخبار والموضوعات التي تتناولتها الصحف بشكل منظم، نجلس في دائرة ونوزيع الفرص على الحضور، فهناك العاطل وصاحب العمل التجاري والموظف، نحترم وجهات نظر الجميع، وبنهاية اليوم نجمع النقود ونعطيها لسوزي صاحبة محل الشاي دون أن نعدها”.
ويذهب جون فولينو طالب بجامعة جوبا وأحد مرتادي أماكن الشاي بشارع حي الثورة الشهير بجوار جامعة جوبا ، إلى أنه لا يستطيع أن يلتقي بمجموعة الاصدقاء الا في مكان “انديرا” التي تبيع الشاي ، فهو في موقع جميل وقرب موقف المواصلات العامة، وهناك يتداولون أهم القضايا التي تدور في جوبا وجنوب السودان عامة ، ويزيد بالقول :”هذا هو المكان الوحيد الذي نتحدث فيه في القضايا العامة ونتواصل اجتماعيا كذلك”.
وما بين الدافع الاقتصادي وغياب المنابر أصبحت أماكن بيع الشاي الملاذ الوحيد والمجتمع الجديد بالنسبة للصحفيين والناشطين في المجتمع المدني والباحثين عن الوظيفة.
وقال كندي نيمايا، صحفي ومحلل سياسي بصحيفة الرأي العربية الصادرة بجوبا، إن ظهور منتديات الأشجار في جوبا جاء نتيجة لغياب الأندية الاجتماعية وتكاثر هموم الشباب والعامة في معرفة مجريات الواقع في البلاد خاصة بعد تفجر الأوضاع في ديسمبر/ كانون الأول الماضي.
وأضاف نيمايا في حديث لوكالة الاناضول: “أشجار الشاي أصبحت مجالس للسياسة، فدور الأحزاب تفتقد للمنابر الاجتماعية، المجتمع الجنوب سوداني الكل فيه يتناول السياسية، وقد تزيد درجة تناولها مع اشتداد الصراع على السلطة بين الساسة والواقع ليس ببعيد، فغياب المنابر من ندوات وتنوير من قبل الأحزاب جعل الجميع يجتهد في قراءة مجريات السياسة في البلد”.
ما يميز أيضا أشجار بيع الشاي أن معظم العاملين فيها من النساء اللاتي أجبرن على ذلك نظرا لضيق الأحوال المعيشية، خاصة بين العائدات بأسرهن من الخرطوم بعد انفصال جنوب السودان في يوليو/ تموز 2011، واللائي لم يجد أزواجهن فرص للعمل في الواقع الجديد.
وقالت ميري جيمس، بائعة شاي بسوق جوبا، لمراسل الأناضول: “بدأت أعمل في هذا المكان منذ ثلاث سنوات، لأنني أعول أسرتي بعد حضوري من الخرطوم ، هذا المكان يعج بالنقاشات السياسية فصار أقرب إلي كونه برلمان بحسب كلام رواد المحل”.
ورأى ملوال دينق، صحفي بصحيفة الموقف (خاصة)، أن “محلات الشاي اكتسبت رواجا نسبة لأنها تمثل منتديات للالتقاء في ظل غياب الأندية العامة وأماكن التجمعات المفتوحة من الحدائق وغيرها، خاصة وأن الفنادق ترتفع فيها الأسعار لذا لا يحبذها الكثيرون”