دفعت الفوضى التي عصفت بها منذ العام 2011،بليبيا إلى مقدمة الدول المصدرة للمهاجرين غير الشرعيين إلى دول أوروبا،وعلى مدى السنوات السبع الماضية،مثلت الشواطئ الليبية بوابة المهاجرين نحو أوروبا وخاصة الشواطئ الإيطالية التى تحملت العبئ الأكبر في إستقبال أكبر عدد من المهاجرين. وأصبحت أخبار الهجرة تحتل المراتب الأولى في المشهد السياسي والإعلامي الدولي.ولا يكاد يمر يوم دون سماع أخبار عن غرق العشرات في مياه المتوسط وإنقاذ عشرات آخرين.وفي الوقت الذي تتصاعد فيه المطالبات للبلدان الأصلية لتحسين أوضاعها الاقتصادية وتوفير ظروف أفضل لشبابها، تشدد الحكومات الأوروبية حراسة حدودها على حساب القيم الإنسانية والقوانين الدولية.

سابقة خطيرة

ففي واقعة غير مسبوقة،اتهم عدد من السياسيين الإيطاليين ومنظمات غير حكومية سفينة تجارية إيطالية بخرق القانون الدولي عبر نقل مهاجرين إلى ليبيا بعد إنقاذهم من الغرق في المياه الدولية.وقامت سفينة الإمداد "إسو فنتوتو" الإيطالية بانتشال 108 مهاجرين من على زورق مساء الاثنين بينما كانوا على بعد نحو ستين ميلا بحريا شمال غرب طرابلس، بحسب ما أفادت المواقع التي تتابع الحركة البحرية، ثم أرجعتهم إلى ليبياوقال البرلماني الإيطالي نيكولا فراتوياني، وهو نائب عن تنظيم "أحرار ومتساوون" اليساري الإيطالي، والموجود حالياً على متن سفينة تابعة لمنظمة "أوبن آرمز" الإسبانية غير الحكومية في المتوسط، "علمنا أن أحد القوارب، ويحمل على متنه 108 من المهاجرين، قد تم رصده مساء الإثنين على بعد ستين ميلاً بحرياً شمال غرب طرابلس من خفر السواحل الإيطالي الذي أوعز لسفينة "أسو 28" التجارية الإيطالية بانتشالهم".وأضاف "ثم قامت السفينة المذكورة بنقل المهاجرين إلى طرابلس"، حسب التلفزيون الحكومي الايطالي.

ولفت فراتوياني "ليست لدينا أدلة بعد عما إذا كانت إعادة المهاجرين إلى ليبيا قد تمت بأمر من خفر السواحل الإيطالي، وإذا كان الأمر كذلك فسنكون أمام سابقة بالغة الخطورة".وفي عام 2012، أدانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إيطاليا بعد أن قامت سفينة عسكرية إيطالية بإعادة المهاجرين إلى ليبيا في عام 2009. وقالت المفوضية العليا للاجئين تعليقا على ما حصل "إن ليبيا ليست ملجأ آمنا ويمكن أن يؤدي الأمر إلى خرق للقانون الدولي"، موضحة أيضا أنها لا تزال تجمع المعلومات حول هذه المسألة. من جانبها اعتبرت النائب الإيطالية اليسارية نيكولا فراتواني أن ما حصل عبارة عن "طرد جماعي". والنائب موجودة حاليا على متن سفينة تابعة لمنظمة إسبانية غير حكومية وتابعت الاتصالات اللاسلكية التي أجرتها سفينة الإمداد.فيما إعتبرت منظمة "سي ووتش" الألمانية غير الحكومية ما حصل "أول عملية طرد قامت بها سفينة إيطالية منذ سنوات". إلا أن وزير الداخلية ماتيو سالفيني زعيم الرابطة اليمينية المتطرفة رفض الانتقادات. وقال "خلال الساعات القليلة الماضية تمكن خفر السواحل الليبيون من إنقاذ 611 مهاجرا وإعادتهم إلى ليبيا".وتابع سالفيني "المنظمات غير الحكومية تحتج والمهربون يفقدون أعمالهم. حسنا سنواصل"، وأعاد التذكير بشعاره المعروف "المرافىء مغلقة والقلوب مفتوحة".

معاناة

وتشهد ليبيا تدفقا بأعداد هائلة للمهاجرين غير الشرعيين إلى أراضيها للتوجه عبر السواحل الليبية إلى أوروبا، وتعد ليبيا البوابة الرئيسة للمهاجرين الأفارقة الساعين للوصول إلى أوروبا بحرًا، وقد سلك أكثر من 150 ألف شخص هذا الطريق في الأعوام الثلاثة الماضية.وتسعى بعض الدول الأوروبية من بينها إيطاليا إلى إنشاء مخيمات للاجئين والمهاجرين في ليبيا، إلا أن الحكومة الإيطالية نفت ذلك. ويعاني المهاجرون الأفارقة من تجاوزات خطيرة تراوح بين الاعتقال والضرب والاستغلال، في حين أن 40% فقط من الذين طلبوا اللجوء في إيطاليا خلال السنوات القليلة الماضية حصلوا على موافقة. وقال روبرت فيكو رئيس مجلس النواب المنبثق من حركة خمس نجوم الشعبوية "إن ليبيا ليست بلدا آمنا ولا يمكننا ترك المهاجرين هناك.

ومن جهتها،اعتبرت المتحدثة باسم كتلة حزب اليسار في البرلمان الألماني ـ بوندستاغ ـ أولا يلبكه إعادة المهاجرين إلى ليبيا خرقا لمعاهدة منع التعذيب و"جريمة بحق أناس يبحثون عن حماية"، حسب تعبيرها. وتابعت يلبكه أن طرد اللاجئين يعني عودتهم إلى وضع مرعب بجحيم الحرب الأهلية في ليبيا، حسب ما جاء في تصريحاتها. ودخلت المنظمات الخيرية التي تساعد المهاجرين في مواجهة مع الحكومة الإيطالية الجديدة ووزير الداخلية اليميني ماتيو سالفيني الذي يريد خفض أعداد المهاجرين الذين يصلون إلى شواطئ إيطاليا دون مراعاة المخاطر التي يتعرضون لها. وفي يوليو الماضي،دعت منظمة أطباء بلا حدود، إلى عدم إعادة المهاجرين غير القانونيين الذين يتم إنقاذهم في المياه الدولية إلى ليبيا، مطالبة بنقلهم إلى ميناء آمن يتماشى مع القانون الدولي والبحري، حسب قولها.وقالت المنظمة في بيان لها، إن الحكومات الأوروبية تدرك تماما ما يتعرض له المهاجرون واللاجئون في ليبيا من عنف واستغلال، وتعمل على تدريب ودعم حرس السواحل الليبي لاعتراض المهاجرين وإعادتهم إلى ليبيا.

سياسة متشددة

وكان حرس الحدود الإيطاليون ينسقون في السنوات الماضية عمليات الإنقاذ، على أن ينقل المهاجرون عادة إلى الشواطىء الإيطالية. لكن ومنذ حزيران/يونيو الماضي تغيرت سياسة الحكومة الإيطالية،حيث أعلن وزير الداخلية الايطالي ماتيو سالفيني،الذي يتزعم حركة رابطة الشمال اليمينية،أن موانئ إيطاليا لن توفر بعد اليوم أنشطة إمداد لسفن المنظمات غير الحكومية التي تنقذ مهاجرين عبر البحر. وحضيت السياسة الإيطالية الجديدة المتشددة التي ينتهجها رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي بشأن الهجرة،بإشادة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وذلك خلال لقائهما بالبيت الأبيض،الإثنين 30 يوليو 2018.حيث دعا ترامب   الدول الأوروبية الأخرى إلى تبني نهج مماثل. وقال ترامب "أوافق تماما على ما تفعله بشأن الهجرة والهجرة غير الشرعية، بل وحتى الهجرة الشرعية. لقد اتخذت إيطاليا موقفا صارما للغاية فيما يتعلق بالحدود، وهو موقف اتخذته قلة من الدول".مضيفا "الكثير من الدول الأخرى في أوروبا يجب أن تفعل ذلك أيضا". ويعتمد الرئيس الأميركي سياسة "عدم التهاون المطلق" على الحدود الأميركية، ولم يتردد في فصل مئات الأطفال عن أهاليهم بعد توقيفهم لعبورهم الحدود مع المكسيك في شكل غير قانوني.

مؤتمر بشأن ليبيا

من جهته، قال رئيس الوزراء الإيطالي كونتي إنه سينظم مؤتمرا لبحث سبل تحقيق الاستقرار في ليبيا التي تعد نقطة مغادرة رئيسية للمهاجرين الذين يحاولون الوصول إلى أوروبا من شمال أفريقيا. وقال كونتي للصحافيين في البيت الأبيض عقب اجتماعه مع ترامب "بالاتفاق مع الرئيس ترامب، أعتزم تنظيم مؤتمر بشأن ليبيا.. نود التعامل مع كل القضايا المتعلقة بالشعب الليبي ومناقشتها ويشمل ذلك كل الأطراف المعنية والفرقاء في منطقة البحر المتوسط بأسرها". وكان كونتي قد أعلن في 12 من الشهر الماضي عزم بلاده تنظيم مؤتمر دولي عن ليبيا، الخريف المقبل في روما، لمناقشة جملة من الملفات المتعلقة بالهجرة غير الشرعية والإصلاحات الاقتصادية والوضع السياسي.ويبدو أن المسؤول الإيطالي،قد حرص على الحصول على مباركة ترامب للاجتماع.

ويعتقد كونتي أن عقد مؤتمر في روما بدعم أميركي سيساعد إيطاليا في ترسيخ نفسها باعتبارها المحاور الرئيسي مع الأطراف المتحاربة في ليبيا.وقال بعد الاجتماع إن الرئيس الأمريكي وافق على أن إيطاليا ستصبح "مرجعا في أوروبا والمحاور الرئيسي بخصوص القضايا الأساسية التي ينبغي التصدي لها... فيما يتعلق بليبيا بشكل خاص". ويرى مراقبون،أن هذه المساعي الإيطالية الحثيثة للإستعانة بواشنطن في الملف الليبي، الهدف منه تقويض الجهود الفرنسية هناك،حيث تصطدم الطموحات الفرنسية بنظيرتها الإيطالية،والتي تسعى إلى إحكام السيطرة على هذا البلد العربي الغني بالنفط وتدعيم مصالحها وإستثماراتها فيه. وسبق أن اعترضت روما على الجهود الفرنسية الرامية لعقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا نهاية العام الحاليّ قبل عقد مصالحة وطنية في البلاد.وتشير إيطاليا إلى أن الوضع الأمني وغياب المؤسسات يقفان عائقًا أمام إجراء انتخابات نهاية هذه السنة، فضلًا عن عدم المصادقة على مشروع الدستور إلى الآن.