منذ العام 1969 لم يعد يوم الفاتح من سبتمبر عاديّا في ليبيا. قد تختلف التقييمات والمواقف حوله، لكنه في كل الحالات بقي حدثا خاصّا عند الليبيين وغيرهم ممن آمن بتلك اللحظة ومشروعها. غيّر ذلك اليوم المشهد السياسي الليبي تغييرا شاملا، من خلال ثورة قادها العقيد الليبي الراحل معمر القذافي وعدد من رفاقه ضد النظام الملكي بكل ارتباطاته الماضوية والاستعمارية. وعلى الرغم من رحيل نظام العقيد، لكنه بقي منذ ثماني سنوات مثار حديث الليبيين، بل حتى واحتفالاتهم رغم التحولات التي حصلت في البلاد، على اعتبار أن قطاعا كبيرا من الليبيين مازالوا يرون في ثورة الفاتح من سبتمبر تعبيرة عن أهوائهم السياسية الرافضة لكل المسارات التي جاءت بها "فبراير".

في مقال بموقع سبوتنيك الروسي يوم 1 سبتمبر  الماضي، فرضت الذكرى نفسها، من خلال العودة إلى مواقف عدد من الشخصيات والأحداث التي كانت راسخة في فترة حكم العقيد الليبي الراحل. المقال كان بعنوان "50 عاما على "ثورة الفاتح"... القذافي يعود إلى شوارع ليبيا"، والعودة هنا رمزية مرتبطة بوجدان الليبيين. فالمتابع للاحداث في البلاد رغم الانشغال بالحرب الدائرة في طرابلس أو المشاكل في الجنوب، ستلفت نظره الاحتفالات بالذكرى سواء من شخصيات ليبية وعربية سواء في مناطق عديدة من البلاد.

عائلة القذافي بما تمثله من قيمة اعتبارية عند الليبيين، وبما هي "وريث" للعقيد، علقت مبكرا على الذكرى وقبل أيام من إحيائها، قائلة إنها حدث تاريخي كبير ينتظره الليبيون، معتبرة أن الثورة معانيها راسخة و"نبراساً للأوفياء والشرفاء"، الموكول لهم تحرير البلاد من "نجس فبراير البغيضة". وأضافت العائلة في مرحلة لاحقة إن الشعب الليبي "يحق له أن يفتخر بقيادته التاريخية التي جسدت المعني الوحيد و الحقيقي للكرامة، وحققت للوطن سيادته وجعلت من ليبيا رقماً صعباً في المعادلة السياسية الدولية". كما دعت عائلة القذافي ليلة الفاتح من سبتمبر كل الليبيين، للخروج إلى الشوارع رافعين الراية الخضراء "التي لا قيمة للحياة بدونها".

وأكدت العائلة يوم الفاتح من سبتمبر أنها ترفع تقديرها لشجاعة كل الليبيين الذين احتفلوا وتحدوا محاولات المجموعات المسلحة منعهم من ذلك، معتبرة أن الحدث أثبت أن "فبراير" لا مستقبل لها على الأرض الليبيية.

المؤتمر الشعبي للمهجرين الليبيين في مصر اختار الاحتفال بالذكرى في القاهرة تعبيرا منه عن الوفاء لتاريخ ليبي راسخ. وقال المشاركون في المؤتمر الشعبي للمهجرين الليبيين بمصر في بيان له عقب الاحتفال بذكرى ثورة الفاتح "نحي في هذا اليوم الذكري الخمسين لثورة الفاتح بقيادة القائد الشهيد معمر القذافي ورفاقه الضباط الوحدويين الأحرار الذين حرروا ليبيا وأرجعوها لحضن ودور الأمة العربية واستعادة سلطة الشعب وقاموا بما أمكنهم من تغيير معطيات الحياة في ظل تلك المعطيات والتحديات  نحو ظروف أفضل ومستقبل صاعد".

كما ذكرت جبهة النضال الوطني الليبية، التي حضرت الاحتفال أنه جاء "تحت شعار عقود زاخرة بالعطاء و التحديات"، ناشرة صورا للاحتفال الذي حضره طيف كبير من مختلف الفئات الاجتماعية، حيث أشارت الحركة إلى أنه كان أيضا بحضور بعض القوى القوميّة العربية.

المدن الليبية لم تكن بدورها بعيدة عن الاحتفالات، حيث شهدت مدينة بني وليد احتفالات كبيرة من خلال تجمع العديد من الشباب في الساحات رافعين أعلاما خضراء وصورا للعقيد الراحل معمّر القذافي، وعددا من القيادات السابقة، إضافة إلى صور من قتلوا دفاعا عن وطنهم خلال هجمات الناتو في أحداث فبراير 2011.

مدينة بني وليد ليست لوحدها التي احتفلت بـ"الفاتح"، حيث شهدت مدن سبها وغات وسرت والكفرة وغيرها، تجمعات وعروض مختلفة، تبين المئات من الليبيين منذ مساء 31 من أغسطس، وهم منتشرون في الساحات والفضاءات العامّة، في صورة مختلفة عن السنوات السابقة، حيث يعتبر كثيرون أن هناك تساهلا مع المحتفلين خاصة في المنطقة الغربيّة، كنوع من الاقتناع أن منع الناس بالقوّة من التعبير عن أرائهم بكل حريّة لا يمكن أن يعطي النتيجة التي يريدونها أنصار فبراير، ولا يقدّم بليبيا نحو منح جميع الليبيين حقوقهم السياسية.

وفي مقابل المسترجعين لذكرى "الفاتح من سبتمبر"، هناك أطراف مازالت على موقفها الأول على كل ما له علاقة بليبيا قبل 2011، حيث خرجت أصوات ناقدة للاحتفالات، وكان أغلبها من أنصار الإسلام السياسي، الذين كان لهم دور في إسقاط نظام العقيد الليبي من خلال التعاون مع بعض القوى الإقليميّة والدولية. كانت كل ردود فعل تلك الأطراف على احتفالات الليبيين متنقدة، بل ساخرة، على اعتبار أن من احتفلوا مازالوا متعلّقين بالماضي الذي يرون أنه لن يعود.

من بين المنتقدين أيضا للاحتفالات بذكرى الفاتح، نجد أحد الليبيين الذي نقلت عنه صحيفة الشرق الأوسط اللندنيّة، حيث يقول موسى هارون ساخرا من فترة حكم العقيد الليبي، أن «التجهيزات على قدم وساق للاحتفال بعيد الأعياد لثورة الفاتح العظيم»، و«بهذه المناسبة ونظراً للاحتفالات الضخمة سيتم إغلاق مصنع تطوير محركات الطائرات ومركز أبحاث الفضاء، مع الإبقاء على عمل محطة القطارات الرابطة بين شمال ليبيا وجنوبها»! وانتهى قائلاً: «مدينة غات التي تركها القذافي فقيرة، ولم يحدث فيها أي تطور، أو ينشئ بها كوبري واحدا، تجهّز للاحتفال بالثورة».

كما أضافت الصحيفة اللندنية في إطار تناولها للذكرى الخمسين لثورة الفاتح نقلا عن المواطنة الليبية منى التركي، التي تنتقد الاحتفالات لدى كل من أنصار "سبتمبر" و"فبراير" قائلة، «لا وجود إلاّ لوطن اسمه ليبيا»، مطالبة بـ«الارتقاء من أجله». وكررت جملة يتداولها بعض الليبيين الرافضين لـ«الثورتين»: «الفاتح ليست بعظيمة ولن تعود، وفبراير ليست بمجيدة ولن تسود»..

الجهادي الليبي السابق نعمان بن عثمان، المقرّب حاليا من حكومة الوفاق وجماعة الإخوان المسلمين، بدوره لم يترك الفرصة تمر لانتقاد المحتفلين "بالفاتح"، من خلال عدد من التدوينات في موقعه على تويتر، الذي ينشط عليه كثيرا في إطار الحرب الدائرة في طرابلس معلنا عن عدائه الصريح في حربه الأخيرة على طرابلس.

ورغم أن بن عثمان معروف بعدم استقراره على موقف، حيث يتحوّل حسب الظروف التي يتواجد بها، لكن انتقاده لثورة الفاتح، قوبل على موقعه بانتقادات كبيرة من قبل مئات المتابعين، الذي رأوا أن التحولات التي شهدتها البلاد بعد 2011، أكدت أن فترة حكم العقيد معمّر القذافي كانت أفضل بكير لليبيين في مستوى أمنهم واقتصادهم.

قد لا تكون ثورة العقيد الليبي محلّ إجماع بين الليبيين، وهي بالتأكيد ليست محل إجماع، لكن الثابت أنها باقية في وجدان الكثيرين منهم، حيث رأوا فيها لحظة لاستعادة الكرامة، ولحظة لوضع ليبيا في مسار مقاوم للغطرسة الغربية، وتاريخا يخلّد مواقف شجاعة اتخذها القذافي في وجه أعتى القوى الدّولية. لكن بعد 50 عاما، ورغم الحنين إلى تلك اللحظات من قبل البعض، هل حانت ساعة مراجعة الذات بعدم البقاء في محبس ذلك التاريخ، والتفكير في ليبيا جديدة تستعيد كاريزما القذافي لكن بعناصر جديدة حاملة لمشروع نهضوي حقيقي ينهي الحالة التي عليها البلاد بعد 8 سنوات من الاقتتال.