كانت مدينة ( بنغازى ) كغيرها من المدن الليبية تنام وتصحى على حكايات الخرافات والأساطير والغيبات .. وكانت تعج بكثير من الأضرحة المرابطية وكانت الكثير من الجماعات لا تنفك عن زيارة هذه الأضرحة لقضاء حاجات تراودهم فى حياتهم .. وكان فى كل حى تقام أضرحة لما يسمى أولياء الله الصالحين .. سيدى (سالم ) وسيدى ( حسين ) وسيدى ( اخريبيش ) وسيدى ( الشريف ) وهكذا .. كل أضرحتهم تتوسد وسط المدينة ..
وكان من بين هذه الأضرحة ضريح سيدى ( الشريف ) الذى كان قريبا من منزلنا الكائن فى المدينة .. كان قبر ذلك المرابط ينام فى مقبرة صغيرة للموتى وسط المدينة كان الضريح قبلة لكل الزوار وكان محطة جاذبة لكثير من الناس وقد أقيمت سوقا حوله وايضا تراصى الكثير ممن يطلبون حاجة من مساعدة من الفقراء .. وكان القائم على شؤون الضريح رجلا يتلقى الهبات من الزائرين .. فقد كانت تنثر على سطح القبر الكثير من النقود كنذر للمرابط ..
وكانت تقدم القرابين اليه وفاءا بالنذر. وكانت من بين تلك الأساطير أن هذا الشيخ الميت يقوم من قبره ويفي بالوعد المطلوب .. وكان الناس يتوافدون على الشيخ عندما يواجهون مصاعب فى حياتهم يصعب عليهم حلها .. فهو الملجأ الممكن والقادر على حل مشاكل الناس .. كانوا يلجأون اليه حتى فى القضايا التى تنشب بينهم أنهم يفضلون اللجوء اليه بدلا من اللجوء للقاضي فى أي نزاع ناشب بينهم ..
فى احد الأيام اصطحبت مع والدتى التى كانت تزاور جدتي التي اصابتها لوثة نفسية على قبر ذلك المرابط لعله يقدم لها الشفاء الممكن .. كنت صغيرا وكنت اراقب ما يحدث حول ذلك القبر فكان الزوار ومعظمهم من النسوة يطلبن من الشيخ تلبية طلباتهن التى تتنوع من أنزال العقاب على أعدائهن .. أو تلبية مايدور فى خلدهن للحصول على رجل .. أو الأنتقام مما وقف فى طريقهن .. أو أمانهين ..
كانت أيقونات الحب ترسل ترانيمها فى افواه الناس من بين هذه الترانيم العشقية : ( ياسيدى .. انكنك جارى تعمى لى عيون الحسادى ) .. كانت جدتى قد استعصى علاجها ولم تجد والدتى بدا الا للذهاب الى هذا الشيخ الذى كان ملجا للعلاجات كما يعتقد أنذاك الكثير من سكان الحى .. فهو القادر على شفائها .. وذكر لنا القائم على الضريح يجب أن تنام جدتى بجوار القبر طول الليل حتى الصباح لينهض الميت من قبره ويهبها الشفاء .. لم انم تلك الليلة لأن الوضع لا يساعد على النوم وكنت مرعوبا بحكاية قيامة الميت كما تذكر الحكايات المسيحية فى قيامة السيد المسيح ..
كنت متوسدا أحد القبور وانا أراقب القمر وهو يسكب ضوءه على قبور الموتى فى حزن شديد وكأنه يقول لى : أبتعد عن هذا المشهد .. وغلبنى النعاس ونمت حتى الصباح وهرولت مسرعا لوالدتى متسائلا حول قيامة الميت فأجابتنى بالنفى .. فجدتى ظلت كما كانت على حالتها ولم تحظ بالزيارة حتى تنال الشفاء .. لقد ذكرت لوالدتى أن هذه خرافة لاجدوى منها وقفلنا راجعين الى بيتنا ولم تعاود والدتى الزيارة مرة ثانية .. فى أحد الأيام أزيلت تلك المقبرة وايضا ذلك المرابط المزعوم وليجدوا رفات ذلك المرابط لا وجود لجثة .. كان قبرا زائفا .